تلقى فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي سؤالا حول مدى صحة القول بتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان؟ فجاءت إجابة فضيلته على النحو الآتي:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
الفتوى التي تعتمد على العرف والعادة والزمان والمكان تتغير بتغير الزمان والمكان والأشخاص، ويقول العلامة ابن القيم:
"هذا فصل عظيم النفع جدا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة، وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها". انتهى كلام ابن القيم
وعند المالكية نجد الإمام القرافي في كتابه "الإحكام" يقول:
"إن استمرار الأحكام التي تدركها العوائد (جمع عادة ) مع تغير تلك العوائد، خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد، يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة، وليس هذا تجديدا للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد، بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد".
ونلاحظ هنا أن كلام القرافي في الأحكام التي مدركها ومستندها العوائد والأعراف، لا تلك التي مستندها النصوص المحكمات.
ويعود القرافي إلى هذا الموضوع مرة أخرى في الفرق الثامن والعشرين من كتابه "الفروق" فيؤكد أن القانون الواجب على أهل الفقه والفتوى مراعاته على طول الأيام، هو ملاحظة تغير الأعراف والعادات بتغير الأزمان والبلدان.
ويقول: "فمهما تجدد من العرف أعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك، لا تخبره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده، وأجره عليه، وأفته به، دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضيين".
أما عند الحنفية، فنجد مجموعة كبيرة من الأحكام الاجتهادية التي قال بها المتقدمون أعرض عنها المتأخرون، وأفتوا بما يخالفها لتغير العرف، نتيجة لفساد الزمن أو لتغير المجتمع، أو لغير ذلك.
ولا غرابة في هذا، فإن أئمة المذهب أنفسهم ـ أبا حنيفة وأصحابه ـ قد فعلوا ذلك.
ذكر السرخسي: أن الأمام أبا حنيفة في أول عهد الفرس بالإسلام، وصعوبة نطقهم بالعربية، رخص لغير المبتدع منهم أن يقرأ في الصلاة بما لا يقبل التأويل من القرآن باللغة الفارسية، فلما لانت ألسنتهم من ناحية، وانتشر الزيغ والابتداع، من ناحية أخرى، رجع عن هذا القول.
وذكر كذلك، أن أبا حنيفة كان يجيز القضاء بشهادة مستور الحال في عهده عهد تابعي التابعين، اكتفاء بالعدالة الظاهرة، وفي عهد صاحبيه ـ أبي يوسف ومحمد ـ منعا ذلك، لانتشار الكذب بين الناس.
ويقول علماء الحنفية في مثل هذا النوع من الخلاف بين الإمام وصاحبيه، هو اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان.
وقد أصبح من القواعد الفقهية الأساسية عند الحنفية وغيرهم قاعدة: "العادة محكمة" واستدلوا لها بقول ابن مسعود: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن".
وكتب في ذلك علامة المتأخرين من الحنفية ابن عابدين رسالته القيمة التي سماها "نشر العرف فيما بنى من الأحكام على العرف" بين فيها: أن كثيرا من المسائل الفقهية الاجتهادية كان يبنيها المجتهد على ما كان في عرف زمانه، بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أولا قال: ولهذا قالوا في شروط المجتهد لابد فيه من معرفة عادات الناس.
قال: فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان، لتغير عرف أهله، ولحدوث ضرورة، أو فساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه، للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير، ودفع الضرر والفساد، لبقاء العالم على أتم نظام، وأحسن إحكام.
ولهذا نرى مشايخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد "يعني إمام المذهب" في مواضع كثيرة، بناها على ما كان في زمنه، لعلمهم أنه لو كان في عهدهم لقال بما قالوا به، أخذا من قواعد مذهبه".
إن حاجات الناس تتطور، ومصالحها تتغير من وقت لآخر، ومن حال لأخرى؛ وهذا ما جعل كثيرا من أهل العلم يقرون أشياء كانوا ينكرونها ـ أو أكثرهم ـ منذ سنوات غير بعيدة، نزولا على حكم الضرورة، واستجابة لنداء الواقع، وتطبيقا لروح الشريعة، التي أراد الله بها اليسر، ولم يرد بها العسر.
فمنذ سنين قام جدال طويل حول مقام إبراهيم ونقله من مكانه في المسجد الحرام، حيث كان يعوق الطائفين في أيام الموسم، وهل يسوغ نقله إلى حيث لا يؤذي الطائفين ولا يضايقهم؟ أم وضعه في مكانه ـ حيث كان وكما كان ـ أمر تعبدي لا يجوز التفكير في غيره؟
وكتبت بحوث ومقالات، وألفت رسائل وكتيبات، حول الموضوع، ما بين أخذ ورد، وجذب وشد، وتجويز ومنع.
وكان صوت المانعين، من أي تغيير فيه، أو مساس به ـ أول الأمر ـ أجهر وأقوى، حتى قضت الأوضاع العملية، والضرورات الواقعية، بانتصار الرأي المعتدل، الذي صدر عن "المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي" ونصه كما يلي:
"تفاديا لخطر الزحام أيام موسم الحج، وحرصا على أرواح الحجاج، التي تذهب في الموسم، تحت أقدام الطائفين، الأمر الذي ينافي سماحة الشريعة الإسلامية، ولضرورة عدم تكليف النفس البشرية أكثر مما في وسعها.
قرر المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي في دورته السادسة القرار التالي:
فبناء على ما من الله به تعالى على حكومة هذه المملكة العربية السعودية من التوفيق لتوسعة الحرمين الشريفين توسعة لم يسبق لها مثيل، وبناء على ما أفاء الله على هذه البلاد المقدسة من الخير العظيم، والفضل العميم، وما يسره من توطيد الأمن في ربوع هذه الديار، وتيسير السبل لأداء فريضة الحج إلى بيته الحرام، فقد أصبح عدد من يؤم البيت الحرام لأداء هذه الفريضة أضعافا مضاعفة عما كان عليه في الماضي، حتى صار المسجد الحرام رغم هذه التوسعة العظيمة، يضيق بالوافدين إليه.
ومن المأمول أن يزداد عدد الحجاج في المستقبل عاما بعد عام إن شاء الله، وإن أشد ما يقع الزحام والضيق من بعد توسعة المطاف في الجزء من المطاف الذي يقع بين الحجر الأسود وبين مقام إبراهيم، فيحصل بذلك الزحام للطائفين على اختلاف أنواعهم من الحرج والمشقة ما الله تعالى به عليم.
كما يقع الخلل في هذه العبادة الشريفة، وهي الطواف، الذي هو أحد أركان الحج الذي لا يتم الحج إلا بها، لفقدان ما يطلب في هذه العبادة من الخشوع والخضوع، والتذلل لله تعالى وصدق التوجه إليه، حتى ينسى المرء ـ من شدة الزحام والمضايقة ـ أنه في عبادة، ولا يهتم إلا بتخليص نفسه ومن معه، وربما تجاوز الأمر إلى النزاع والخصام في مكان لا ينبغي فيه ذلك، بل لقد زاد الأمر، وأدى في بعض الحالات إلى إزهاق الأرواح من الضعفة والشيوخ دهما بالأرجل.
وقد ارتفعت الشكوى إلى الله تعالى، ثم إلى ولي الأمر من كل من شاهد بعيني رأسه هذه الأخطار العظيمة، والمضار الجسيمة، مطالبين وملحين بوجوب إيجاد حل سريع لهذه المشكلة.
وعلى ضوء هذه الحوادث البالغة الخطورة، والتي لا يجوز لأهل العلم وحملة الشريعة الإسلامية، السكوت عليها، ولا التغاضي عنها، قد طلب سماحة رئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، الشيخ محمد بن إبراهيم، من أصحاب الفضيلة أعضاء المجلس المذكور، بيان آرائهم فيها على هدى نصوص كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأحكام الشريعة السمحة، التي جاءت بالخير والرحمة ورفع الحرج عن الأمة الإسلامية، وبعد البحث والمذاكرة وتداول الرأي تقررت الموافقة بإجماع الآراء على ما يأتي:
1- بالنظر لما تدعو إليه الضرورة في أيام موسم الحج من توسعة المطاف في الجزء الذي بين الحجر الأسود ومقام إبراهيم، فإنه يجب على الفور، وحلا لهذه المشكلة العظيمة، إزالة جميع الزوايا الموجودة في هذا الجزء من المطاف ـ كالبناء ـ القائم على مقام إبراهيم عليه السلام وكالعقد المسمى بباب بني شيبة، لأن جميع هذه الزوائد لا تمت إلى مقام إبراهيم بأي صلة.
كما أن البناء الموجود حاليا فوق مقام إبراهيم، لم يكن موجودا في صدر الإسلام، إنما هو من المحدثات التي أحدثت فيما مضى، كما هو مدون في كتب التاريخ.
ومعظم الزحام، إنما ينشأ من وجود هذه الزوائد، التي لا ضرورة لبقائها، بل بإزالتها يزول عن الطائفين والقائمين والركع والسجود الكثير من الضيق والحرج والمشقة. وذلك عملا بمقتضى قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا}، وحديث: "يسروا ولا تعسروا" وغيره من الأحاديث الشريفة الواردة في هذا المعنى.
2- أن يجعل على مقام إبراهيم عليه السلام، بدلا من البناء الحالي بعد إزالته صندوق من البلور السميك القوي على قدر الحاجة فقط، ويكون مدورا بارتفاع مناسب، لئلا يتعثر به الطائفون.
وبذلك تحصل التوسعة لهذا الجزء من المطاف، ويزول كثير من الحرج والمشقة والضيق، كما يتسنى للكثير من العامة رؤية مقام إبراهيم من غير أن تصل أيديهم إليه، ومعرفة المقام على حقيقته، وأنه الحجر الذي كان يقوم عليه إبراهيم عند رفع القواعد من البيت، وينتفي ما تظنه العامة من أن بداخل البناء الموجود حاليا قبرا لإبراهيم عليه السلام.
3- وقد استجاب جلالة الملك فيصل لهذا الالتماس، وأصدر أمره الكريم إلى إدارة مشروع توسعة الحرمين الشريفين بإنفاذ هذا القرار.
والله أعلم