يسأل أبو الفداء من المغرب فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي عن جواز قيام المرأة بالعمليات الاستشهادية، وحكم مشاركة المرأة الفلسطينية في العمليات الاستشهادية، وقد يحتاج قيامها بهذا الدور أن تقطع الأميال مسافرة إلى مكان تنفيذ العملية، وقد يترتب على قيامها بهذا الأمر كشف لعورتها.
وأجاب فضيلة الشيخ قائلا:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..
فقد أجمع الفقهاء على أن العدو إذا دخل دارا من ديار المسلمين فإن الجهاد يكون فرض عين على الجميع فتخرج المرأة دون إذن زوجها والولد دون إذن أبيه، وعلى هذا فمشاركة المرأة في فلسطين في العمليات الاستشهادية – بعد أن اغتصب اليهود الأرض واستباحوا الحرمات ودنسوا المقدسات- قربة من أعظم القربات، وموت المرأة في هذه العمليات شهادة في سبيل الله ولها ثواب المجاهدين ـ إن شاء الله ـ
وقال فضيلته:
إن عمل هؤلاء الأخوات الاستشهاديات عمل مشروع، يباركه الدين ويؤيده، وهو من أعظم أنواع الجهاد في سبيل الله، لأنه يرعب أعداء الله ويغيظ الكفار. ففي الحديث الشريف: "إنما النساء شقائق الرجال".
وفي كتاب الله الكريم يقول الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} (التوبة:71) فدلت الآية على أن المؤمنات بجوار المؤمنين جنبا إلى جنب في الفرائض الدينية الاجتماعية العامة مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الفرائض الدينية الأخرى مثل الصلاة والزكاة وطاعة الله ورسوله، حتى يستحق الجميع رحمة الله تعالى.
ويقول تعالى تعقيبا على دعوات أولي الألباب من أهل الإيمان: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} (آل عمران:195).
فبينت هذه الآية الرائعة: أن الله لا يضيع أجر عامل عمل عملا فأحسن من الجنسين: ذكر أو أنثى، ثم قررت حقيقة في غاية الأهمية، وهي: أن الرجل والمرأة بعضهم من بعض. أي أن الرجل من المرأة، والمرأة من الرجل، هو يكملها، وهي تكمله لا يستغني عنها، ولا تستغني عنه، فهناك تكامل بينهما لا تعارض ولا تضاد.
ثم قررت الآية ألوانا من الأعمال يثيب الله عليها من الجنسين: من الهجرة واحتمال الأذى، والقتال والقتل في سبيل الله، {فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ…} وهذا يشمل كل من عمله من ذكر أو أنثى كما نصَّت الآية.
وفي صحيح البخاري "باب غزو النساء وقتالهن" وذكر فيه ما قامت به أمهات المؤمنين ونساء الصحابة من مباشرة القتال حينا، ومساعدة المقاتلين أحيانا، في غزوة أحد وغيرها من الغزوات. كما ذكر حديث أم حرام بنت ملحان، حين نام الرسول الكريم عندها، فرأى رؤيا سرته، وأخبرها بها، قال: رأيت أناسا من أمتي يغزون البحر ملوكا على الأسِرَّة، أو كالملوك على الأسِرَّة، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم! فقال: أنت منهم.
فانظر إلى طموح المرأة المسلمة إلى أن تركب البحر، وتكون مع الغزاة في سبيل الله، وتشجيع الرسول لهما.
وقد قرر الفقهاء: أن "جهاد الدفع"، أي جهاد المقاومة للغزاة : تشارك فيه المرأة مع الرجل جنبا إلى جنب، دون حاجة إلى إذن الرجل، بخلاف "جهاد الطلب" وهو الذي يكون الأعداء في ديارهم، ونحن الذين نغزوهم ونطلبهم من باب ما يسمونه اليوم "الحرب الوقائية". فهذا الجهاد لا تخرج المرأة فيه إلا بإذن زوجها إن كانت متزوجة، أو أبيها إن لم تكن متزوجة.
وجهاد الدفع جهاد واضطرار لا جهاد اختيار، إذا لا يسع الأمة أن تدع كافرا غازيا يحتل أرضها، ويذل أهلها، وهي ساكتة تتفرج. لهذا أجمع الفقهاء من جميع المذاهب والمدارس الإسلامية: أن الجهاد في هذه الحالة فرض عين على أهل البلد المغزو جميعا، وأن مقاومة الغازي بكل ما يقدرون عليه فريضة دينية، وأن الحقوق الفردية هنا تسقط أمام حق الجماعة في الذود عن كيانها، والدفاع عن حرماتها. لهذا قال الفقهاء: تخرج المرأة لدفع العدو بغير إذن زوجها، والولد بغير إذن أبيه، والخادم بغير إذن سيده، والمرؤوس بغير إذن رئيسه، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ومن هنا نرى أن المرأة في جهاد الدفع والمقاومة ـ أي حينا يكون الجهاد فرض عين ـ يجب أن تسهم مع الرجل بما تقدر عليه. فهي شقيقته في السراء والضراء، وفي السلم والحرب.
ولا جناح عليها أن تخلع خمارها في البرهة الأخيرة قبل العملية، تضليلا للأعداء، وحتى لا تلفت نظرهم إليها. فهذا من أحكام الضرورات التي رعتها الشريعة الإسلامية، لأنها شريعة تراعي الواقع، وتنزل على حكم الضرورة، ولا تحلق في أجواء الخيال {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (البقرة:173).
ومن القواعد المقررة: أن ما حرم لذاته يباح للضرورة، وما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة، التي ينزلها الفقهاء منزلة الضرورة.
وتحريم كشف الرأس، ونزع الخمار ونحوها هو من باب تحريم سد الذريعة إلى كبيرة الزنى، فهو الذي حرم لذاته. ولهذا أجاز الفقهاء كشف المرأة لعورتها للطبيب المداوي، لحاجتها إلى التداوي، ولو في الأمراض النسوية المعروفة.
فلا حرج إذن على المسلمة الاستشهادية إذا اضطرت لكشف حجابها، من أجل المهمة الكبيرة التي كلفت بأدائها.
ومن المقرر كذلك في فقه تعارض المصالح: أنه إذا تعارضت مصلحة ضرورية، ومصلحة حاجية أو تحسينية: قدمت المصلحة الضرورية. والدفاع عن الوطن وحرماته في مواجهة الأعداء الغزاة: من المصالح الضرورية ولا شك. في مقابلة مصلحة ستر رأس المرأة وهي مصلحة تحسينية، أو حتى حاجية على أقصى تقدير.
كما أنها مصلحة جزئية في مقابلة مصلحة كلية، ومصلحة فردية خاصة، في مقابلة مصلحة جماعية عامة.
أما قضية المَحْرَمْ، فنحن نقول إن المرأة تسافر إلى الحج مع نساء ثقات وبدون محرم، ما دام الطريق آمناً.. فلم تعد المرأة تسافر في البراري والصحاري بحيث إنه يُخشى عليها.. فهي تسافر في القطار أو الطائرة.
والله أعلم