السؤال: هل يجوز المساهمة في دية قاتل العمد الغارم من مال الزكاة؛ وكذلك المساهمة في دية قاتل الخطأ السكران، الذي لم تثبت توبته واستقامة حاله؟ جزاكم اله خيراً
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد...
فلا يجوز المساهمة من مال الزكاة في دفع دية القاتل العمد؛ لأنه في واقع الأمر يأخذ من المال المرصود للفقراء وأهل الحاجة ونحوهم، أما المساهمة في دية قاتل الخطأ من مال الزكاة، فهذه تحتاج إلى نظر وتأمل، لكنها تجوز على وجه العموم بضوابط معينة.
وإليك تفصيل ذلك في فتوى الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله:
أولاً: حكم المساهمة في دية قاتل العمد من صندوق الزكاة:
بالنسبة لقاتل العمد، فاني أؤيد الفتوى الصادرة من الهيئة العالمية لقضايا الزكاة المعاصرة في عدم جواز إعطاء (قاتل العمد) من زكاة المال، ليفدي نفسه من القصاص الواجب عليه لزومًا بإلزام الله تعالى. قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} (البقرة:178).
فالقصاص من القاتل المتعمد فريضة مكتوبة من الله تعالى، مثل الصيام الذي قال الله فيه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} (البقرة:183)، وقال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ..} (الإسراء:33).
فإذا أراد القاتل أن يفدي نفسه، ويفك رقبته من القتل الواجب عليه شرعا فإنما يكون ذلك من ماله الخاص، لا من مال الزكاة الذي جعله الله للفقراء والمساكين والعاملين عليها، ونحوهم من أهل الحاجة من المسلمين، أومن أهل المنفعة للمسلمين.
ومما يدل على ذلك: أن الإسلام إنما شرع المواساة في دية قتل الخطأ؛ لأنه قتل غير مقصود من صاحبه؛ ولذا ارتفع عنه الإثم. قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا} (النساء:92) وجاءت آيات في كتاب الله ترفع الإثم عن المخطئ والناسي والمكره، كما في قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة:286)، وقال عز وجل: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} الأحزاب:5)، وفي الحديث الشريف "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"وهو من أحاديث الأربعين النووية.
وشرع الإسلام أن تواسي العاقلة- أهل القاتل - القاتل في دفع دية قتل الخطأ، بل هي التي تتحمل هذه الدية كلها،كما ثبت ذلك بالسنة القولية والعملية. ولم يحمل الشرع الشريف العاقلة شيئًا في قتل العمد،كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لا تحمل العاقلة عمدًا ولا اعترافًا ولا صلحًا" ولا مخالف له من الصحابة، وعليه إجماع المذاهب.
فلو كان قتل العمد مما يواسَى فيه لكان أحق من يواسي فيه العاقلة؛ ولهذا أجمع أهل العلم على أن دية العمد تجب في مال القاتل، لا تحملها العاقلة، وهذا قضية الأصل، وهو أن بدل المتلَف يجب على المتلِف، وأرش الجناية على الجاني، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يجني جان إلا على نفسه".
ولأن موجب الجناية أثر فعل الجاني، فيجب أن يختص بضررها، كما يختص بنفقتها، فإنه لو كسب كان كسبه لنفسه دون غيره، وقد ثبت هذا في سائر الجنايات والإكساب، وإنما خولف هذا الأصل في قتل الحر المعذور فيه (يعني قتل الخطأ) لكثرة الواجب، وعجز الجاني في الغالب عن تحمله، مع وجوب الكفارة عليه، وقيام عذره؛ تخفيفًا عنه، ورفقًا به، والعامد لا عذر له، فلا يستحق التخفيف، ولا يوجد فيه هذا المعنى المقتضي للمواساة في الخطأ؛ ولهذا ذهب جمهور العلماء إلى أن دية العمد على القاتل في ماله حالَّة غير مؤجلة، على خلاف دية الخطأ، فهي على العاقلة، ومؤجلة أو مقسطة على ثلاث سنين.
وبهذا يتبين لنا أن "صندوق الزكاة" لا يجوز له أن يساهم في دفع دية القاتل العمد؛ لأنه في واقع الأمر يأخذ من المال المرصود للفقراء وأهل الحاجة ونحوهم، لفك رقبة قاتل متعمد عليه أن يتحمل مسؤولية نفسه.
ونحن نلاحظ أن فداء القاتل المتعمد من القصاص لا يكون - عادة - إلا في مقابله مبالغ كبيرة حتى يرضى أهل المقتول بالتنازل عن حقهم في شفاء صدورهم بالقصاص منه. وقد قرأنا في الصحف منذ وقت قريب أن أحد القاتلين في المملكة العربية السعودية طلب منه عدة ملايين من الريالات من أولياء القتيل.
فكيف نجيز أخذ هذا من مال الزكاة؟ إننا إذا أجزنا ذلك؛ فإنما نجيز اغتيال حقوق الفقراء علانية، وأخذ ما أوجب الله لهم في أموال الأغنياء لنعفي قاتلا متعمدًا من القصاص؛ هذا ما لا يشك فقيه ذو بصيرة في عدم جوازه وبالله التوفيق.
ثانياً: حكم المساهمة في دية قاتل الخطأ السكران من صندوق الزكاة:
أما المساهمة في دية قاتل الخطأ السكران، من مال الزكاة، فهذه تحتاج إلى نظر وتأمل. ذلك أن هذا القاتل لا يعدو كونه قاتلا خطأ، فالأصل أن تطبق عليه أحكام من قتل خطأ، وقد قال تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (النساء:92)، وجاءت السنة فبينت أن الدية في الخطأ على "العاقلة" وهم عصبة الإنسان وقرابته من جهة أبيه.
وقد شرعت السنة النبوية تحمل العاقل للدية لحكم عدة، منها:
1. تقوية التكافل بين الأقارب، بحيث يساند بعضهم بعضا في الملمات،كما قال تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (الأنفال:75).
2. تحقيق العدل فيما بينهم حتى يكون الغنم بالغرم، فالقريب قد يموت قريبه فيرث منه، فيغنم بذلك، فلا بأس أن يسهم مع قريبه في تحمل الدية فيغرم بذلك، والغرم بالغنم. وكل حق يقابله واجب.
3. تحميل كل قبيلة أو جماعة مسؤولية الرعاية والرقابة لأولادهم بالتضامن فيما بينهم، فلا يدعون لهم الحبل على الغارب، ليورطوهم كل حين في تحمل دية القتل، بل يتعاونون على حسن توجيههم وترشيدهم.
4. ألا يضيع دم المقتول هدرًا، إذا لم يكن القاتل قادرًا على دفع ديته، فبتحميل العاقلة ديته تضمن صيانة الدماء، وعدم إهدارها.
وإذا كان القاتل سكرانا، فالواجب أن يعاقب على سكره بما قرره الشرع من عقوبة تردعه. ولا تعاقبه عقوبة أخرى تضيع حق ورثة المقتول. وعلى القاضي الذي يحكم عليه أن يذكره بأن عليه ـ بعد دفع الدية ـ الكفارة التي نص عليها القرآن: {..وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (النساء:92).
إن معظم حوادث قتل الخطأ في عصرنا تقع بسبب السيارات، وهذه توجب الحكومة فيها التأمين جبرًا ولزومًا على صاحب كل سيارة أن يؤمن ضد الغير، فإذا وقع منه حادث خطأ تحملته شركة التأمين، فإذا خالف القوانين، وترك التأمين، ووقعت الحادثة كان ذنبه على جنبه، وعليه أن يتحمل تبعة خطئه وتفريطه، ولكن يبقى السؤال: إذا عجز عن دفع الدية لأهل القتيل، فهل بطل دمه ويضيع هدرًا، مع أنه من المقرر: ألا يبطل دم في الإسلام؟
هنا يمكن لبيت المال أن يتدخل، ويمكن لصندوق الزكاة أن يساعد إذا لم يكثر ذلك؛ حفاظًا على حقوق الفقراء.
والله أعلم.
- المصدر إسلام أون لاين