في هذه الآونة لاحظ المراقبون للتيارات الفكرية في مصر - وخصوصًا الدينية منها - بروز تيار «التكفير»، أعني: الذي يغلو ويتوسع في رمي المسلمين بتهمة الكفر والمروق من دين الإسلام، أو عدم الدخول فيه أصلًا، وهو أمر جديد لم يكن معروفًا بهذه الحدة في مصر من قبل.

وقد شغل تيار التكفير مصر مدة من الزمن، واستطاع أن يؤثر في مجموعة من الشباب الذي غلبت عاطفته على عقله، وكانت حماسته أكبر من فقهه. فأمسوا يكفرون الناس بالجملة، حتى كفروا آباءهم وأمهاتهم، وإخوانهم وأخواتهم، وكفروا علماء الدين من الوعّاظ والخطباء، وأئمة المساجد. بل كفر بعضهم المسلمين بعد القرن الرابع الهجري إلى اليوم!!

وقد ذكرت في كتابي: «الصحوة الإسلامية بين الجمود والتطرف»: كيف تسرب هذا الفكر إليهم. إنهم يقولون: إنهم أخذوه عن سيد قطب رحمه الله، وربما وجدوا في نصوصه في عدد من كتبه - وخصوصًا «الظلال» و«المعالم» - ما يؤيد وجهة نظرهم. ولكن الذي مهد لدخول هذا الفكر إلى رءوسهم، وقربه إلى عقولهم، هو: العذاب الذي قاسوه في السجن الحربي. ولم يكن هذا التيار بالضخامة التي تصورها أجهزة الإعلام الرسمية، ولكن يبدو أن لهذه الأجهزة هدفًا من وراء هذا التضخيم والتهويل؛ لعل ذلك لتضرب به التيارات الأخرى الأقدم وضعًا، والأطول عمرًا، والأرسخ قدمًا، والأوسع قاعدة، مثل تيار الإخوان المسلمين.

وقد عُني صديقنا الكاتب الإسلامي الكبير الأستاذ فهمي هويدي بفكرهم ومناقشته على صفحات الأهرام، حين كان مسئولًا عن الجانب الديني في الصحيفة، قبل أن ينتقل إلى مجلة «العربي» بالكويت.

وكان مما لاحظه: أن وزير الأوقاف علق على هؤلاء تعليقًا شديدًا يطالب بأخذه بقوة والضرب على أيديهم، فقد مرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية. على حين علق وزير الداخلية تعليقًا قال فيه: يجب أن نحاورهم ونردهم إلى الرشد والصواب. وقال الأستاذ فهمي: لقد قال وزير الداخلية ما كان يجب أن يقوله وزير الأوقاف!

ولعل هذا التصريح العنيف من وزير الأوقاف - أستاذنا الشيخ الفاضل الكريم الدكتور محمد حسين الذهبي رحمه الله - هو الذي وضعه عندهم في القائمة السوداء، ودبروا لاختطافه، وإن قالوا: إنهم لم يقتلوه! ترى: هل هم الذين خطفوه، ثم قتله غيرهم؟! لقد قال أحدهم - أظنه «ماهر عبد العزيز» وكان أذكاهم وأبلغهم - إننا لم نقتله، ولكني سعيد بقتله!

وخطورة هذا التيار في هذه المرحلة: أنه لم يعد يكتفي بالجانب النظري، بل طفق يتخذ طريق «التنظيم» والتجنيد للشباب المتحمس. ومن انضم إليه اجتهد أن يغسل دماغه من الأفكار التي يعتنقها جمهور المسلمين، فهي في نظره: أفكار خاطئة؛ بل ضالة، وإن قال بها علماء كبار؛ لأنها مخالفة لظاهر القرآن والسنة. وهنا تبدأ مرحلة «تثقيف» مركزة، تقوم على أصولها الخاصة، التي ترفض الآخر، كل الآخر، مسلمًا أم غير مسلم، وترفض فقه الآخرين كله، والتي تتمثل في التمسك بظواهر النصوص، وترك المحكمات، وسوء الظن بالناس جميعًا.

ثم بدأ الأمر يزداد خطرًا حين سلكوا «طريق العنف» فاستخدموه أوّلًا مع كل من سلك طريقهم، ثم رجع عنه حين اكتشف خطأه وضلاله، فهم يَعُدُّونه حينئذ مرتدًّا، يستحق أن يقام عليه حد الردة بالقتل! وكثيرًا ما نفذوه بالفعل! وبدءوا يصدرون فتاوى خطيرة فيما بينهم، فمن تركهم عَدُّوه مرتدًّا، وأجازوا لامرأته أن تتزوج غيره وإن لم يطلقها! بل أجازوا أن يخطفوا الفتاة، ويزوجوها لأحدهم، لأن رضا أبيها «الكافر» غير مطلوب، وغير معتبر. إلى سلسلة من الأخطاء والضلالات، جر بعضها إلى بعض..

فقد أعطوا أنفسهم كل سلطات الإفتاء والقضاء والشرطة. فيفتون بإباحة دم من شاءوا من الناس، ثم يصدرون حكمهم المبرم الذي لا راد له، ولا يقبل الاستئناف ولا النقض، وبعد ذلك يشرعون في التنفيذ! وأحدهم لا يحسن أن يفتي في مسألة من مسائل الميراث، ولا يحسن أن يكون قاضيًا في محكمة جنح!! وأشد من ذلك خطرًا: أن هذا الفكر المنحرف بدأ يوسع دائرته، ليصدره أهله خارج مصر، ومصر أبدًا رائدة في الخير، ورائدة في الشر معًا. فهي تصدّر كلًّا منهما إلى سائر البلاد العربية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

رسالة «ظاهرة الغلو في التكفير»:

وأود أن أشير هنا إلى أن من أهم الرسائل التي ظهرت في هذه الفترة وكان لها آثرها ودورها في مقاومة تيار التكفير خاصة، ومواجهة التطرف الديني عامة، ومحاصرة الغلو الفكري، والتي نوّه بها الكثيرون، برغم وجازتها: رسالتي التي سميتها: «ظاهرة الغلو في التكفير».

وقد نشرت الموضوع قبل ذلك في الجزء الأول من كتابي: «فتاوى معاصرة»، كما نشرته قبل ذلك في مجلة «المسلم المعاصر»، ثم نشرته في رسالة مستقلة بعد إضافات مهمة إليها. وقبل ذلك ناقشت هذه القضية مع شباب الجماعات الإسلامية، التي ساد فكرها الجامعات المصرية، وكان يغلب عليها خط التشدد في أول الأمر، ثم لم يزل العلماء المعتدلون يوالونهم بنصائحهم ومحاضراتهم ولقاءاتهم، حتى مالوا إلى الاعتدال.

ومما سرني وأثلج صدري: أن شباب الجماعة الإسلامية في جامعة القاهرة؛ تبنّوا رسالتي، ونشروها في سلسلة إصداراتهم التي تظهر بعنوان: «صوت الحق»، وقد طبعوا منها عشرات الآلاف، وكانت تباع بمبلغ (12) قرشًا، فالحمد لله: أن الشباب أنفسهم هم الذين أصبحوا يطاردون الغلو، ولا سيما الغلو في التكفير، الذي أمسى له جماعة تتحدث باسمه وتجتهد في إشاعته وتسعى لتبريره.

ومما كتبته في مقدمة هذه الرسالة المهمة:

«شغلتني قضية التكفير منذ سنوات عديدة عندما حضر إلى بعض الأخوة الذين خرجوا من المعتقلات والسجون بعد محنة الإخوان المسلمين الثالثة([1]) في عهد الثورة. وكان مما حدثنا عنه هؤلاء الإخوة: هذه الظاهرة الجديدة التي كانت الشغل الشاغل للمعتقلين والسجناء والسلطة الحاكمة آنذاك، ألا وهي ظاهرة «التكفير» أو الغلو فيه، والتفاف طائفة - جلهم من الشباب الحديث السن، الحديث العهد بالدعوة - حول هذا الفكر المتطرف، إلى حد جعلهم يرفضون الصلاة مع إخوانهم في العقيدة والفكرة، وشركائهم في الاضطهاد والمحنة، وأساتذتهم في الدعوة والحركة.

ولا يصعب على الدارس أن يلمس سبب هذا التطرف، فهو يكمن في المعاملة الوحشية التي عومل بها السجناء، والمعتقلون، والتي لا تتفق مع دين، ولا خلق، ولا قانون، ولا إنسانية. لقد اقتيد هؤلاء الشباب البرآء من بيوتهم إلى ساحات التعذيب، وصب عليهم من ألوان القهر والإذلال والتنكيل ما لا يكاد يتحمله بشر، لقد تفننوا في إيذاء الأبدان، وإهانة الأنفس، والاستخفاف بالعقول، وتحطيم الشخصية، والاستهانة بالآدمية، إلى حد يعجز القلم عن تصويره، ويتوقف العقل في تصوره.

ولِمَ هذا كله؟! إنهم - في نظر أنفسهم على الأقل - لم يقترفوا ذنبًا؛ إلا أن يقولوا: ربنا الله! لم يقترفوا في حق أحد جرمًا، ولم يفكروا في شر، ولم يجتمعوا على معصية وفجور. كل ما فعلوه أنهم آمنوا بالإسلام نظام حياة، التزموا به فكرًا وسلوكًا، وعَدُّوا الدعوة إليه وإلى تطبيق شرعه واجبًا يأثمون بتركه، والتقصير فيه، فلماذا يشردون ويعذبون، وينكل بهم أشد التنكيل؟

وزاد الطين هنا بلّة جملة أمور:

1 - أن الفسقة والفجار والملاحدة واللادينيين طلقاء أحرار، لا يحاسبهم أحد، ولا يعاقبهم أحد، بل وثبوا على أجهزة الإعلام والتوجيه وغيرها يوجهونها كما يشاءون إلى الكفر والفسوق والعصيان.

2 - وأن الذين يعذبونهم وينكلون بهم لا دين لهم ولا تقوى، بل كان منهم من يسخرون من تدينهم، ومنهم من ظهر على لسانه من الكلمات ما يصل به إلى الكفر البواح، حتى قال واحد منهم: هاتوا ربكم وأنا أحطه في زنزانة! تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.

3 - وأن بعض الكتب الإسلامية الحديثة التي كتبت في هذه الظروف نفسها: كانت تحمل بذور هذا التكفير، وتدفع إليه دفعًا، بما تتسم به من قوة التعبير، وحرارة التأثير.

وهكذا احتضنت هذه الفئة هذا الفكر المطبوع بطابع الغلو والعنف، والذي ينظر إلى الناس - أفرادًا ومجتمعات - من وراء منظار أسود قاتم. وكان السؤال الأول الذي طرح نفسه: ما حكم هؤلاء الناس الذين يعذبوننا بقسوة وجراءة؟ أو على الأصح: ما حكم من وراءهم من الحكام الذين يأمرونهم بتعذيبنا إلى حد الموت، لا لشيء إلا لأننا ندعوهم إلى الحكم بما أنزل الله؟

وكان الجواب عندهم جاهزًا: أخذوه من ظاهر بعض النصوص: من آيات القرآن مثل آية المائدة: {وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ} (المائدة:44)، ومن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، كالأحاديث التي أطلقت الكفر على بعض المعاصي.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد: فإن الذين لم يوافقوهم على هذا الفهم للنصوص التي استدلوا بها، وقالوا: إنها مؤولة عند أهل السنة والجماعة لاصطدامها بأدلة وقواعد أخرى أقوى منها وأظهر في الدلالة - هؤلاء الذين لم يوافقوهم اتهموهم أيضًا بالكفر وقالوا: من لم يكفر هؤلاء الحكام ومن والاهم فهو كافر؛ لأن الشك في كفر الكفار يُعدّ كفرًا، كمن شك في كفر المشركين واليهود والنصارى والمجوس وأمثالهم.

ومن هنا بدأ نطاق التكفير يتسع، لا ليشمل من وَالى الحكام أو رضي بحكمهم فحسب، بل من سكت عن تكفيرهم، وهذا يعم جمهور الناس. وقد اصطدم فكر هذه الفئة القليلة بفكر الجمهرة العظمى للمعتقلين أو المسجونين من الإخوان المسلمين، وبخاصة القدامى منهم، الذين تتلمذوا على حسن البنا مؤسس الحركة، وواضع دعائمها الفكرية والتنظيمية الأولى، وقد كان منهجه يتميز بالاعتدال والرفق، وعلى هذا ربّى أنصاره وأعوانه.

وكان مما أخذه على بعض الجماعات الدينية في مصر: سوء رأي بعضها في بعض، إلى حد قد يصل إلى التكفير في بعض الأحيان. لهذا نص في الأصول العشرين من رسالة التعاليم - وهي الأصول التي يجب أن يفهم الإسلام في حدودها - على هذا الأصل بهذه العبارات الواضحة: «لا نكفر مسلمًا أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما([2]) برأي أو معصية، إلا إذا أنكر معلومًا من الدين بالضرورة، أو كذب صريح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب العربية بحال، أو عمل عملًا لا يحتمل تأويلًا غير الكفر».

وقد بلغت القضية مرشد الإخوان المسلمين الثاني، الرجل الصابر الفقيه الأستاذ حسن الهضيبي رحمه الله، وهو في سجنه، فأنكر هذا الاتجاه، وأعلن مجافاته لخط الجماعة وفكرتها، وبيّن في وضوح أن مذهب الإخوان في هذه القضية وغيرها هو مذهب أهل السنة والجماعة، كما قال كلمته الحكيمة المعبرة: نحن دعاة لا قضاة. وهذه الكلمة الوجيزة التي أصبحت بعد ذلك عنوانًا لكتاب كامل في هذا الموضوع، إنما هي تعبير عن منهج إيجابي عملي، يجب أن يتضح للعاملين للإسلام الغيورين عليه: أنهم دعاة لا قضاة.

وفرق كبير بين القاضي والداعي: القاضي يجب أن يبحث عن حقيقة الناس حتى يحكم لهم أو عليهم، ولا بد له من أن يصفهم ويعرف مواقفهم ليقضي لهم بالبراءة أو العقوبة، ثم إن موقف القضاء يجعلنا ننظر للناس على أنهم متهمون، والأصل أنهم برآء.

أما الداعي فهو يدعو الجميع، ويبلغ الجميع، ويعلّم الجميع، إنه يصدع بكلمة الإسلام يدعو إليها كل الناس، من كان ضالًّا فليهتد، ومن كان عاصيًا فليتب، ومن كان جاهلًا فليتعلم، وحتى من كان كافرًا فليسلم. والداعي لا يعمل على عقوبة المخطئ، بل يعمل على هدايته، ولا يتعقب المرتد ليقضي عليه بالعقوبة المقررة، بل يتتبعه ليعلّمه وليرده إلى حظيرة الإسلام.

وكان لموقف الإخوان ومرشدهم أثره في تقليص دائرة المنتمين إلى التطرف أو التكفير، وانفضاض الكثيرين من حولهم، وإن بقي عدد منهم ممن لم ترسخ أقدامهم في الدعوة، ولم تتأصل جذورهم فيها، بل يعدون جددًا عليها، فمعظمهم من الجيل الذي يسمونه: «جيل الثورة».

وهذا ما وجهني إلى التفكير الجدي في تأليف كتاب في الموضوع نظرًا لشدة خطورته وبعد أثره، ولكن لم يقدر لي أن أتم الكتاب، فكتبت البحث الذي نشرته مجلة «المسلم المعاصر» في عددها التاسع الصادر في شهر يناير (1977م)، أي قبل أن يتفاقم أمر التكفير، ويصل إلى ما وصل إليه من اختطاف الشيخ الذهبي وقتله رحمه الله، بحوالي شهرين.

وقد بينت في مقدمة البحث: خطورة القضية، والأسباب العامة التي أدت إلى بروزها، والطريقة التي يجب أن تعالج بها، كما وضعت مجموعة من القواعد موثقة بأدلتها المحكمة من الكتاب والسنة، رجوت أن تكون فيها مقنع لمن طلب الحق، ولم يعمه التعصب لرأي. وما أردت بها إلا خدمة الإسلام، ومحاولة الأخذ بيد أبنائه المخلصين حتى لا يضلوا الطريق، أو يحطمهم الغلو، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الغلو والتطرف، وقال فيما رواه أحمد وغيره، عن ابن عباس: «إياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين». وقال فيما رواه مسلم، عن ابن مسعود: «هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون». وهو لا يكرر الكلمة إلا لعظم خطرها، ولتأكيد الاهتمام بمضمونها.

إن هذا الغلو الذي انتهى بهؤلاء الشباب المخلصين الغيورين على دينهم إلى تكفير من خالفهم من المسلمين، واستباحة دمائهم وأموالهم، هو نفسه الذي انتهى بالخوارج قديمًا إلى مثل ذلك وأكثر منه، حتى إنهم استباحوا دم أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه، وهو من هو، قرابةً من الرسول صلى الله عليه وسلم، وسابقةً في الإسلام، وجهادًا في سبيله.

ولم يكن الخوارج ينقصهم العمل أو التعبد، فقد كانوا صوامًا قوامًا قراءً للقرآن، شجعانًا في الحق، باذلين النفس في سبيل الله، كما وصفهم أحدهم أبو حمزة الشاري فأبدع في الوصف. ولكن لم ينفعهم العمل وطول التعبد، وحسن النية؛ لأنهم ساروا في غير الاتجاه المستقيم، ومن سار في غير الاتجاه المنشود لم يزده طول السير إلا بعدًا عن الهدف، فلا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى.

لقد صح الحديث في ذم الخوارج، وفي التحذير منهم من عشرة أوجه - كما قال الإمام أحمد - عدد منها في «الصحيحين»، وفي بعضها: «يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وقيامه إلى قيامهم، وقراءته إلى قراءتهم»، ومع هذا وصفهم بأنهم: «يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية»، وبيّن علامتهم المميزة، وهي أنهم: «يدعون أهل الأوثان، ويقتلون أهل الإسلام». كما أشار إلى ضحالتهم وسطحيتهم وعدم تعمقهم في فهم القرآن حين قال: «يقرءون القرآن، لا يجاوز حناجرهم وتراقيهم».

إن العمل المقبول عند الله لا بد له من ركنين أساسيين:

1 - إخلاص النية فيه، بألا يراد به إلا وجه الله.

2 - وسلامة المنهج، بأن يكون مبنيًّا على المحكمات البينات من نصوص الشرع وقواعده، كما قال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الكهف: 110).

سبب تأليف هذه الرسالة:

وكان السبب المباشر لكتابة هذه الرسالة: رسالتين ملحّتين وصلتا إليَّ: إحداهما من القاهرة، والأخرى من اليمن. الأولى تقول بعد الديباجة:

لعلكم قرأتم وسمعتم ما نشرته بعض الصحف، وما تداولته الألسنة حول الظاهرة الدينية الجديدة، التي يتبناها من سموهم: «جماعة التكفير» أو «جماعة الكهف» أو «جماعة الهجرة» أو غير ذلك من الأسماء، فضلًا عن آخرين لم يعرفوا باسم ولا لقب. وهذه الظاهرة تمثل اتجاهًا عامًّا يمكن أن يتلخص تحت عنوان: «الغلو في التكفير»، وإن كان أصحاب هذا الاتجاه يختلفون بعد ذلك في أسباب التكفير وموجباته عند كل فئة منهم.

فمنهم: من يكفر مرتكب الكبيرة، على نحو ما كان يذهب إليه الخوارج من قبل.

ومنهم: من يقول: أنا لا أكفر مرتكب الكبيرة، بل المصر عليها فقط.

ومنهم: من يقول: إن جماهير الناس الذين ينتسبون إلى الإسلام ويُسمَّوْن: «المسلمين» اليوم، ليسوا مسلمين.

ولهم على ذلك أدلة ومجادلات لعلكم قرأتم بعضها، ورد عليها بعض العلماء في بعض الصحف.

ولعلي لا أكون مبالغًا إذا قلت: إن هذا الأمر ليس بالهين كما يتصوره أو يصوره بعض الناس، بل هو خطير للغاية، وهو يشغل كثيرًا من الشباب في مجالسهم وحلقاتهم ومنتدياتهم، ويريدون فيه قولًا فصلًا، وحكمًا عدلًا.

ولما كان لنا ثقة بعلمك وفهمك، ودينك وإخلاصك للحق دون تحيز لفريق ضد فريق، أو تعصب لرأي دون رأي، لمجرد التقليد أو العصبية أو إرضاء الجمهور - نريد منك أن تبين لنا موقف الإسلام الحق من هذا الاتجاه في ضوء النصوص والأدلة الشرعية المعتبرة عند علماء الأمة. راجين أن ينال هذا الأمر منكم ما يليق به من الاهتمام والعناية، مهما يكن لديكم من المشاغل الأخرى، فهذا - في رأينا - من الأهم الذي يجب أن يقدم على المهم. ونحن في انتظار بيانكم، داعين لكم بالتوفيق.

جماعة من الشباب المسلم بالقاهرة.

والرسالة الثانية:

من مجموعة من الشباب المسلم، ولكنها من صنعاء، من اليمن الشمالية، ونصها يقول:

ما رأيكم في مسلم يعتقد أن جميع أفراد الأمة في اليمن وغيره «والمجتمع اليمني» وغيره، كفار مرتدون، سواء من كان منهم ملتزمًا بأركان الإسلام أم لا، وسواء العالِم فيهم والجاهل، الذكر والأنثى، وأن الدار دار حرب أو دار ردة، وأن الجمعة والجماعة في المساجد لا تصح؛ لأنها صلاة وراء كفار مرتدين، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجب في مجتمع مرتد، أو أمة مرتدة أو كافرة، بل يدعون إلى «لا إله إلا الله محمد رسول الله» أوّلًا.

وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما يلزم في «المجتمع المسلم» والأمة المسلمة «يعني: دار الإسلام» فقط.

فهل هذا المعتقد صحيح، وله سنده الصريح من الكتاب والسنة الصحيحة وعقيدة السلف الصالح وإجماع الأمة ... أم أنه فاسد لفقد سنده من الكتاب والسنة الصحيحة وهدي السلف الصالح وإجماع الأمة؟ نرجو الجواب الكافي.

انتهت الرسالتان.

هذا ما وصلني... ولا يستطيع عالِم يشعر بمسئوليته أمام الله تعالى؛ أن يسكت عن هذا الأمر، أو يؤجله، فإن الشباب لم يدعوا لي عذرًا للتأجيل، فبدأت الكتابة مستعينًا بالله سبحانه. وما زلنا إلى اليوم نعاني من آثار هذا الفكر الخطير «التكفير»! وسأكتفي بإيراد بعض المقاطع الضرورية من هذه الرسالة:

أشكر لهذه المجموعة وتلك، من الشباب المسلم في القاهرة وصنعاء ثقتهم بي. وأدعو الله أن يجعلني عند حسن ظنهم، ويغفر لي ما لا يعلمون. وأبادر فأقول:

إنني أقدر خطر الموضوع الذي يسألون عنه، والذي يشغل فكر الكثيرين من أمثالهم. وهو موضوع: «الغلو في التكفير».

وقد لمست بنفسي شيئًا من آثاره الفكرية لدى بعض الشباب المخلص النية، السليم الطوية، في أكثر من بلد عربي. وسمعت من بعضهم بعض ما يستندون إليه من أدلة أو شبهات، وقرأت بعضًا آخر. ولكني كنت أود أن أقرأ شيئًا محددًا يوضح فكرة هؤلاء توضيحًا تامًّا مؤيدًا بالأدلة التي تؤيد وجهة نظرهم؛ وبهذا يستطيع الفقيه المسلم أن يرد عليهم بما أعلنوه والتزموه كتابة لا مشافهة. على أن هذا الذي وددته، إذا لم يتحقق، لا يمنع من مناقشة فكرة التكفير والغلو فيه في حد ذاتها، دون نظر إلى تفصيلاتها.

والقضية لها جذورها في تاريخ الفكر الإسلامي منذ عهد الخوارج، ولعلها أول قضية فكرية شغلت المسلمين، وكان لها آثارها العقدية والعملية «عسكرية وسياسية» لعدة أجيال. ثم لم يلبث الفكر الإسلامي أن فرغ منها، واستقر على ما عليه أهل السنة والجماعة.

ولا أكتم الأخوة السائلين: أني أعد كتابًا في «قضية التكفير» منذ سنوات، ولم أفرغ من إتمامه بعد، مع إلحاح الكثيرين من الغيورين على وجوب الإسراع بإكماله، ومع شعوري بشدة الحاجة إليه، ولكن كثرة المشاغل الآنيّة من ناحية، وإيماني بوجوب الأناة في تحقيق الموضوع، من ناحية ثانية، وحرصي على أن أعرف وجهات نظر من يسمونهم: «جماعة التكفير» من ناحية ثالثة - كل هذا أخرني عن إخراج الكتاب للناس حتى اليوم.

وأسأل الله تعالى أن يمدني بالتوفيق والعون لإتمامه على وجه يرضيه جل شأنه.

ولا يمنعني هذا من أن أقول في الموضوع شيئًا سريعًا، قد يبل الغلة، إن لم ينقعها.

ظاهرة تحتاج إلى دراسة لأسبابها:

وأول ما ينبغي أن أقوله هنا:

أن هذه الظاهرة - ظاهرة الغلو في التكفير - تحتاج إلى دراسة لأسبابها وعواملها، حتى نستطيع علاجها على بصيرة.

أما الذين يفكرون «من رجال السلطة» في علاجها بالقمع والاضطهاد والاعتقال، وما إلى ذلك من ألوان العنف؛ فهم مخطئون بلا ريب، لأمرين:

أولهما: أن الفكرة لا تقاوم إلا بالفكرة، واستخدام العنف وحده في مقاومتها قد لا يزيدها إلا توسعًا، ولا يزيد أصحابها إلا إصرارًا عليها، إنما الواجب أن تعالج بالإقناع والبيان، وإقامة الحجة، وإزاحة الشبهات.

ثانيهما: أن هؤلاء المكفرين - في مجموعهم - أناس متدينون مخلصون، صوامون قوامون، غيورون، قد هزّهم ما يرونه في المجتمع من ردة فكرية، وتحلل خلقي، وفساد اجتماعي، واستبداد سياسي.

فهم طلاب إصلاح، حريصون على هداية أمتهم، وإن أخطأوا الطريق وضلوا السبيل. فينبغي أن نقدر دوافعهم الطيبة، ولا نصورهم في صورة سباع ذات مخالب وأنياب، تريد أن تنقض على المجتمع، فتهدمه وتجعله يبابًا!

والدارس المتتبع لأسباب هذه الظاهرة يجد أنها تتمثل في أمور:

1 - انتشار الكفر والردة الحقيقية جهرة في مجتمعاتنا الإسلامية، واستطالة أصحابها وتبجحهم بباطلهم، واستخدامهم أجهزة الإعلام وغيرها لنشر كفرياتهم على جماهير المسلمين، دون أن يجدوا من يزجرهم أو يردهم عن ضلالهم وغيهم.

2 - تساهل بعض العلماء في شأن هؤلاء الكفرة الحقيقيين، وعدهم من زمرة المسلمين، والإسلام منهم براء...

3 - اضطهاد حملة الفكر الإسلامي السليم، والدعوة الإسلامية الملتزمة بالقرآن والسنة، والتضييق عليهم في أنفسهم ودعوتهم. والاضطهاد والتضييق لأصحاب الفكر الحر، لا يولد إلا اتجاهات منحرفة، تعمل تحت الأرض، في جو مغلق، بعيدًا عن النور والحوار المفتوح.

4 - قلة بضاعة هؤلاء الشباب الغيورين من فقه الإسلام وأصوله، وعدم تعمقهم في العلوم الإسلامية واللغوية، الأمر الذي جعلهم يأخذون ببعض النصوص دون بعض، أو يأخذون بالمتشابهات، وينسون المحكمات، أو يأخذون بالجزئيات ويغفلون عن القواعد الكلية، أو يفهمون بعض النصوص فهمًا سطحيًّا سريعًا، إلى غير ذلك من الأمور اللازمة لمن يتصدر للفتوى في هذه الأمور الخطيرة، دون أهلية كافية.

فالإخلاص وحده لا يكفي، ما لم يسنده فقه عميق لشريعة الله وأحكامه. وإلا وقع صاحبه فيما وقع فيه الخوارج من قبل. الذين صحت الأحاديث في ذمهم في عشرة أوجه، كما قال الإمام أحمد. هذا مع شدة حرصهم على التعبد والتنسك.

ولهذا كان أئمة السلف يوصون بطلب العلم قبل التعبد والجهاد، حتى لا ينحرف عن طريق الله من حيث لا يدري.

وقد قال الحسن البصري: العامل على غير علم كالسالك على غير طريق، والعامل على غير علم، ما يفسد أكثر مما يصلح، فاطلبوا العلم طلبًا لا يضر بالعبادة، واطلبوا العبادة طلبًا لا يضر بالعلم؛ فإن قومًا طلبوا العبادة وتركوا العلم، حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا.

يعني بهؤلاء القوم: جماعة الخوارج، الذين عرفوا بالعبادة والصيام والقيام، ولكنهم استحلوا دماء المسلمين([3]).

.....

(1) المحنة الأولى كانت في عهد الثورة (يناير 1954م)، والثانية: في عهد الثورة أيضًا، وهي التي ظهرت في أكتوبر (1954م) وما بعده، وإن كانت قد بدأت بالفعل قبل ذلك. والثالثة: هي التي أعلنت في أغسطس (1965م)، والتي ساقت إلى المعتقلات الألوف من الإخوان. وفي هذه المحنة: ظهرت بدعة «التكفير» وأعلن «المكفّرون» عن أنفسهم، وشغلوا سائر المعتقلين بفتنتهم، والرد عليهم، والنصح لهم، وإن ظل كثير منهم مصرًّا على موقفه.

(2) تمسك دعاة التكفير بهذه العبارة «وعمل بمقتضاهما» في الأصل العشرين لحسن البنا، وقالوا: إن مفهومها: أن من أقر بالشهادتين ولم يعمل بمقتضاهما: كافر، وهذا ما نقول به. والأستاذ البنا يتحدث عن تكفير الجماعات الدينية بعضها لبعض بسبب آرائها وأقوالها. إذْ لا يفترض في هذه الجماعات أن يكون فيها من يترك فريضة أو يرتكب كبيرة، فالجماعات إنما يكفر بعضها بعضًا بسبب الأقوال لا بسبب الأفعال. وهو ما أنكره الأئمة والمحققون، مثل: ابن تيمية، والصنعاني، والشوكاني، وصديق حسن خان، وغيرهم.

(3) انظر: «ظاهرة الغلو في التكفير» (3 - 11).