في سنة (1393هـ، 1973م) جاءتني دعوة من لجنة التوعية بالحج، وكانت قد تكونت عن طريق الرئاسة العامة للإفتاء والبحوث والدعوة والإرشاد، وقد استجبت للدعوة، وكنت لم أحج من سنة (1384هـ، 1964م)، وكان الوقت مناسبًا بالنسبة للجو، فقد كان في فصل الشتاء، وهو مما يغري الناس بالإقبال على الحج؛ لأن جو مكة دائمًا أقرب إلى الحر.
وقد كان معي وفد إعلامي مسافر من قطر، يمثل الإذاعة والتليفزيون. وكنا نسافر على ثلاث مراحل: من الدوحة إلى الظهران، وفيها نتمم إجراءات الجوازات، وندخل المملكة، ومن الظهرات إلى الرياض، ثم من الرياض إلى جدة. فكانت الرحلة إلى جدة تستغرق حوالي يوم كامل. وخصوصًا أننا ننتقل في الظهران من مطار إلى آخر، أي من الطيران الخارجي أو الدولي إلى الطيران الداخلي، وهذا يقتضي أن نتسلم حقائبنا ونحملها إلى المطار الآخر.
مشكلة في مطار الظهران:
وفي مطار الظهران: حدثت مشكلة، فبعض الإخوة من وفد قطر الإعلامي كانوا فلسطينيين يحملون «وثائق سفر» قطرية، فتوقفوا معهم، وقالوا: نريد جوازاتكم الأصلية، وقالوا لهم: ليس معنا جواز أصلي. قالوا: أنتم فلسطينيون، فلا بد أن معكم جوازًا آخر.. وقال الإخوة: لا بد أن نتصل بالدوحة، ونبحث عن حل للمشكلة مع القوم.
وجاء الدور عليَّ، فنظر المسئول عن الجوازات في الجواز الذي معي، وهو جواز قطري، وقال: أين جوازك الأصلي؟
قلت له: هذا جوازي الأصلي؟
قال: ألست أنت الشيخ يوسف القرضاوي الذي نشاهده في التليفزيون ونترقب برنامجه بشغف؟
قلت: بلى، أنا هو.
قال: ألستَ مصريًّا؟
قلت: أنا الآن قطري.
قال: ولكنك مصري، ونريد جوازك الأصلي.
قلت: يا أخي، لقد اختلط عليك الأمر، الإخوة الذين أوقفتهم من الفلسطينيين يحملون «وثائق سفر» صالحة لسفرة واحدة أو لمدة سنة. أما أنا فأحمل «جواز سفر» كاملًا. فلأكن مصريًّا أو أستراليًّا أو من أي جنس كان. أنت تتعامل مع الأوراق، أمامك ورقة رسمية صادرة من قطر، ومن صاحب العظمة حاكم قطر. ودعك من أنك تعرفني أحمل جنسية أخرى من قبل. وهذا جواز زرت به بلاد العالَم كلها، ولم يوقفني أحد كما أوقفتني أنت؛ لأنك تعرفني وتشاهدني في التليفزيون!
قال: وهل دخلت به المملكة من قبل؟
توقفت قليلًا، ثم تذكرت، وقلت: نعم، دخلت به المملكة من قبل، ومن هذا المطار نفسه! وفعلًا نظروا في الجواز فوجدوا فيه ختم دخول المملكة من الظهران. وقال الرجل: أنا آسف. أنا والله من المعجبين بك، والمتابعين لبرنامجك.
قلت له: متابعتك هذه ضرتني ولم تنفعني، وكادت تعطلني بلا مبرر، ولو كنت شخصًا عاديًّا لمر بسلام.
وكانت الطائرة قد كادت تطير، وتدعني، ولكن الله سلَّم، وأدركتها في آخر لحظة، وانتقلت إلى الرياض، لننزل فيها فترة من الزمن، لنذهب منها إلى جدة، ومنها إلى بلد الله الحرام: مكة المكرمة، لأداء العمرة، ثم التحلل منها متمتعًا بالعمرة إلى الحج.
وقد انضممت إلى العلماء الذين دُعوا إلى ما دعيت إليه، وكان منهم بعض إخواننا وأصدقائنا الذين نعرفهم من قديم، مثل: الشيخ محمد الراوي، وقد قدم من الرياض، والشيخ محمد السيد الوكيل، وقد قدم من المدينة، وبعض الإخوة من مشايخ السعودية وغيرهم. وكنا نقوم بإلقاء محاضرات، لتوعية الحجيج، في خيم كبيرة تعد لذلك، وخصوصًا في أيام منى.
مناقشات بيني وبين المشايخ:
وكان بيني وبين الإخوة من مشايخ السعودية جدل لا ينقطع حول بعض مسائل الحج، فأنا من دعاة التيسير عمومًا، وفي مسائل الحج خصوصًا، ولا سيما في هذه السنين التي يشتد فيها الزحام في موسم الحج، حتى ليبلغ الحجاج مليونين أو أكثر في بعض السنين. وهذا يقتضي منا التيسير على عباد الله، ورفع الحرج عنهم. فما جعل الله في هذا الدين من حرج، وقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع عن أمور كثيرة مما يتصل بالحج، فما سُئل عن أمر قدم ولا أخر؛ إلا قال: «افعل، ولا حرج».
وهذا الزحام الهائل هو الذي حفز الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله أن يتنازل هو ومن حوله عن الحج في أحد الأعوام، مخالفًا سنة من سبقوه، ليؤثر الحجاج الوافدين، وليكون قدوة لغيره من أهل المملكة.
وكان من أهم النقاط التي احتد فيها الجدل: مسألة الرمي قبل الزوال، وأنا أفتي بمشروعيته، وقد أفتى بذلك من فقهاء التابعين عطاء وطاووس، كما أفتى بذلك أبو جعفر الباقر من أئمة آل البيت. وأفتى بذلك بعض علماء الشافعية المتأخرين. وأفتى به من المعاصرين الشيخ عبد الله بن زيد المحمود في قطر، والشيخ مصطفى الزرقا في سوريا.
وهذا ما دفعني أخيرًا إلى أن أخرج كتابًا حول الحج بعنوان: «مائة سؤال عن الحج والعمرة والأضحية»، ضمنته ما أراه من رخص وتيسيرات في أمر الحج، مثل: النفرة من عرفة قبل الغروب، كما هو مذهب الشافعية، والبقاء في مزدلفة بمقدار الصلاة والتقاط الحصى، ورمي جمرة العقبة من بعد منتصف ليلة العيد، وعدم المبيت بمنى لمن يشق عليه ذلك، ورمي الجمار قبل الزوال في الأيام كلها.
وهو ما أصبح كثيرون من العلماء يميلون إليه ويفتون به، ممن كانوا يعارضونه. وإنما ألجأهم إليه ما لمسوه من ضرورات الناس وحاجاتهم. والضرورات تبيح المحظورات، فكيف بأمور أجازها بعض الفقهاء في غير ضرورة ولا حاجة؟! ولكن مما يؤسف له: أن كتابي المذكور لم يفسح له، ليدخل السعودية، فهو من الممنوعات!
وفي حج هذا الموسم أذكر أني، وقد كنت ألقي محاضرة في بعض المخيمات في منى، وبعد المحاضرة والإجابة عن الأسئلة بعدها: لقيني شاب مصري يتوقد ذكاءً وحماسة، وقدم لي نفسه قائلًا: أنا عصام العريان، طالب بكلية الطب جامعة القاهرة، وقد كنا نسمع بك، ولكن لم يقدر لجيلنا أن يراك، فنحن من الجيل الذي يسمونه: «جيل الثورة» الذي لم ير العلماء والدعاة الذين اضطروا إلى أن يغادروا مصر، ولا يرجعوا إليها، ولكنا قرأنا بعض كتبكم مثل: «الحلال والحرام»، و«العبادة في الإسلام»، و«الإيمان والحياة»، وغيرها.
وأذكر مما قال هذا الشاب المتوقد «الدكتور عصام العريان الداعية والقيادي الإخواني المعروف بعد ذلك»: لقد فوجئت حين رأيتك ملتحيًا!
قلت له: وما الذي فاجأك؟
قال: لأنك سهلت في أمر اللحية فيما كتبته عنها في «الحلال والحرام»، حيث لم تجعل إعفاءها واجبًا، ولا حلقها حرامًا.
قلت: وهل قلت ذلك لأبرر لنفسي أن أحلق لحيتي؟ إن العالِم يقرر ما يصل إليه اجتهاده بعد البحث والتحري، ويدين الله به، حتى وإن كان سلوكه ضده. فقد رأيت الشيخ محمود شلتوت رحمه الله يميل إلى تحريم التدخين، مع أنه كان يدخل، ولكن الحق أحق أن يتبع ويعلن، دون تحيز ولا محاباة.
نهاية السنة الدراسية (1973 - 1974م):
انتهت السنة الدراسية (1973 - 1974م)، وامتحنا طلاب كلية التربية وفق الفلسفة التعليمية الجديدة، لا سرية ولا كنترول، ولا شي من ذلك. فالامتحانات مستمرة طوال السنة في فصليها الدراسيين، هناك امتحانات شفهية، وامتحانات تحريرية، وتكليف ببحوث ينجزها الطلاب بأنفسهم، وإن كنت لاحظت أن بعض الطلاب يستعينون بآخرين يكتبون لهم البحوث من ألفها إلى يائها، وكثيرًا ما يعرف هذا بسؤال الطالب في بعض ما كتب في بحثه، فإذا هو لا يعرف عنه شيئًا، كمثل الحمار يحمل أسفارًا!!
ومن الطرائف أن الدكتور إبراهيم كاظم عميد الكلية، كان يقول في اجتماعاته مع الأساتذة: إن الامتحان لا يخصص له وقت معين، إنما يكون في المحاضرة الأخيرة، يقصد في وقت المحاضرة الأخيرة، ولكن زميلي في قسم الدراسات الإسلامية الدكتور أحمد سكّر، فهم أن الامتحان في آخر محاضرة فقط، يعني: أن الطلبة لا يُمتحنون ولا يُسألون في كل ما أخذوه، طوال مدة الفصل الدراسي، ولكن في المحاضرة الأخيرة، وأبلغ الطلبة ذلك، ووضع الأسئلة على هذا الأساس، وأخذ جميع الطلبة عنده: درجة «أ» أي امتياز!!
وفي هذا العام حصلت ابنتاي «إلهام» و«سهام» على الشهادة الإعدادية، وتهيئتا لدخول المرحلة الثانوية، وانتقلت «علا» إلى السنة الثانية الإعدادية، أما أسماء فلا تزال في المرحلة الابتدائية، وأما محمد فقد نجح في السنة الأولى الابتدائية، وكانت ترتيبه الأول، وقد أدخلته مدرسة أبي بكر الصديق، بجوار المعهد الديني.
قضاء الإجازة الصيفية في مصر:
انتهت السنة الدراسية الأولى في كلية التربية، وأنهى أولادي امتحاناتهم بنجاح وتفوق، والحمد لله، وكان لا بد لنا أن نسافر لقضاء الإجازة. كنا في الفترة الماضية نقضيها في بلاد الله ما بين لبنان والأردن وتركيا، واليوم وقد فتحت لنا الكنانة أبوابها، فليس لنا إلا أن نقضي إجازتنا بين الأهل والأقارب والأصحاب في مصر.
وكانت شقتنا في شبرا، قد ضاقت بنا؛ ولذا فكرنا في أن نستأجر في الصيف شقة مفروشة، تكون ملائمة لنا في سعتها وفي أثاثها، وفي مناخها. فاقترح بعض الإخوة علينا: أن نستأجر شقة في مدينة نصر، في عمارات عثمان الشهيرة، قريبًا من أخينا وصديقنا عبد العظيم الديب، الذي يمتلك شقة هناك، وقد وفقنا لأخذ شقة مناسبة بالقرب منه.
وهذا ما شجعنا للبحث عن أرض نشتريها في مدينة نصر، لنبني عليها منزلًا لنا، عندما ييسر الله ذلك، وهو ما سعينا إليه، وأنجزناه بحمد الله، كما سافرت مع الأسرة إلى الإسكندرية لقضاء شهر هناك في نفس الشقة التي سكنا بها في الإجازة الماضية؛ شارع إسكندر إبراهيم، وبعدها عدنا إلى القاهرة.
دخول التليفزيون المصري لأول مرة:
وفي صيف سنة 1974م، دخلت مقر التليفزيون المصري في القاهرة لأول مرة، لأسجل مع الإعلامي الذائع الصيت، الأستاذ أحمد فراج، ثلاث حلقات في برنامجه الشهير «نور على نور»، الذي كان يستضيف فيه كبار علماء الأمة أول ما ظهر، مثل المشايخ: الشعراوي، وأبي زهرة، والخفيف، والمدني، وفرج السنهوري، وغيرهم.
وقد اتصل بي الأستاذ فراج، وقال: إن كثيرين في مصر والوطن العربي، كتبوا إلينا يعتبون علينا، قائلين: لماذا لا نرى فلانًا ضمن العلماء الذين يظهرون في هذا البرنامج؟ وتعلم أن المانع هنا كان مانعًا سياسيًّا أو قل: أمنيًّا. والحمد لله، الآن الجو هادئ ومناسب لظهورك دون أدنى حرج إن شاء الله.
وكانت الحلقات التي سجلتها عن «الزكاة» بمناسبة ظهور كتابي: «فقه الزكاة»، وانتشاره في الأوساط العلمية، واعتماده مرجعًا لدى رجال الشريعة ورجال المالية والاقتصاد، وكان صدى هذه الحلقات طيبًا لدى جمهور الناس.
وأذكر أن من الأجوبة التي حظيت بتعليق الناس في قضية الزكاة: ما يتعلق برواتب الموظفين، فإن لي في كتابي اجتهادًا خاصًّا بشأن الرواتب الكبيرة، كرواتب أهل الخليج وأهل أوروبا وأمريكا ونحوها، فقد رجحت فيها: أن يدفع الموظف فيها زكاة ما بقي من راتبه بعد حوائجه الأصلية «المسكن والنفقة والكسوة والعلاج والتعليم ونحوها»، إذا بلغ نصابًا، يزكيه في الحال، ولا ينتظر حتى يحول عليه الحول، بناءً على ما ذهب إليه بعض الصحابة «ابن مسعود وابن عباس ومعاوية»، مِن وجوب زكاة المال المستفاد عند قبضه إذا بلغ نصابًا، إذ لم يصح حديث في اشتراط الحول -إلا في المال الذي زكي من قبل فلا يزكى إلا بعد عام- وكان ابن مسعود يزكي العطاء «راتب الجنود» يسلم لهم نصيبهم، ويأخذ من كل ألف خمسة وعشرين (ربع العشر أو 2.5%) من باب «الحجز في المنبع».
ولكني عندما سُئلت عن الموظفين في مصر، قلت: إنهم -بصفة عامة- لا ينطبق عليهم هذا الأمر، فإن أكثرهم لا يكاد راتبه يكفي حاجاته الأساسية حتى نهاية الشهر. بل الحق يقال: إن كثيرًا من الموظفين المصريين هم ممن يستحقون الزكاة لا ممن تجب عليهم الزكاة!!
وأذكر أني سجّلت هذه الحلقات بنظارة قريبة إلى اللون الأسود، حتى نبهني صديقي وبلديي وقريبي العالِم المحقق الشيخ سيد أحمد صقر «ابن صفط تراب» على هذه النقطة، وقال: إن الذي لا يعرفك، ويراك بهذه النظارة يحسب أنك كفيف البصر!! وأنصحك أن تخلع هذه النظارة وتغيرها في الحال.
وكانت نصيحة في محلها، وعجبت كيف لم ينبهني أحد على ذلك، وقد استخدمتها عدة سنين. وفي الحال ذهبت إلى نظاراتي وغيّرتها، مكتفيًا بلون بني خفيف، أكثر قبولًا، وبدت الأشياء في عيني أكثر حسنًا مما كانت. وقد قال الشاعر المهجري إيليا أبو ماضي: كن جميلًا تر الوجود جميلًا!
ولم يقدر لي أن أدخل التليفزيون المصري إلا بعد أكثر من عشر سنوات، حين سجَلتْ معي الإعلامية المتألقة الفاضلة كريمان حمزة، ثلاث حلقات عن «الوسطية في الإسلام»، أذيعت منها حلقتان، ومنعت الثالثة، وأخبرتني الأخت كريمان: أن جهات الأمن هي التي منعت إذاعة الحلقة الثالثة، في حين أرسلت إليها رئاسة الجمهورية شكرًا على هذه الحلقات!!
كما أخبرتني كريمان: أن دخول التليفزيون أمسى محرمًا عليَّ وعلى مجموعة من الإسلاميين الملتزمين، ولم أجد إلا بيت شوقي أردده: أحرام على بلابله الدوح ** حلال للطير من كل جنس؟!
أما الإذاعة المصرية، فلم يقدر لي دخولها إلا في شهر ربيع الأول سنة 1407هـ - نوفمبر 1986م، من خلال برنامج «شاهد على العصر» الذي كان يعده ويقدمه الإذاعي الكبير الأديب الشاعر، الأستاذ عمر بطيشة، وقد سجل معي لقاءً طويلًا حول الإسلام والصحوة والقضايا المعاصرة، استغرق حلقتين من برنامجه.
هذا بالإضافة إلى أحاديث كان يأخذها مني بعض المذيعين لإذاعة القرآن الكريم.