في موسم الحج، سنة (1392هـ - 1972م) خرج الأستاذ الهضيبي لأداء شعيرة الحج إلى بيت الله الحرام، لينضم إلى الآتين من كل فج عميق {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} (الحج:28)، وكان من المنافع المشهودة في ذلك الموسم: أن لقيه الإخوان الذين قدموا من أقطار شتى من أنحاء العالَم.
ولم يقدر لي أن أذهب إلى الحج في هذا الموسم، إذ لم يكن لديّ علم بأن الأستاذ على نية السفر إلى الحج؛ وهكذا قدر الله أن لا أرى المرشد في الحج، ولا ما بعد الحج، حتى وافاه الأجل في 14 من شوال سنة 1393هـ - الموافق 11 من نوفمبر سنة 1973م.
كلمة عن الأستاذ الهضيبي:
تحدثت عن الأستاذ حسن الهضيبي في الجزء الثاني، بمناسبة اختياره مرشدًا عامًّا للإخوان، بعد وفاة مرشدهم الأول حسن البنا. وكانت شخصية الأستاذ الهضيبي مختلفة تمام الاختلاف عن شخصية الأستاذ البنا، التي تتلمذ عليها الإخوان، وعايشوها، وأخذوا عنها، طوال عشرين عامًا، التي عاشها الإمام الشهيد مرشدًا ومربيًا وموجهًا للجماعة.
كانت شخصية البنا: شخصية المعلم الداعية، الذي يجيد الخطبة إذا خطب، والمحاضرة إذا حاضر، والمقالة إذا كتب، والتأليف إذا ألف، والحديث إذا حدث. وكان يأسر سامعه بحسن حديثه، وحلو نكاته. وهو الذي شد هذه الجموع إلى الله، وجندهم لخدمة الإسلامة.
وكانت شخصية الهضيبي: شخصية القاضي، الذي يستمع كثيرًا، ويتكلم قليلًا، فإذا تكلم كان كلامه حكمًا صارمًا، يجب على الآخرين الإذعان له، وتنفيذه بكل دقة، ولم تكن لديه مؤهلات الخطابة والمحاضرة والتصنيف.
كان البنا ذا ثقافة واسعة، تكوّنت لديه من الدراسة في «دار العلوم»، ومن قراءاته الخاصة الطويلة والمتنوعة، فهو عالِم متبحر في علوم اللغة العربية وآدابها، وفي العلوم الشرعية: العقيدة والفقه والأصول والتفسير والحديث والسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، وله إلمام جيد بالعلوم الاجتماعية.
وكان الأستاذ الهضيبي: حقوقيًّا متميزًا، متفوقًا في علم القانون وفروعه، وما يتصل به من معارف، قارئًا جيدًا في علم الفقه، ولا سيما في «المحلى» لابن حزم.
كان حسن البنا رجلًا «شعبيًّا» قريبًا من الناس، يلقاه العالم والفلاح وابن القرية الفقير، فلا يشعر بأنه يكلم إنسانًا من طبقة فوق طبقته، بل يندمج معه، ويحس بأنه من البنا، وأن البنا منه.
وكان حسن الهضيبي -بحكم منصبه ودرجته الإدارية والمالية ورتبة «البكوية» التي يحملها- رجلًا «أرستقراطيًّا» كما يقولون، لا تكلفًا منه، ولا تعاليًا على أحد، ولكن هكذا شاءت له الأقدار أن يكون!
كان البنا صاحب قلب حي، وعاطف جياشة، وكان إذا لقي الإخوان كل أسبوع في «حديث الثلاثاء» يبدأ حديثه بما يسميه: «عاطفة الثلاثاء»، يوقد فيها جذوة الإيمان والربانية في الصدور، وشعلة الحب والأخوة في القلوب. فإن الحب في الله من أوثق عُرا الإيمان.
وكان الهضيبي صاحب عقل يقظ، يزن الأمور والأشخاص والأحداث والمواقف بميزان دقيق، ولم يكن للعواطف عنده كبير اهتمام بحكم تكوينه ومسار حياته.
كان أقرب الناس إلى حسن البنا في الجماعة: مكوّنين من طبقات شتى، من علية القوم، ومن أواسط القوم، ومن فقراء القوم، كما يظهر في تكوين مكتب الإرشاد العام الذي يقود الجماعة.
وكان أقرب الناس إلى حسن الهضيبي: من كانوا في مثل طبقته، من العلْية غالبًا، وإن لم يبعد الآخرين أو يطردهم، ولكن كما قيل: شبيه الشيء ينجذب إليه، وإن الطيور على أشكالها تقع. هذه سنة ماضية.
واختلاف ما بين الشخصيتين للمرشدين: الأول والثاني: كان له أثر -على المدى الطويل- في أنفس بعض الإخوان. وربما كوّن بعضهم لنفسه فكرة غير صحيحة عن المرشد الثاني، وأنه رجل متكبر أو متعال على غيره. ولم يكن هذا صحيحًا عند من اقترب من الرجل، وعرفه عن كثب.
كان للأستاذ الهضيبي كلمات مأثورة في بعض المواقف، تُعَدّ من روائع الحكم، حفظها الإخوان ورددوها مثل قوله: أخرجوا الإنجليز من قلوبكم يخرجوا من أرضكم! وقوله: أقيموا دولة الإسلام في صدوركم تقم على أرضكم!
وكان له نظرات صائبة في الأحداث والمواقف. فعندما كان الإخوان يتحدثون عن المحنة التي أصابتهم في عهد الملكية، يقول لهم: لا تكثروا من الحديث عن محنة الماضي، فإنكم لا تدرون ما يخبئه المستقبل!
ومن المواقف التي تذكر له: أنه حين قُدِّم إبراهيم عبد الهادي عدو الإخوان، ليحاكم -في عهد الثورة- محاكمة عسكرية، عارض الهضيبي ذلك، وقال: يجب أن يحاكم أمام محكمة مدنية، وتوفر له كل وسائل الدفاع عن نفسه. وهو هنا متمسك بقوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة:8)، كما أنه يريد أن يتقرر هذا المبدأ، وهو أن يحاكم كل متهم أمام قاضيه الطبيعي. أما المحاكمات الاستثنائية فلا ضمان لها.
وأنا لم أختلط بالأستاذ الهضيبي كثيرًا، فقد كنت طالبًا في كلية أصول الدين وفي تخصص التدريس، أيام ولايته، ولكني لقيته عدة مرات من قريب، ووجدته رجلًا سهلًا سمحًا، قريبًا، على غير ما يظن به.
أول ما لقيته كان في مدينة المحلة الكبرى، وقد أقام الإخوان له حفلًا كبيرًا، كنت من المتحدثين فيه، وكنت شابًّا متحمسًا، فكانت كلمتي معبرة عني، وعن شخصيتي في ذلك الوقت.
وعندما تحدث هو بعد خطباء الحفل قال: أنا لا أحسن الخطب الحماسية مثل الشيخ القرضاوي، ولكني أنصحكم بكذا وكذا أو بكذا. فكانت كلماته أشبه بتعليمات محددة. ودعاه رجل المحلة الأول -رجل البر والخير- عبد الحي باشا خليل في بيته، فذهبنا معه، وكان موضع التجلة والاحترام من هؤلاء الأعيان. وكذلك ذهبنا معه في اليوم التالي لزيارة مصنع المحلة للغزل والنسيج، فكان الجميع يحترمونه ويقدرونه. وزارنا في المحلة مرة أخرى، ومعه سيد قطب، وعبد الحكيم عابدين، فتعرفت به أكثر.
وذهبت معه مرتين قبل الثورة إلى مدينتين من مدن مصر: مرة في مدينة كفر الشيخ، ومرة في مدينة السويس. وكان معه في كلتا الزيارتين: الشيخ أحمد حسن الباقوري، فقد كان قريبًا منه. وكان الإخوة في قسم نشر الدعوة يريدون أن أحضر مع المرشد والباقوري لأكملهما، فكلاهما يحدث الخاصة، ولا يخاطب الجماهير. وكأن الأستاذ المرشد استراح إلى ذلك، فكان يرحب بوجودي.
وفي عودتنا من رحلة السويس، كنت رفيقهما في السيارة التي حملتهما، وهنا اقتربت أكثر من الأستاذ الهضيبي، واستمعت إلى بعض نكاته، ومنها نكات يعدها بعض الناس خارجة! ويبدو أن الأستاذ الهضيبي -من خلال هاتين المرتين- كوَّن عني فكرة حسنة. ففي أوائل الثورة في شهر أغسطس: أبلغت بأن الأستاذ المرشد يريدني أن أذهب لزيارة الإخوة في سوريا والأردن، أنا والأخ محمد عليّ سليم من إخوان الشرقية.
وقد تحدثت عن تفاصيل هذه الرحلة في الجزء الأول من هذه المذكرات. وبعد عودتي كتبت له تقريرًا عن الرحلة، ولما لقيته في مناسبة بعدها، قال لي: لقد قرأت تقريرك عن رحلتك إلى بلاد الشام، واهتممت به، وخصوصًا ما كتبته عن «حزب التحرير».
وعندما أنشأ عبد الناصر «هيئة التحرير» لتكون سنده الشعبي، بدلًا من الإخوان، وبدأت تحدث تحديات وصدامات في بعض البلدان، أرسلني الأستاذ المرشد لأجوب مدن الصعيد كلها من الفيوم إلى أسوان، لألقى الإخوان، وأحثهم على أن يتمسكوا بدعوتهم، ولا يذوبوا في أي جماعة أخرى، كما لا يصطدمون بأحد يريد أن يجرهم إلى الصدام بوسيلة وأخرى. وفعلًا قمت بهذه الرحلة، وكانت من أخصب الرحلات، وأكثرها بركة.
وعندما اعتقلنا في المرة الأولى في عهد الثورة في يناير 1954م، وأُخذنا إلى العامرية، ثم نقلونا -أنا وخمسة من الإخوان- إلى السجن الحربي: أنزلونا في سجن رقم (4)، وكان فيه الأستاذ الهضيبي وكبار الإخوان، وكان يغلقون الزنازين في أول الأمر علينا، ثم فتحوها لنا. فكنا نصلي جماعة؛ وهنا أمرني الأستاذ أن أؤم الإخوان، وقد أطلت في بعض الصلوات الجهرية، فنصحني ألّا أطيل، مراعاة للكبير والمريض وذي الحاجة.
ثم نقل الأستاذ وكبار الإخوان إلى عنبر الإدارة، وكان هذا آخر عهدي به، حتى إني لم أحضر اللقاء الكبير الذي أقيم في المركز العام يوم خروج الإخوان من السجن الحربي، بعد أن اصطلحوا مع عبد الناصر، فقد كنت المعتقل الوحيد الذي تأخر الإفراج عنه يومًا واحدًا، كما حكيت في الجزء الثاني من هذه المذكرات.
حتى إني حين اعتقلت في المرة الثانية بعد حادث المنشية: بقيت فترة في حجز مباحث المحلة الكبرى، التي تولت التحقيق معي فلم أصل إلى السجن الحربي إلا يوم خروج الأستاذ الهضيبي منه بعد أن صدر الحكم عليه وعلى ستة معه بالإعدام!
وقد تحدثت في الجزء الماضي عن الخلاف الذي حدث بين الأستاذ الهضيبي وجماعة من الإخوان القدامى، على رأسهم الأستاذ البهي الخولي، والمشايخ: الغزالي، وعبد المعز عبد الستار، وسيد سابق، ومحمد جودة، وآخرون. وأني كنت -أنا وأخي العسال، والدمرداش، وآخرون- أقرب إلى صف المشايخ، لاعتبارات ذكرتها هناك. فلما وقعت الواقعة؛ انضممنا إلى ركب الجماعة، وحوكمنا مع من حوكموا، وعذبنا مع من عذبوا، ونرجو أن يكون ذلك في ذات الله تعالى، وألّا نحرم أجره عند الله.
لا يختلف اثنان من الإخوان -حتى من المعارضين- في أن الأستاذ الهضيبي مسلم عظيم، وأنه من الذين أخلصوا دينهم لله، فليس من المتاجرين بالدين ولا بالدعوة، ولا يريد من وراء عمله للإسلام جزاءً ولا شكورًا، وأنه رجل نظيف لا يماري أحد في نظافته، وأنه لم يسع إلى قيادة الإخوان، ولكن الإخوان هم الذين سعوا إليه، وأنه لم يستفد لنفسه ولا لأسرته من وراء الدعوة شيئًا ماديًّا قط، إلا ما أصابه من لأواء في سبيل الله، وأنه رجل صلب لا يداهن في دينه، ولا يجامل أحدًا في أمر الدين، وهو يقول الحق ولا يخشى فيه لومة لائم، وأنه أوذي في الله -مع كبر سنه- فما وهن ولا ضعف ولا استكان، ولا طأطأ رأسه لمخلوق، وأنه كان يعامل عبد الناصر ورجال الثورة بعزة واستعلاء، معاملة الند للند، والسيد للسيد، اعتزازًا منه بأنه يمثل دعوة الإسلام.
ولعل هذه النقطة الأخيرة هي التي جعلت بعض الإخوان يقولون: إن موقف الأستاذ الهضيبي من رجال الثورة عامة، ومن عبد الناصر خاصة، ومعاملتهم باستعلاء وربما بازدراء! هي التي ولّدت هذه الجفوة بين الطرفين، التي انتهت إلى خصومة، ثم انتهت إلى صراع بين الطرفين.
ويقولون: لو كان حسن البنا في موقف حسن الهضيبي لكان له موقف آخر، ولاستطاع برفقه وتلطفه ولين طبعه: أن يجذبهم إلى ساحته، وأن يأخذهم بالتي هي أحسن، وأن يهتدي بقول الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159)، ولكنه نفر منهم ونفروا منه، وأغلظ عليهم وأغلظوا له، وساء ظنه بهم، فساءت ظنونهم بالجماعة.
هكذا رأيت بعض الإخوان يفكرون، وسمعتهم يتكلمون، فهل هذا المنطق مسلّم؟ وأن موقف الأستاذ الهضيبي هو السبب الأول فيما جرى؟! ومن يدري ماذا كان سيفعل حسن البنا لو كان حيًّا؟ فهذا علمه عند الله، ولا يملك أحد أن يقوّل غيره في ذلك ما لم يقل.
على أن الذي يبدو لي من تسلسل الأحداث، ومما أظهره عبد الناصر من أفكار وتوجهات: أن الرجل لم يكن يريد لأحد -لا الإخوان ولا غيرهم- أن يشاركه في الحكم، ولو بالمشورة والتسديد. وقد أعلن في الأيام الأولى للثورة: أنها مستقلة ولا وصاية لأحد عليها.. وقال بصراحة للإخوان: إنه يريد أن يضغط على زر فتتحرك مصر من الإسكندرية إلى أسوان، ويضغط على زر آخر، فتتوقف مصر من الإسكندرية إلى أسوان!
كان في إهاب عبد الناصر «دكتاتور» يريد أن يستبد بالأمر، ولا يكون لأحد معه رأي ولا قول، إلا ما كان يسير في ركبه، ويدور في فلكه. ومثل هذا المستبد المتجبر في الأرض؛ لا يمكن أن ينسجم مع أي رجل ينصح له، أو يقول له كلمة حق، أو يأمره بمعروف، أو ينهاه عن منكر، سواء كان حسن البنا أم حسن الهضيبي.
بين الهضيبي والغزالي:
وربما تساءل بعض الإخوة هنا عن موقف الشيخ الغزالي، وما كان من خصومة بينه وبين الأستاذ الهضيبي، اشتد لهيبها بعد فصل الشيخ من الجماعة، فأطلق لقلمه العنان، فقال ما قال. وكان ذلك من آثار الفتنة التي بذر عبد الناصر بذورها بين الإخوان بعضهم وبعض. ومما هيج الشيخ أكثر، واستثار غضبه: أن بعض المتحمسين من الإخوان تحداه، وهدده بالقتل إن تكلم أو كتب.
ومع هذا، حين تبين له طغيان عبد الناصر، وسوء موقفه من الإسلام، ومن دعوة الإخوان، وسمع ما سمع عن التنكيل والتعذيب الذي تجرع مرارته إخوانه في السجون والمعتقلات، وعن صلابة الأستاذ الهضيبي وثباته في وجه الجبابرة، وأنه لم يحن لهم رأسًا، ولم يوطئ لهم ظهرًا: غير موقفه من المرشد الهضيبي ونوّه بموقفه، وأشاد بإيمانه ورجولته.
وحين أُفرج عنه، سارع بالذهاب إلى منزله، ليهنئه ويصافحه ويعانقه بحرارة وإخلاص، وقد قابله المرشد بنفس الحرارة وروح الأخوة، التي كانت دائمًا إحدى السمات الأولى المميزة لعلاقات الإخوان بعضهم ببعض.
بعد أن كتب الغزالي ما كتب من مقالات -في فترة الغضب بعد فصله من الجماعة- رأى أن يطوي بعضها فلا ينشره في كتاب، ونشر بعضها ثم حذفه، بعد أن هدأت نفسه، واستجابت لنصح بعض إخوانه. وأبقى بعض الأشياء -على ما فيها من آثار الحدة والغضب- للتاريخ، ومع هذا عقّب في إحدى الحواشي عليها بقوله: «في هذه الصفحات مرارة تبلغ حد القسوة، وكان يجب ألا يتأدى الغضب بصاحبه إلى هذا المدى، بيد أن ذلك -للأسف- ما حدث. وقد عاد المؤلف إلى نفسه يحاسبها وتحاسبه في حديث أثبته آخر هذا الباب»(1).
ثم عاد آخر الباب إلى الحديث عن الأستاذ الهضيبي -رحمه الله وأكرم مثواه- فقال: «إنه ما ادعى لنفسه العصمة، بل من حق الرجل أن أقول عنه: إنه لم يسع إلى قيادة الإخوان، ولكن الإخوان هم الذين سعوا إليه، وإن من الظلم تحميله أخطاء هيئة كبيرة مليئة بشتى النزعات والأهواء. ومن حقه أن يعرف الناس عنه: أنه تحمل بصلابة وبأس كل ما نزل به، فلم يجزع ولم يتراجع، وبقي في شيخوخته المثقلة عميق الإيمان، واسع الأمل، حتى خرج من السجن. الحق يقال.. إن صبره الذي أعز الإيمان، رفعه في نفسي، وإن المآسي التي نزلت به وبأسرته لم تفقده صدق الحكم على الأمور، ولم تبعده عن منهج الجماعة الإسلامية منذ بدأ تاريخها.. على حين خرج من السجن أناس لم تبق المصائب لهم عقلًا. وقد ذهبت إليه بعد ذهاب محنته، وأصلحت ما بيني وبينه، ويغفر الله لنا أجمعين». اهـ.
وكان مما هز الشيخ الغزالي وقدّره من مواقف للأستاذ الهضيبي: أنه أوصى في مرض موته أن يُدفن في مقابر الصدقة، التي يُدفن فيها الفقراء والغرباء! وهو من هو منزلةً ومنصبًا وجاهًا. فهذا إن دل على شيء؛ فإنما يدل على أن الرجل من الله بمكان أي مكان! ولم يكن من عبّاد المظاهر، التي فتنت الكثيرين، ولا أزكيه على الله.
رحم الله حسن الهضيبي وغفر له، وتقبله في الصالحين من عباده، وأجره أجر المجتهدين على ما أخطأ فيه، وجزاه عن دينه وأمته خير ما يجزي الدعاة الصادقين، الذين صبروا وصابروا ورابطوا، والذين أوذوا في أنفسهم وأهليهم وإخوانهم، {فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران: 146-148).
.....
(1) حاشية (ص: 216) «من معالم الحق».