كان من أهم ما حدث في هذا العام، وفي شهر رمضان المبارك: ما فاجأنا وفاجأ العالَم كله من حدث اهتزت له القلوب طربًا، وابتسمت له الثغور فرحًا، ولهجت به الألسنة ثناءً، وسجدت الجباه من أجله لله شكرًا.
إنه الحدث الذي عوضنا عما فوجئنا به من قبل في الخامس من حزيران «يونيو» 1967م، والذي خسرت به الأمة ما خسرت، وكسبت إسرائيل ما كسبت، وضاعت به -إلى اليوم- القدس والضفة والقطاع والجولان، بالإضافة إلى سيناء التي استردتها مصر فيما بعد.
وهذا الحدث الذي أحيا الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، بل الأمة الإسلامية من المحيط إلى المحيط، هو: حرب العاشر من رمضان، وأنا أحب أن أسميها دائمًا: معركة العاشر من رمضان، وليس السادس من أكتوبر؛ لأن شهر رمضان ونفحاته وبركاته وإمداداته التي هبت نسماتها على الجنود الصائمين والمصلين؛ كان له أثره في تحقيق النصر، وإمداد المقاتلين بشحنة إيمانية دفعتهم إلى البذل والفداء، أما أكتوبر، فليس له أي إيحاء أو دخل في هذا النصر.
ما زلت أذكر هذا اليوم المشرق، وقد خرجت من درس العصر في مسجد الشيخ خليفة؛ فإذا الأنباء المبشرة تستقبلني، وإذا الهواتف تدق ولا تتوقف، للاتصال بي من هنا وهناك، مهنئة بما وقع، شاكرة لله تعالى، الذي صدق وعده، وأعز جنده، وهزم الظالمين وحده.
في أول الأمر خفت أن نكون مخدوعين، كما خدع كثيرون أيام نكبة 5 يونيو 1967م، فقد كانت إذاعة القاهرة تذيع الأكاذيب على الناس، وتخدرهم بأخبار لا أساس لها: طائرات إسرائيلية تسقط بالعشرات، والحقيقة أن طائراتنا هي التي ضُربت في مدرجاتها، ولم تطر حتى تسقط، ولكن كانت الشواهد كلها تؤكد أن هذه حقيقة وليس حلمًا، وأنه واقع وليس من نسج الخيال.
ألا ما أحلى مذاق النصر، وخصوصًا بعد تجرع مرارة الهزيمة المذلة من قبل! وللأسف طالت هزائم الأمة في معارك شتى، وذرفت الدموع كثيرًا على هزائمها، حيث لم تغن الدموع، وآن لها أن تجد مناسبة تفرح بها بعد حزن، وأن تضحك بعد طول بكاء.
لقد عبر الجيش المصري القناة! صنع قناطر أو جسورًا للعبور عليها، مكونة من أجزاء، تركب في الحال، ويوصل بعضها ببعض، فتكون جسرًا فوق الماء تعبر فوقه المصفحات والمجنزرات والدبابات إلى البر الآخر، وقد بدأ بالعمل فيها من سنوات، ثم بدأت تجربتها، والتدريب عليها منذ شهور، في تكتم وسرية بالغة، وهذا عمل مصري خالص، لم يشترك فيه خبراء أجانب؛ ولهذا حُفظ السر، ولم يبح به أحد.
بعد عبور القناة بسلام وأمان ونجاح؛ اقتحمت القوات المصرية: ما عُرف باسم خط بارليف، الذي أقامته إسرائيل، ليكون حاجزًا ترابيًّا بعد الحاجز المائي، وكانت العدة قد أعدت لتخطيه بإحكام ومهارة.
وكان كل شيء معدًّا بجدارة وأناة وحكمة، ولم يكن هناك شيء مرتجل، وقام كل سلاح بدوره: سلاح المهندسين، وسلاح الفرسان والمدرعات، وسلاح الطيران، كل قام بما هيئ له، وما كلف به.
وقد اختير التوقيت المناسب لبدء المعركة، وكان رمضان هو الوقت الملائم نفسيًّا وروحيًّا، لما يمد به الجنود من نفحات، وما يعطيهم من شحنة روحية، وكان أكتوبر مناسبًا، من حيث المناخ، وليس فيه حرارة الصيف، ولا برد الشتاء.
وكان الوقت مناسبًا من ناحية أخرى: إنه يوم الغفران، أو عيد الغفران عند اليهود، فلننتهز غفلتهم وانهماكهم في الاحتفال بالعيد، لنفاجئهم بضربتنا، كما فاجئونا بضربتهم في يونيو 1967م. ولا يقال: كيف نباغتهم ولا ننذرهم؟ فمثل هذه الحرب لا تحتاج إلى إنذار ولا إبلاغ؛ لأنها حرب دفاع للمحتل، وهي مستمرة معه لم تتوقف.
وأهم من هذا كله: الروح المعنوية التي كان يحملها المقاتل المصري: إنها روح الإيمان؛ الإيمان بالله تعالى، وأنه ينصر من نصره، والإيمان بأننا أصحاب الحق، والحق لا بد أن ينتصر، والباطل لا بد أن يزهق، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (الإسراء:81).
وقد عملت العودة إلى الله، التي تنادى بها الجميع، وشعروا بالحاجة إليها بعد حرب 1967م، عملت عملها في تجديد الإيمان، وتقوية الأرواح، فتجلت أوضح ما تكون في ميدان القتال. وفرق كبير بين هذه الحرب وحرب يونيو 1967م، فقد كان العنصر الإيماني والروحي مغيبًا عنها تمامًا؛ لذلك لم يحالفها النصر.
كانت كلمة السر في حرب 1967م: بَرّ بحر جو، ولكن الواقع يقول: إنهم لم ينتصروا في بر، ولا بحر، ولا جو، ولم يكن الذنب ذنب الجيش وجنوده، ولكن ذنب القادة الذين جروهم إلى حرب لم يخططوا لها، ولم يهيئوا لها الجند، ولم يعدوا لها العدة، ولم يأخذوا لها الحذر، كما أمر الله.
لقد ترك الجنود أسلحتهم، وتركوا دباباتهم ومصفحاتهم، لم يحاولوا أن يشعلوا فيها النار بعد أن تركوها، حتى لا يغنمها العدو ويستفيد منها؛ لأن هَمّ كل واحد منهم كان هو النجاة بنفسه، واللياذ بالفرار.
لقد اعتمدوا على الآلات فلم تغن عنهم الآلات، واتكلوا على السلاح فلم ينجدهم السلاح؛ لأن السلاح لآ يقاتل بنفسه، إنما يقاتل بيد حامله، ويد حامله إنما يحركها إيمان بهدف، وإيمان رسالة، وهذا لم يُعَبَّأ به الجنود.
يقول أبو الطيب: وما تنفع الخيل الكرام ولا القنا ** إذا لم يكن فوق الكرام كرام!
ويقول الطغرائي في لاميته: وعادة السيف أن يُزْهَى بجرهره ** وليس يعمل إلا في يدَيْ بطل!
ماذا تجدي خيل بغير خيال، وفرس بغير فارس، وسيف صارم بغير بطل يضرب به؟! فلا عجب أن كانت الهزيمة الثقيلة المذلة في 1967م، فهذه نتيجة منطقية لمقدمتها، كما قال العرب: إنك لا تجني من الشوك العنب، وصدق الله إذ يقول: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا} (الأعراف:58).
سُئل الرئيس حسني مبارك، عندما كان نائبًا للرئيس السادات في (27/9/1975م)، سأله بعض الصحفيين: ماذا أخذنا من دروس 1967م في الإعداد لقتال 6 أكتوبر؟ قال: باختصار.. في 1967م.. لا تخطيط، لا إعداد، لا تدريب، لا تنسيق بين العمل السياسي، والعسكري. اهـ.
وأهم من ذلك: أننا لم نزود جنودنا بالإيمان، في حين تجتهد إسرائيل أن تزود جيشها بتعاليم التوراة، وتوجيهات التلمود، ونصائح الحاخامات. حتى العلمانيون من الإسرائيليين يحرصون على ذلك.
وكان من ثمرات محنة 1967م: أنها أيقظت في الناس المعنى الديني، والضمير الديني، والرجعة إلى الله، وبدأت حركة إيمانية قوية في القوات المسلحة، وكان الحرص على إقامة الصلاة، وقام وعّاظ الأزهر بدورهم في التنبيه والإحياء، وكان هناك شعور عام بالحاجة إلى الله، والدعاء بنصر الله، فلا غرو أن كان شعار المعركة: «الله أكبر».
إن الجندي المصري في 1973م هو نفسه في 1967م من حيث الشكل والمظهر، ولكنه غيره من حيث الباطن والجوهر، إن الإنسان إنما يقاد من داخله، لا من خارجه، ولا يقود الناس في بلادنا شيء مثل الإيمان، ولا يحركهم محرك مثل الإيمان.
وهذا ما لم تفهمه قيادة 1967م، فقد عزفوا على منظومة القومية، ومنظومة الاشتراكية، ومنظومة الثورية؛ فلم تحرك ساكنًا، أو تنبه غافلًا في الجندي المصري، أو الجندي العربي عمومًا.
ولكنك إذا حركته بـ «لا إله إلا الله، والله أكبر» إذا رفعت أمامه المصحف، إذا قلت: يا ريح الجنة هبي، إذا ذكرته بالله ورسوله، وذكرته بالأبطال العظام: خالد، وأبي عبيدة، وسعد، وطارق، وصلاح الدين، وقطز، وعبد القادر الجزائري، وعمر المختار؛ فقد خاطبت جوانيته، ودخلت في أعماقه، وأوقدت جذوته، وحركت حوافزه، وبعثت عزيمته؛ وهنا لا يقف أمامه شيء، إنه يصنع البطولات، ويتخطى المستحيلات؛ لأنه باسم الله يتحرك، وباسم الله يمضي، وعلى الله يتوكل: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق:3)، {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (آل عمران: 101).
ولأن إيماننا لم يكن كاملًا؛ كان نصرنا غير كامل أيضًا، فعلى قدر الإيمان يكون النصر؛ ولهذا ابتلينا بقضية «الثغرة» والتفاف العدو علينا، وهو ما كلفنا الكثير من الجهد، وأفقدنا الكثير من ثمرات النصر.
مؤتمر الحضارة العربية بين الأصالة والتجديد في بيروت:
في هذه السنة الدراسية (1973 - 1974م) دعت الجامعة اللبنانية في بيروت إلى مؤتمر كبير، يدور حول موضوع أساسي ومهم هو: «الحضارة العربية بين الأصالة والتجديد». وكان يشتمل على عدة محاور علمية، وأدبية، ودينية، وفلسفية، واقتصادية، واجتماعية. ودعت للمشاركة فيه عددًا من كبار الباحثين والمفكرين، وممثلين عن الجامعات العربية في الوطن العربي.
وكانت كلية التربية في قطر ممن دُعي إلى هذا المؤتمر، وكنت قد قرأت الدعوة، ووجدت من عناصر البحث: الفقه الإسلامي، فأعددت بحثًا عن «الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد».
وكانت الكلية قد رشحت لهذا المؤتمر الزميل الكريم والصديق العزيز الدكتور ماهر حسن فهمي، رئيس قسم اللغة العربية، وأستاذ الأدب العربي، وقد أعد هو الآخر بحثًا حول تخصصه في «الأدب العربي»، وكان الدكتور ماهر من خيرة من عرفت من أساتذة الأدب العربي، وسعدت بزمالته زمنًا طويلًا في رحاب جامعة قطر، حتى أحيل على التقاعد، ثم توفي في حادث سيارة رحمه الله.
وقد فوجئ الدكتور كاظم عميد الكلية بأني أعددت بحثًا للمؤتمر، وكأنه أحرج بأنه لم يرشحني، فقلت له: لا عليك، فإني أستطيع أن أذهب على حسابي، قال: بل تذهب على حساب الجامعة، ويذهب د. ماهر، على حساب الدولة. وسافرت أنا والدكتور ماهر، وحضرنا المؤتمر الذي استمر عدة أيام، وكان مؤتمرًا حافلًا بالشخصيات العلمية والفكرية، وبالبحوث الأصيلة والمجددة، وبالحوارات الحية.
هل حضارتنا عربية أم إسلامية؟
وكان أول ما نوقش في المؤتمر هو: عنوان المؤتمر ذاته، وهل حضارتنا عربية أم إسلامية؟ ودار نقاش طويل يحتد حينًا، ويخف حينًا حول هوية الحضارة. وكان الرأي الذي تبنيته وأعلنته: أن حضارتنا عربية وإسلامية معًا، فهي عربية بحكم أن آثارها مكتوبة باللغة العربية، وأن أهم عنصر في تأسيسها وإقامتها كان هو العنصر العربي، حتى إن مؤرخًا مثل: «غوستاف لوبون» المفكر الفرنسي المعروف، حين أرخ لهذه الحضارة آثر أن يسمي كتابه: «حضارة العرب»، مع أنه في الواقع والغالب يتحدث عن حضارة المسلمين.
وهي كذلك حضارة إسلامية، بحكم الدوافع والبواعث والفلسفة التي دفعت إلى إنشائها وإعلائها، فهي بواعث إسلامية لأهداف إسلامية، منبثقة عن تصور إسلامي ونظرة إسلامية للإنسان والعالَم والدين والدنيا.
وهي إسلامية كذلك بحكم العناصر التي شاركت فيها، فلم يكن العرب وحدهم، هم الذين صنعوا هذه الحضارة، بل شاركهم فرس وأفغان وهنود وروم ومصريون وأتراك وأفارقة، ومن أجناس شتى.
وهي إسلامية أيضًا بحكم الرقعة التي قامت فيها الحضارة، فقد وسعت العالم الإسلامي كله، بما فيه بلاد العرب والعجم، فنجد معالم الحضارة الإسلامية في إيران وهراة وسمرقند، كما نجدها في الهند، كما نجدها في إستانبول، مثلما نجدها في دمشق وبغداد والقاهرة وبلاد المغرب.
وكان المحور الثاني الذي أخذ حظًّا من النقاش، هو: الأصالة والتجديد، وما المراد بهما؟ ولم يكن مصطلح: «الأصالة والمعاصرة» قد شاع في ذلك الوقت، كما عرف بعد ذلك.
وكان الاتجاه العام للمؤتمر أن الأصالة والتجديد لا يتقابلان، حتى نقول: بين الأصال والتجديد، فكأننا مخيرون بينهما، مع أن كلًّا منهما مطلوب، فنحن نريد تجديدًا في ظل الأصالة.
والواقع أننا بقينا تلك الأيام في جو علمي وفكري حي، وكانت أيامًا خصبة ومثمرة، وقد ألقيت فيها بحثي عن الفقه بين الأصالة والتجديد، وبينت أوجه التجديد الذي ينبغي أن تدخل في الفقه من ناحية الشكل، ومن ناحية الموضوع، وقد نشرت البحث بعد ذلك في رسالة خاصة تحمل هذا العنوان نفسه.
ثم عدنا إلى الدوحة، وإن كنت لم أحصل من الجامعة على ثمن التذكرة، كما وعد، د. كاظم، ولكن ما كسبته من المؤتمر كان أغلى وأعظم من ذلك.