كان السفر إلى بيروت نقلة مهمة بالنسبة لي للخروج من قمقم قطر، والانفتاح نسبيًّا على العالم؛ فقد استفدت صحيًّا وجسميًّا من مصايف لبنان الجميلة، وما فيها من خضرة ونضرة ونعمة، واستفدت فكريًّا واجتماعيًّا بما لقيت من علماء ودعاة ومفكرين وناشرين.
في بيروت تعرفت على عدد من رجال الدعوة لأول مرة، مثل الأستاذ عصام العطار، الذي كان يقيم في بيروت في ذلك الوقت، وهو رجل أديب وشاعر وداعية من طراز ناضج، يجمع بين الفكر والعاطفة، ويتمتع بحاسة روحية عميقة، ورؤية سياسية واعية.
كما تعرفت لأول مرة على الدكتور حسن الترابي زعيم الحركة الإسلامية في السودان، والذي كان يزور بيروت في ذلك الوقت، وقد قاد الحركة الشعبية التي انتهت بإسقاط الحكم العسكري برئاسة عبود، وعودة الحكم المدني إلى السودان، وأذكر مما جرى بيني وبينه من حديث: أني قلت له: لعلكم تلتفتون إلى الجيش ونشر الدعوة فيه، حتى لا يقوم بانقلاب آخر ضدكم. فقال لي: نحن في الواقع لا نهتم بالجيش، وإنما نهتم بالشعب، وعندنا أن نكسب معلمًا في مدرسة خير من أن نكسب ضابطًا في الجيش. قلت: ولكن الجيوش الآن كثيرًا ما تنقلب على الحكم المدني، وتسيطر على مقدرات الشعوب. قال: لتنقلب، ونحن سنسقطها!
ولكن بعد مدة من الزمن يبدو أن الدكتور الترابي غيَّر رأيه، وخطط لثورة الإنقاذ التي قام بها الجيش، وكان هو أباها الروحي والفكري والعملي، وظلّ يسيرها بوريقات منه، وهو في سجنه الذي دخله بأمر منه، وقد انتهت الثورة التي صنعها باتهامه ومعاداته واعتقاله، ولعله الآن نادم على أنه غيّر رأيه القديم الذي أفضى إليّ به في بيروت، ولله في خلقه شؤون.
وكذلك تعرفت على الإخوة رجال الدعوة في بيروت: الكاتب الداعية الأستاذ فتحي يكن، والقاضي الداعية الشيخ فيصل مولوي، والصحفي الداعية إبراهيم المصري، وقد اجتهد الإخوة أن ينتفعوا بي في بعض المحاضرات والدروس في بيروت، فكانت لقاءات طيبة بالإخوان خاصة، وبالجمهور اللبناني عامة.
وتعرفت أيضًا على عدد من العلماء، منهم عالم حلب ومحدثها العلامة المحقق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، وقد كنت عرفته وأحببته قبل أن أراه، بما سمعته عنه من إخوانه وتلاميذه من أبناء سوريا، الذين لقيتهم في مصر، والذين لقيتهم في قطر، فلما لقيت الشيخ في بيروت صدَّق الخَبَرَ الخُبْرُ، وعرفت فيه العالم الفقيه المحدث اللغوي الأديب، التقي الورع، الذي يجمع إلى ورعه الظرف والفكاهة.
ومنهم محدث الشام العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وقد تعرفت عليه وعلى أبي غدة في منزل المحقق والناشر الإسلامي المعروف الشيخ زهير الشاويش، وكان منزله -ولا يزال- في حي "الحازمية" من بيروت، وقد كنت نشرت الطبعة الثانية من كتابي "الحلال والحرام في الإسلام" عند الشيخ زهير، وكانت على نفقة الشيخ فهد بن علي آل ثاني من شيوخ قطر، كما نشرت عنده كتاب "الناس والحق"، ثم كتبًا أخرى بعد ذلك، وقد تعرفت عنده على رجال فضلاء من زواره أذكر منهم الوجيه السلفي المعروف، أشهر رجال جدة في زمنه الشيخ محمد نصيف.
وكانت مزية بيت زهير الشاويش أنه يحوي مكتبة فيها من الكتب ما لا يوجد في غيرها، وقلّما يريد الإنسان كتابًا إلا وجده فيها، ناهيك بما فيها من مخطوطات ونوادر، فضلًا عن الكتب التي ينشرها، بالإضافة إلى أن الشيخ زهيرًا رجل كريم مضياف، فكثيرًا ما كانت تتغذى عقولنا على مكتبته، وتتغذى بطوننا على مائدته.
وبمناسبة الناشرين تعرفت على أكثر من واحد منهم في بيروت: بعضهم في هذه السنة، وبعضهم في السنين اللاحقة، منهم الأستاذ عادل عاقل، صاحب "دار الإرشاد" للنشر، وهو الذي بدأت عنده نشر كتاب "الإيمان والحياة"، وكتاب "العبادة في الإسلام"، ثم نشر لي بعد ذلك "عالم وطاغية" و"درس النكبة الثانية"، ثم "فقه الزكاة"، وغيرها.
وقد أغراني وعددًا من الإخوة في قطر أن ندخل معه شركاء في "دار الإرشاد" واستجبنا بالفعل لهذه الدعوة، وساهمنا بما معنا من مدخرات قليلة. ولكن سرعان ما خسرت الدار وصفيت، وبيعت أصولها لأحد الإخوة في بيروت، وكان لي فيها من أسهمي ومن حقوق تأليفي نحو (15000) خمسة عشر ألف ليرة لبنانية، وكانت الليرة تقارب النصف دولار، وقد ضاع عليّ هذا المبلغ إلى اليوم، فلم يصلني منه نقير ولا قطمير، وكان هذا المبلغ في ذلك الوقت (1969) يُشترى به سيارتان من نوع "المارسيدس"، وقد أصبح هذا المبلغ الآن لا يساوي عشرة دولارات، مع هبوط القوة الشرائية للدولار نفسه.
وقد كنت في مناقشة يومًا مع زميلي وأخي الدكتور علي السالوس، حول العملة الورقية إذا هبطت قيمتها هبوطًا فاحشًا، مثل العملة اللبنانية، والعملة التركية، والعملة السودانية، والعملة العراقية، وغيرها، وكان رأي السالوس: أن الديون القديمة تسدد باسمها لا بقيمتها. قلت له: لو أن الرجل الذي لي عليه 15000 ليرة لبنانية، قال: أريد أن أبرئ ذمتي وأدفع لك الدَّين الذي عليّ بسعر اليوم، فهل يجزئه أن يدفع لي ما لا يكفي لأن أتغدى به في مطعم؟ قال الشيخ: نعم يجزئه، كان عليه مبلغ معلوم معدود، وقد أعطاك المبلغ بنفس العدد!
ومنهم الأستاذ سعيد العبار صاحب "دار العربية" التي نشرت الطبعة الأولى من كتابي "مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام"، وللأسف كانت طبعة مليئة بالأخطاء إلى حد مثير. والحقيقة أنه لا يزعجني في النشر شيء كما تزعجني كثرة الأخطاء، ومنها أخطاء لا تغتفر، وأخطاء تفسد المعنى، وتناقض مقصود المؤلف، ومنها ما يسقط كلمات أو سطرًا أو سطورًا، وهو ما جعل علماء تركيا قديمًا يتوقفون في قبول "المطبعة" وإجازتها؛ خوفًا من تشويه كتب العلم والدين؛ لجهل أكثر عمال الطباعة بخلاف الناسخين الذين كانوا ينسخون الكتب قديمًا، فقد كانوا من أهل العلم والمعرفة.
ولا شك أن توقف علماء تركيا مرفوض، ولا يجوز ترك هذه المصالح العظيمة التي تقوم بها المطبعة خشية مفسدة الأخطاء الطباعية، وعلينا أن نتفاداها بما يمكننا من الوسائل، وحسن اختيار العاملين في الطباعة، وتصحيح "البروفات" ومراجعتها مرة بعد أخرى، حتى تخرج الكتب أقرب ما تكون إلى السلامة.
ومنهم الأستاذ رضوان دعبول، صاحب "مؤسسة الرسالة" الذي قدم من الرياض بعد أن كان يعمل بها مدرسًا للرياضيات، وقد بدأ يدخل ميدان النشر بتؤدة، ولكن بقوة، وكنت من أوائل الذين تعاونوا معه، وعقد معي عقدًا بنشر سلسلة "حتمية الحل الإسلامي" وأولها: "الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا"، ثم توالت كتبي عنده، وتطورت المؤسسة وتوسعت، حتى أصبحت تنشر الموسوعات، ولا سيما في علم الحديث ورجاله، وأصبح لديها مكتب للتحقيق يضم رجالًا من خيرة المتخصصين في العالم العربي، وخصوصًا من بلاد الشام، على رأسهم المحدث العلامة الشيخ شعيب الأرناؤوط، الذي سعدت بلقائه عدة مرات في منزل الأخ رضوان -أبي مروان في عمان- وهو رجل عالم ثقة متثبت هادئ النفس، بعيد عن الغلو والتفريط.
"العبادة في الإسلام"
وفي بيروت اتفقت مع "دار الإرشاد" لنشر كتابين لي، هما "العبادة في الإسلام" و"الإيمان والحياة".
كان كتابي الأول الذي دخلت به معترك التأليف أو التصنيف العلمي هو كتاب "الحلال والحرام في الإسلام"، وكان الكتاب الثاني هو كتاب "العبادة في الإسلام".
والذي دفعني إلى كتابته: أن مجموعة من علماء الأزهر كان على رأسهم الأستاذ النابه النشيط الشيخ رشاد خليفة، قد أسسوا دارًا للنشر سموها: "دار الجميع للنشر والتوزيع". وأرادوا أن يبدءوا نشاطها بكتاب علمي يخاطب العقل والقلب معًا، ليصدر في غرة شهر رمضان بعد أشهر قريبة، وطلبوا مني أن أكتب شيئًا عن "العبادة" وقيمتها ومكانتها وأثرها في الإسلام بمناسبة شهر الصيام والقيام.
واستجبت لدعوة الإخوة، وشرعت أكتب عن العبادة، لا عن أحكامها العملية، التي يتناولها علم الفقه، ولكن عن "فلسفة العبادة"؛ ولهذا كان علي أن أضع أمامي أسئلة أجهد في الإجابة عنها: ما العبادة؟ ومن نعبد؟ فقد عبد الناس في مختلف الأزمنة آلهة شتى ضلوا بها عن عبادة الله الخالق المعلِّم؟ ولماذا نعبد الله؟ وبماذا نعبده إذا عبدناه؟ وما المجالات التي عبد الله فيها: أهي الشعائر التعبدية المعروفة وحدها أم تشمل مساحة أوسع من ذلك؟ وماذا أصاب العبادة في الأديان السابقة من خلل وفساد؟ وما الإصلاح الذي جاء به الإسلام في مجال العبادة؟ فقد حرّرها من رقّ الكهنوت وجعل قبولها منوطًا بروحها لا بشكلها وطقوسها، ورفض الابتداع والتزيد فيها فحماها من المسخ والتحريف.
ثم ما أثر العبادات الكبرى في الإسلام في حياة الفرد والمجتمع من الصلاة والزكاة والصيام والحج؟
ثم ما هو المنهج الأمثل لتعليم العبادة؟ فقد لاحظت أننا نسيء إلى عبادتنا بطريقة تعليمها للناس.
وقد أخرجت الطبعة الأولى من الكتاب مختصرة لاستعجال الإخوة الناشرين لي، ثم أضفت إليه ما يقرب من حجمه في طبعته الثانية التي صدرت في بيروت.
كان من الرجال الذين حرصت على أن أهديهم كتابي (العبادة في الإسلام) بمجرد ظهوره أستاذنا البهي الخولي، وقد قرأ الكتاب بعناية، وقال لي: إني وجدت في ثنايا الكتاب روحًا ربانية شفافة، طالما أخفيتها عنا بمناقشاتك العقلانية، لقد خدعنا عقل الفقيه فيك عن قلب الصوفي! قلت له: هذه الروح يا أستاذ لا شك أنك أحد مصادرها الأساسية؛ فمنك اقتبسنا، وعليك تتلمذنا، ولا أرى تعارضًا بين التوجه الرباني والنقاش العقلاني.
قال: هذا صحيح، إذا وُضع كل منهما في موضعه.
"الإيمان والحياة"
ثالث كتاب صدر لي بعد "الحلال والحرام" و"العبادة في الإسلام" كان "الإيمان والحياة". وهذا الكتاب لم يطلبه أحد مني مثل الكتابين السابقين. ولكن فكرته انبثقت مني ومن داخلي.
فقد رأيت جل الذين يتحدثون عن العقيدة يعنون بإثبات الأدلة على صحتها، ولا سيما العقيدتين الكبيرتين والأساسيتين للأديان وخصوصًا الكتابية، وهما: وجود الله تعالى، وثبوت الوحي والنبوة.
وقد استخدم المتكلمون قديما بعض الأدلة التي لم تخلُ من اعتراض، مثل قولهم: العالم متغير، وكل متغير حادث، ولا بد له من محدث، وهو: الله. وركز الفيلسوف ابن رشد على دليل الإبداع في الكون ودليل العناية. وهما في الحقيقة دليلان قرآنيان، واتخذ الفيلسوف الألماني "كانت" من "الأخلاق" أو "الوازع الأخلاقي" دليلًا على وجود الله… إلى آخر ما ذكره الأستاذ عباس العقاد في كتابه "الله".
وتوسع بعض رجال العلم الغربيين في تعميق الدليل الكوني، وهو ما يشتمل عليه الكون من إبداع ونظام يستحيل أن يكون هذا كله قد تم من باب المصادفة، كما ناقش ذلك أ. كريسي موريسون رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك في كتابه "الإنسان لا يقوم وحده" الذي رد فيه على كتاب جوليان هيكسلي بعنوان "الإنسان يقوم وحده" أي مستغنيًا عن خالق مدبِّر، وقد تُرجم كتابه إلى العربية تحت عنوان "العلم يدعو إلى الإيمان"، كما شارك 30 عالمًا أمريكيًا في كتاب ينحو هذا المنحى، وهو: إثبات وجود الله تعالى عن طريق العلم، ونُشرت مقالات هؤلاء العلماء تحت عنوان "الله يتجلى في عصر العلم".
كنت أرى أننا في حاجة لبحث يثبت صحة العقيدة في الله، وفي الآخرة من زاوية أخرى غير الزاوية التي أشرنا إليها، وهي: آثار العقيدة المباركة في حياة الإنسان فردًا ومجتمعًا؛ فإذا كانت هذه العقيدة تثمر السكينة النفسية للفرد، وتمنحه الرضا والأمل والأمن والحب، فيحيا في ظلال سعادة روحية لا توازيها مُلك القصور والقناطير المقنطرة، كما أن لها أثرها في تزكية نفسه، وإحياء ضميره، وتنمية وازعه الأخلاقي، وإعطائه القدرة على الانتصار على طغيان غرائزه وشهواته، وعلى أن يتحكم في نزعاته وعاداته.
كما أن العقيدة لها أثرها في حياة المجتمع، وما المجتمع إلا أفراد تربطهم روابط مشتركة، فإذا صلح الأفراد بالعقيدة صلح المجتمع كله، كما أن البناء لا يصلح إلا بصلاح لبناته، ومن فضل العقيدة أنها تقوي نزعة الغيرية والإيثار عند الفرد، فيلتحم بغيره، ويتعاون معه على البر والتقوى، وتجعل المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا.
إذا كان للعقيدة الدينية هذه الآثار الطيبة التي قرأناها في التاريخ، ولمسناها في الواقع؛ فلا يمكن أن تكون هذه العقيدة باطلًا؛ لأن الباطل لا يمكن أن يكون من ورائه منفعة للناس، ولو نفع قليلًا منهم لكان يضر بأكثرهم، ولو نفع في وقت معين فلا يمكن أن ينفع في المدى الطويل، فحتى لو أخذنا بمذهب القائلين بالمنفعة "البراجماتيين" كان هذا اللون من البحث نافعًا من هذا الوجه.
وعلى هذا الأساس بدأت أكتب هذا البحث وأنشره أولًا مقالات في مجلة "نور الإسلام" التي تصدر عن إدارة الوعظ والإرشاد بالأزهر، وقد شدّت هذه المقالات إخواننا من علماء الأزهر النابهين من الدعاة والكتاب والباحثين، أذكر منهم: الواعظ الأديب الأستاذ أحمد عبد الجواد الدومي رحمه الله الذي قابلني وأصر على أن يقبلني؛ لما قرأه من مقالات عن "العقيدة والحياة" وشجعوني على الاستمرار فيها.
ولكني لم أصدر هذه المقالات في كتاب إلا بعد أن أُعرت إلى قطر، وأضفت إلى هذه المقالات فصولًا جديدة، وعمدت إلى نشرها بعنوان "الإيمان والحياة"؛ فقد رأيت أن القرآن يستخدم بدل كلمة "العقيدة" كلمة "الإيمان"، وهي أدل على مقصدي من كلمه العقيدة؛ فلماذا لا أستعمل الكلمة القرآنية؟ وهي أيضًا كلمه نبوية؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".
وصنف الحافظ البيهقي كتابًا من عدة مجلدات سماه: "الجامع لشُعب الإيمان"، فلا غرو أن اتجهت نيتي لتسمية كتابي "الإيمان والحياة"، وهكذا ظهر الكتاب، وعرفه الناس، وطبع ما لا يقل عن 40 مرة، ولله الحمد والمنة.
زيارة العسال في طريقه إلى لندن
وفي أواخر أيامنا في لبنان سعدت بزيارة الأخ أحمد العسال وأهله لنا في حمّانا، وهو في طريقه إلى لندن للالتحاق بجامعة كمبردج للحصول على درجة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية.
وكان الأخ أحمد قد حزم أمره، بعد أن ادخر مبلغا من المال خلال السنوات الخمس التي قضاها في قطر، وآثر أن يدع قطر وعمله فيها للذهاب إلى الغرب، والاحتكاك بالمستشرقين، والاستفادة من مناهج البحث عندهم، وساعد الأخ أحمد على اتخاذ قراره خفة حمله، فلم يرزقه الله بأولاد، والأولاد -وإن كانوا هبة ونعمة من الله من ناحية- فهم عبء وحاجز من ناحية أخرى؛ لهذا لم يكن من الصعوبة أن ينفذ ما عزم عليه، ويرحل إلى بلاد الفرنجة، ليتعلم اللغة الإنجليزية ويتقنها، ثم ليتعلم المنهج من القوم، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، وقد كانوا في الزمن الماضي يأتون إلى جامعاتنا في الأندلس وغيرها ليتعلموا منها؛ فآن لهم أن يقضوا بعض ديونهم لنا، وتلك الأيام نداولها بين الناس.
كنت فكرت فيما فكر فيه الأخ أحمد، وكم تشاورنا وتداولنا الأمر، ولكن وجدت الأولاد عقبة بالنسبة لي؛ فقد أصبح عندي 4 بنات، وتحتاج أسرتي إلى نفقة كبيرة في بلاد الغرب لم أدخرها بعد، على أني كنت آمل أن أحصل على الدكتوراه أولا من الأزهر، ولم أقطع رجائي منه بعد.
بقي الأخ أحمد ضيفًا عندنا في حمانا نحو 3 أيام، ثم شد الرحال إلى مدينة الضباب؛ لينضم إلى الجامعة العريقة كمبردج، إحدى الجامعتين الشهيرتين في عالم الغرب هي وأكسفورد. وعمل مع المستشرق ذي النزعة الصوفية، الذي عمل معه كثير من الدارسين من العرب والمسلمين.. الأستاذ آربري، وكانت رسالته عن الإمام المحدث الفقيه الزاهد المجاهد: عبد الله بن المبارك وكتابه "الزهد".