في إجازة نصف السنة الدراسية من سنة 1963م قمت برحلة مع طلاب المعهد الديني إلى المملكة العربية السعودية، فقد كانت وزارة المعارف في قطر، توسّع على الطلاب في إجازة نصف العام من كل سنة دراسية، وتبعث بالطلاب في رحلات علمية تخدم دراستهم، إلى البلاد المجاورة، وتختار من كل مدرسة عددًا يشاركون في هذه الرحلة، وقد كانت الجهات التي يذهبون إليها تستضيفهم، في حين تعطيهم الوزارة «مصاريف جيب» في يد كل واحد منهم.
وقد كنت مخيّرًا بين دول الخليج، فاخترت المملكة العربية السعودية، فهي أليق بالمعهد الديني وطلابه، وطلبت من الوزارة أن يشترك أكبر عدد من طلاب المعهد في هذه الرحلة؛ باعتبار أن عددهم محدود، وباعتبار هذه الرحلة لونًا من التربية العملية المطلوبة لما تشتمل عليه من أداء العمرة، ووافقتِ الوزارة مشكورة على ذلك..
واخترتُ معي الأخ الكريم الشيخ عبد اللطيف زايد، مرافقًا ومشاركًا في الإشراف على الطلاب، وكان حسن الصلة بهم، محببًا إليهم، يتعامل معهم بالرفق وبالحزم معًا، وهذا هو المطلوب، ثم هو قريب مني كما أني قريب منه، فهو ابن الدعوة، وابن القرية، وهو من الناس الذين يؤثرون على أنفسهم، ومثل هذا يُريح في السفر، وقد قال الأقدمون: الرفيق قبل الطريق، والجار قبل الدار، كما اخترت أيضًا أحد مدرسي المعهد المهذبين، وهو الأستاذ بشير عزام، مدرس المواد الاجتماعية، وهو فلسطيني الجنسية، وكان ذا خلق كريم، وحسَن العلاقة بالطلاب، وقد اشترك عدد كبير من طلاب المعهد في هذه الرحلة، لم أعد أذكر عددهم، وكان المقرر أن نزور أربع مدن: الرياض، ومكة المكرمة، والمدينة المنورة، وجدة، هكذا على الترتيب.
زيارة الرياض:
وكانت البداية بالرياض، وهي أول مرة أزورها، وكانت في هذا الوقت صغيرة محدودة المساحة، لم يتطور عمرانها إلا قليلًا، مثل منطقة «الملزّ»، وقد نزلنا بها في فندق لا أذكر اسمه، وكان هناك عدد من المؤسسات والشخصيات يجب علينا زيارتها.
وأبرز الشخصيات التي لقيناها وأهمها هي: شخصية سماحة العلامة الشيخ محمد إبراهيم آل الشيخ، المفتي الأكبر للمملكة، وأشهر علمائها، وقد طلب منا أن نلقاه في مجلسه في منزله القديم، ورحب بنا، وسألني عن المعهد، فأعطيته فكرة موجزة عنه، وأنه يجمع بين القديم والحديث، وأن الطلبة يدرسون فيه ما يدرس زملاؤهم - تقريبًا - من العلوم والرياضيات - واللغة الإنجليزية، ويزيدون على ذلك التوسع في العلوم الشرعية والعربية.
قال لي: ألا تعتقد أن دراسة الطالب الشرعي لهذه العلوم الحديثة يؤثر على مستواه الدراسي في علوم الشريعة واللغة؟
قلت: بلى، ولكننا مضطرون إلى ذلك، لئلا يعيش الطالب معزولًا عن عصره، وحتى إذا قُدِّر له أن يشتغل بالدعوة أو بالفتوى كان عالِمًا بواقع من يدعوهم ويخاطبهم بلسانهم، ليُبيّن لهم، وعالِمًا بواقع من يفتيهم، وتعلم سماحتكم أن المحقق ابن القيم قال: الفقيه الحق هو من يزاوج بين الواجب والواقع، وقد قال ذلك في شرح ما رُوي عن الإمام أحمد فيما يلزم المفتي، وهي خمس خصال، منها: معرفة الناس، وقد طوّر الأزهر معاهده، وأدخل فيها اللغة الإنجليزية، وتوسع في العلوم الحديثة، ولا يسعنا إلا أن نعيش عصرنا، وفي الأقوال المأثورة: رحم الله امرىءٍ عرف زمانه، واستقامت طريقته.
قال: ماذا تدرسون في العقيدة؟
قلت: ندرس «العقيدة الطحاوية» قال: حسن، وماذا تدرسون في الفقه؟
قلت: ندرس كتاب «منار السبيل شرح الدليل».
قال: جيد.
وقد بقينا عند الشيخ ما يقرب من ساعة، ثم تكاثر طلاب الفتاوى وغيرها عليه، فطلبنا الإذن من سماحته، وأذن لنا في الانصراف، داعيًا لنا بالتوفيق، وشاكرين له حسن استقباله، بعد أن حمّلنا أمانة السلام على مشايخ العلم في قطر.
ومن أهم المؤسسات التي زرناها: إدارة الكليات والمعاهد، فلم تكن «جامعة الإمام محمد بن سعود» قد أُنشئت بعد، وقد كان مدير هذه الكليات هو فضيلة الشيخ عبد العزيز المسند، الذي تحدث إلينا وتحدثنا إليه حديثًا وديًّا، ثم هيأ لنا زيارة الشيخ مناع القطان العالِم الأزهري الداعية المصري الإخواني المدرس بكلية الشريعة، والذي أضحى له فيها قدم راسخة، وتلاميذ ومريدون، وقد أعير إلى الرياض منذ سنة 1954م، ونجاه الله من محن الإخوان في عهد الثورة، وقد استقر في الرياض، وعرفه كبار المسئولين فيها، وكان له عندهم شأن ومقام، وحصل على الجنسية السعودية، مع عدد من الإخوان، وأصبح هو الناطق الرسمي باسم الإخوان في المملكة، وكثيرًا ما حل الله على يديه مشكلات شتى لإخوان كثيرين من مختلف الأقطار.
وكانت فرصة اللقاء بالشيخ مناع لتجديد الذكريات، فقد كنا نسكن معًا في شقة واحدة أيام الكلية، وهي شقة راتب باشا الشهيرة، وكنا نعمل معًا في قسم الطلاب بالإخوان، وفي اتحاد كلية أصول الدين، وقد زرنا أحد الفصول مع طلابنا، وكان المدرس كفيفًا، وفي أثناء جلوسنا لاستماع بعض الدروس، سمع الشيخ صوتًا، فانتبه الشيخ وقال: ما هذا؟ قالوا له: أحد الطلاب الضيوف، التقط صورة للفصل، فقال: يا سبحان الله، طلبة علم، وتستخدمون التصوير، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المصورين، وقال: «أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون»، فتدخلت وقلت: يا فضيلة الشيخ، ما ورد في الحديث على عيننا ورأسنا، ولكنه لا يعني هذا النوع من التصوير الذي يسميه أهل الخليج «عكس»؛ لأنه مجرد عكس للصورة، كما تنعكس الصورة على المرأة، والأحاديث النبوية عللت لعن المصورين؛ بأنهم يضاهون خلق الله، وهذا التصوير الحديث هو خلق الله نفسه، وانصرفنا، وما أظنه اقتنع بكلامي.
وقد زرنا وزارة التربية والتعليم، وكان وزيرها الرجل الفاضل المعروف معالي الشيخ حسن عبد الله آل الشيخ، ولم تتح لنا فرصة زيارته، أحسبه كان غائبًا عن الرياض، وقد زرنا مبنى الوزارة واستقبلنا وكيلها المعروف الأستاذ عبد الوهاب عبد الواسع، وتحدثنا معه حول التربية بصفة عامة، والتربية الإسلامية بصفة خاصة.
كما زرنا «معهد العاصمة النموذجي» الذي كان يسمى من قبل «معهد الأنجال» أي أنجال الملك عبد العزيز، وتغير إلى هذا العنوان الجديد، وأريد بـ «العاصمة»: الرياض، ويقصد بهذا تثبيت عاصميّتها في الأذهان، وكان مدير المعهد المربي الكبير الأستاذ عثمان الصالح، الذي كنا سعدنا بزيارته في قطر من قبل، وفي المعهد التقينا بالأخ الكريم المربي الفاضل العالِم المصري الأزهري الأستاذ على فودة نيل «د. علي بعد ذلك» أستاذ اللغة العربية المتمكن، والنحوي الأصيل.
إلى مكة المكرمة:
ومن الرياض اتجهنا إلى مكة المكرمة، عن طريق الطائرة «فتذكرتنا: الدوحة - الرياض - جدة» مستعدين بملابس الإحرام التي صحبناها معنا من الدوحة، وعندما حاذينا الميقات: احرمنا ونوينا العمرة، ولبينا: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، لبيك اللهم عمرة.
ونزلنا جدة في مطارهم القديم، ولم نقم بجدة، بل توجهنا مباشرة إلى مكة المكرمة لأداء النسك، نسك العمرة، التي هي الحج الأصغر، وطول الطريق نلبي ونكبر ونسبح ونهلل ونحمد، وندعو الله تعالى، ونحن في حالة من الرقة والخشوع، تزداد كلما اقتربنا من مكة ومن البيت الحرام.
وقد أنزلتنا وزارة المعارف في إحدى مدارسها هناك، ومنها انطلقنا لتأدية مناسك العمرة، وما أعظم فرحتنا، وأعمق سعادتنا، حين يرى المسلم المسجد الحرام والبيت الحرام، وبعضنا يراه لأول مرة، لقد دخلنا المسجد قائلين: نعوذ بالله العظيم، ووجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم، اللهم أني أسألك من فضلك، اللهم افتح لي أبواب رحمتك.
وطفنا بالكعبة سبعًا، بادئين من الحجر الأسود، الذي استطعنا أن نقبله في أكثر أشواط الطواف، فقد كان الوقت غير مزدحم، وفي بعض الأشواط أشرنا بأيدينا، وفي كل الأشواط التمسنا الركن اليماني، وقد عرفنا أنه لم يرد أدعية في الطواف غير ما كان يدع به صلى الله عليه وسلم بين الركنين: {رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ حَسَنَةٗ وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ} (البقرة: 201).
يا عجبًا! أي سر في هذا الحجر الأسود؟! الذي يقبّله المسلم كأنما يقبل شفتي حبيب بعد شوق وغياب طويل، وهو يقبله ويقول ما قال عمر: إني أقبلك وأنا أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك. هذا هو اعتقاد كل مسلم، ولكنه يعتبره رمزًا كالرموز التي عبر عنها الشعراء قديمًا في شعرهم:
أمر على الديار ديار ليلى ** أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ** ولكن حب من سكن الديارا
والذين لا يدركون سر هذه اللغة الرمزية ولا يتذوقونها يتوهمون أن المسلمين يعبدون الحجر أو يقدسونه، والمسلمون أبعد أمم الأرض عن تقديس الأحجار، وقد قام دينهم على التوحيد الخالص: إفراد الله بالعبادة والاستعانة: {إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ} (الفاتحة: 5)، وعدا ذلك يدعو الطائف بما يشاء من الأدعية ويتعبد بما يشاء من الأذكار وتلاوة القرآن.
وبعد الطواف صلينا خلف مقام إبراهيم، ركعتين خفيفتين حسب السنة، قرأنا في الأولى: {قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ}، وفي الثانية: {قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ}، وكان المقام قريبًا جدًّا من الكعبة، وكان يعوق حركة الطواف، ولم يكن قد نقل إلى مكانه الحالي، فقد كان العلماء مختلفين حول مشروعية نقله، حتى ألهمهم الله الصواب، ونقلوه من مكانه ويسروا على الطائفين من الحجاج والمعتمرين.
ثم وقفنا عند «الملتزم» المكان الذي تُسكب فيه العبرات، ويتضرع المتضرعون، ويندم التائبون، ويستغفر المستغفرون، ووقفنا نبكي مع الباكين على تفريطنا في جنب الله، فإن لم نجد بكاء تباكينا، وتشبهنا بالصالحين، كما قال القائل:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ** إن التشبه بالرجال فلاح
ثم ذهبنا إلى زمزم، بعد أن أصبحت «حنفيات» ولم تعد بئرًا كما كانت من قبل، يغترف الناس منها بالدلاء... ولكن قبل نقلها إلى شكلها الحالي، وشربنا من مائها في أوعيتها الفخّارية القديمة، ولم يكن مبردًا كما هو اليوم، ودعونا الله تعالى بالدعاء المأثور: اللهم إني أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وشفاءً من كل داء، ومنها صعدنا إلى الصفا، ووقفنا على ربوتها، واتجهنا إلى الكعبة ناظرين إليها، وقلنا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: وتلونا قول الله تعالى: {إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلۡمَرۡوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِۖ فَمَنۡ حَجَّ ٱلۡبَيۡتَ أَوِ ٱعۡتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَاۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرٗا فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 158) نبدأ بما بدأ الله به، وبدأنا السعي بين الصفا والمروة - كما أمر الله ورسوله - سبعة أشواط، نسرع الخطى بين الميلين داعين ذاكرين مسبحين مهللين مكبرين، أما التلبية فقد انقطعت عندما بدأنا الطواف عند الحجر الأسود.
وبعد أن انتهى الشوط السابع عند المروة، حلق منا من حلق، وقصّر منا من قصر، وكنت ممن قصر، فأنا شديد الحساسية للبرد، وكنا في أواخر شهر يناير وأوائل شهر فبراير، صحيح أن مكة لا يخشى فيها البرد ولكن أمامنا المدينة.
وهكذا كسبنا العمرة - وهي أول عمرة تطوع لي بعد العمرة التي أديتها مع فريضة الحج متمتعًا - التي أسأل الله أن تكون عمرة مبرورة، وكسبها طلاب المعهد، وعرفوا أحكام العمرة عمليًّا، وعرفوا معها أهم أعمال الحج وهي: الإحرام، والطواف، والسعي، والحلق، والتقصير، ولم يبق إلا الوقوف بعرفة، والنزول بمزدلفة، ورمي الجمار، وهي أمور سهلة.
أذكر كأنما أصابتني وعكة، ربما من برد الرياض، فقد قالوا: إن بردها شديد كما أن حرها شديد، وقد كان المكان الذي نزلنا به ليس فيه تدفئة، فأحسسنا هناك بلذعة برد، قد يكون هذا من أثرها، ويبدو أن هذه الوعكة حرمتني من الذهاب مع الشيخ عبد اللطيف والشباب إلى غار حراء، ثم غار ثور في اليوم الذي بعده، وقد تعب بعض الشباب من صعودهم إلى الغار، وبعضهم انقطع في منتصف الطريق، وقال لي الشيخ عبد اللطيف: إن طريق غار ثور أشد وعورة وصعوبة من غار حراء.
قلت: رضي الله عن خديجة بنت خويلد التي كانت تذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يَتَحَنَّث - أي يتعبد - في غار حراء قبل البعثة، وتأتي إليه بالطعام والزاد، وهي رضي الله عنها في حوالي الخمسين من العمر، ورضي الله عن ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر، التي كانت تذهب طيلة أيام اختفاء الرسول في غار ثور، حاملة الطعام والأنباء إلى الرسول وأبيها {ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ} (التوبة: 40)، على حين يعجز شباب هذا القرن أن يصلوا إلى الغار.
كنا نود أن نعرف أين ولد الرسول في مكة، ولكن إخواننا من المشايخ ضنوا علينا بذلك، مع أن المثل يقول: أهل مكة أدرى بشعابها، والظاهر أن إخواننا من المشايخ يحسبون أن البحث عن هذه الآثار قد يؤدي إلى تقديسها، وهذا ضرب من الشرك يجب سد الذريعة إليه؛ ولهذا طُمس كثير من الآثار التاريخية المهمة بسبب هذا الخوف المرضي أو شبه المرضي.
ولا أذكر أننا فعلنا شيئًا في مكة أكثر من ذلك غير الصلاة في المسجد الحرام، الذي جعل الله الصلاة فيه بمائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد العادية، ومثل ذلك عبادة الطواف كلما أتيحت الفرصة، وما أكثر ما تتاح في غير أوقات الزحام، والطواف هو نصف العمرة، إذ جوهر العمرة طواف وسعي.
إلى المدينة:
بعد أن أنهينا أيامنا في مكة، وما أطيبها وأعذبها وأبركها، يممنا وجوهنا شطر المدينة المنورة، حيث مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثاني مساجد الإسلام التي لا تُشد الرحال إلا إليها، والروضة الشريفة التي جاء فيها الحديث: «ما بين بيتي ومنبري روضةً من رياض الجنة»، وحيث القبر الشريف الذي ضم أعظُم صفوة خلف الله، وخاتم رسل الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والبشير النذير، والسراج المنير، محمد عليه أزكى الصلاة والتسليم.
محمد سيد الكونين والثقلين ** والفريقين من عرب ومن عجم
هو الحبيب الذي ترجى شفاعته ** لكل هولٍ من الأهوال مقتحم
ذهبنا إلى المدينة من مكة عن طريق البر، ركبنا حافلة «باصًا» أخذنا ما يقرب من يوم، فقد كان الطريق غير طريق اليوم، كان معظمه طريقًا واحدًا، وكان كثير التعاريج، ولم يكن حسن الرصف، وكنا ننزل في الطريق للاستراحة أو للصلاة أو للغداء، أظننا تغذينا سمكًا في «مستورة»، وكانت الاستراحات أو «المقاهي» على الطريق بدائية في تجهيزاتها، وفي دورات المياه التي بجوارها، الفارق كبير كبير بين الأمس واليوم، ولا يستطيع أن يعرف قيمة التطوير الحادث الآن إلا من رأى الوضع القديم وما كان عليه.
وبمجرد أن وصلنا إلى المدينة وحططنا رحالنا في المكان الذي أنزلونا فيه؛ لم نطق صبرًا أن نجلس في بيوتنا، إلا أن نذهب مسرعين للصلاة في الروضة، والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه؛ إنه الحب والشوق والحنين إلى السلام على رسول الله، كأنما هو حي، وكأنما سنراه وجهًا لوجه، وكأننا سنصافحه بأيدينا، وشيء من هذا لا يحدث قطعًا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ميت، ولا نستطيع أن نراه ولا أن نصافحه، وقد قال تعالى له: {إِنَّكَ مَيِّتٞ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} (الزمر: 30)، وقال: {وَمَا جَعَلۡنَا لِبَشَرٖ مِّن قَبۡلِكَ ٱلۡخُلۡدَۖ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ ٱلۡخَٰلِدُونَ} (الأنبياء: 34)، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡ} (آل عمران: 144).
ولكن عاطفة الحب لا تعترف بهذه الحواجز المادية بين المحب والحبيب، بل لا تعتبر الموت حائلًا بين الحبيب وحبيبه، وقد يغلو بعضهم في هذا الجانب حتى زعموا أن أحد الصالحين، وقف عند القبر النبوي، وأنشد بيتين من الشعر، يحيي بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمد الرسول الكريم إليه يديه من قبره يصافحه والآلاف ينظرون ذلك!
وهذه -بلا ريب- من أوهام المحبين، وتهاويل العاطفيين، وشطحات المتصوفين، ولو جاز أن يحدث هذا لحدث لكبار الصحابة مثل: أبي بكر، وعمر، ولنسائه أمهات المؤمنين، ولآل بيته: عليّ، وفاطمة أحب الناس إليه، وسبطيه الحسن والحسين، رضي الله عن الجميع، ولا ريب أن شيئًا من ذلك لم يحدث لأحد منهم.
إلى جدة:
ثم انتقلنا إلى «جدة» بالحافلة أيضًا «الباص»، نستريح في الطريق بين فترة وأخرى للصلاة والغداء، حتى وصلنا جدة آخر النهار، ونزلنا في «فندق الحرمين»، من فنادق جدة القديمة، وكان شأن جدة شأن الرياض والدوحة، وسائر مدن الخليج في تلك الفترة، كلها تبدأ الخطوات الأولى في طريق التطور العمراني والحضاري، إنها جدة القديمة، بشوارعها وحاراتها القديمة، وأسواقها القديمة، ومبانيها القديمة، وطرزها القديمة، ومساحتها المحدودة.
ولا أذكر الآن من الشخصيات التي زرناها، غير شخصية واحدة، تعد في العلماء، وتعد في الوجهاء، وتعد في أهل الخير، إنه الرجل الذي إذا ذكرت جدة ذكر معها؛ إنه الشيخ محمد نصيف، الذي حرص على أن نزوره في الصباح لنتناول جميعًا الفطور عنده، وقد حدثنا عن تاريخ المنطقة، وما كانت تعانيه قديمًا، وفضل مصر على أهل هذه البلاد في أيام الضيق والعسرة، وارتباط مصر بالحجاز من زمن بعيد، وتصاهر كثير من العائلات في البلدين، وهذا صحيح وملحوظ، فأهل الحجاز أقرب في سلوكهم وعاداتهم إلى أهل مصر، حتى كثير من الكلمات والمصطلحات تجدها مشتركة بين الحجاز ومصر.
فتجد أهل الحجاز يسمّون الخبز «العيش» كما يسميه المصريون، ولا يسمون الأزر «العيش» كما يسميه أهل نجد وغيرهم، وقد أطلعنا الشيخ نصيف على مكتبته الحافلة بالكتب في شتى التخصصات، ولا سيما الشرعية واللغوية والأدبية والتاريخية، كما أنها حافلة بالمخطوطات التي كان للشيخ عناية خاصة بجمعها والحفاظ عليها، والمعاونة على نشرها.
كان بيت الشيخ «معْلمًا» في جدة، لا يكاد يمر عالِم أو داعية أو شخصية ذات وجاهة في قومها إلا مرت بالشيخ وسلمت عليه، وكان عند داره شجرة قديمة، يبدو أنها كانت الشجرة الوحيدة في جدة في وقتها، فكان المنزل يُعرف: بالمنزل الذي أمامه الشجرة، حتى كان سعاة البريد يعرفونه بهذا، فلم تعرف جدة التشجير إلا بعد ذلك، وقد أصبح فيها اليوم ملايين الأشجار والنخيل وغيرها.
لم يُقدَّر لي أن ألقى الشيخ محمد نصيف بعد ذلك إلا مرة واحدة في بيروت في منزل صديقه وصديقنا الشيخ زهير الشاويش الناشر والمحقق المعروف صاحب المكتب الإسلامي، وقد التُقطت لنا صورة تذكارية مع الشيخ في منزل الشاويش، أحسبه محتفظًا بها، فقد كان يعتز بعلاقته بالشيخ نصيف رحمه الله.
وبعد جدة، عدنا - بحمد الله وتوفيقه - إلى قطر، حاملين معنا بعض التمر من المدينة، وبعض الأسوكة من مكة، وبعض ما يشترى من الأسواق من جدة، وفوق ذلك ذكريات لا تنسى، ونفحات نحس آثارها في قلوبنا وأرواحنا، فعند أهل السنة أن عمل الصالحات يزيد في الإيمان، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
تأليف كتب حديثة في العلوم الشرعية:
كان من أهم الأحداث التي انتهت بها هذه السنة الدراسية (1962 - 1963م)؛ صدور القرار من مدير المعارف الأستاذ كمال ناجي، بتأليف عدد من الكتب في العلوم الشرعية، ولا سيما في الفقه والتوحيد، لسنوات المرحلة الإعدادية الثلاث، والسنة الأولى الثانوية، وتشكيل لجنة لذلك برئاسة فضيلة الشيخ عبد المعز عبد الستار، وعضوية: يوسف القرضاوي، وأحمد العسال، وعليوة مصطفى، وأشار القرار بأن نفرغ لهذا العمل في إجازة الصيف السنوية.
وكانت هذه الخطوة تعد خطوة تقدمية في سبيل تطوير التعليم وتحديثه، مضمونًا وشكلًا، ليعبر عن عصره، وكنا قد لاحظنا منذ قدومنا إلى قطر: أن الكتب المقررة على الطلاب لا تناسبهم وقد قُررت اعتباطًا، وليس بناءً على رؤية أو دراسة.
أما كتب المعهد الديني، فقد توليت تغييرها بأخرى ملائمة، وقد ووفق عليها، وطفق الطلاب ينتفعون بها، مثل: «منار السبيل» في الفقه، وإن بقي «علم التوحيد» يدرس في مذكرات غير ملائمة.
وأما كتب المرحلة الإعدادية والثانوية العامة، في العلوم الشرعية، فلم تكن مناسبة بالمرة، فقد ظن الذين قرروها أن المدار على الكم لا على الكيف. فإذا كان الكتاب صغير الحجم كان مناسبًا، وإن كان ملغزًا من ناحية الفهم.
وكان الكتاب المقرر في الفقه، اسمه «أخصر المختصرات»، ومن المعلوم أن المتأخرين من علماء المسلمين في شتى الاختصاصات، قد لخصوا معارفهم في مختصرات موجزة مركزة، عرفت باسم «المتون» وقالوا فيها: من حفظ المتون حاز الفنون!
فمعنى «أخصر المختصرات» في ذلك: أي أكثر الكتب إجمالًا وتعقيدًا، وحاجة إلى الشرح والتوضيح؛ ولهذا احتاجوا إلى شرحه في كتاب سمّوه «كشف المخدرات في شرح أخصر المختصرات».
ومما زاد الأمر تعقيدًا: أن الذين يشرحون هذا الكتاب وأمثاله من كتب الفقه الحنبلي، هم من علماء الأزهر الذين لم يعرفوا المذهب الحنبلي، ولم يأنسوا بكتبه ومراجعه، فهم إما شافعية أو حنفية أو مالكية.
لذلك تحدثنا مع الشيخ عبد الله بن تركي في ضرورة تصنيف كتب معاصرة تخاطب الطلاب بما يفهمون، وتستخدم لغة العصر، ومقادير العصر «في الصاع، والوسق، والأوقية، والدرهم، والدينار، وغيرها»، وكذلك في عرض عقيدة التوحيد وشرحها والتدليل عليها، واقتنع الشيخ بما عرضناه، وساعد في إصدار هذا القرار الذي كان أول قرار من نوعه في بلاد الخليج كلها.
وجاءت إجازة الصيف، فسفّرت زوجتي وبناتي إلى القاهرة؛ لأظل متفرغًا لهذا العمل الذي نيط بنا في حر قطر المعهود، وفي ظلال التكييف المعتاد. ولا ضرورة لأن يتحمل أولادي معي قيظ الدوحة، ولا سيما أن زوجتي كانت حاملًا في ابنتي الرابعة أسماء.
وقد قسّمنا العمل على أنفسنا، وإن كنا مسئولين عنه مسئولية تضامنية:
فأخذ الشيخ عليوة: الفقه والتوحيد للصف الأول الإعدادي.
وأخذ الشيخ العسال: الفقه والتوحيد للصف الثاني الإعدادي.
وأخذت أنا: الفقه والتوحيد للصف الثالث الإعدادي.
وأخذ الشيخ عبد المعز: الفقه والتوحيد للصف الأول الثانوي.
وكان فقه الثالث الإعدادي يتضمن: فقه الأسرة، وفقه المعاملات.
كما كان توحيد الثالث الإعدادي يتضمن: الإيمان بالكتب والرسل «النبوات».
وكان توفيق الله تعالى مصاحبًا لنا، فأنجزنا الكتب المطلوبة، في أشهر الصيف الثلاثة، أشهر العطلة. وبيضناها، وأعددناها للطباعة.
وسارعت الوزارة فأمرت بطباعتها جميعًا، إلا ما قام به فضيلة الشيخ عبد المعز، فقد سافر في الصيف إلى مصر، وتأخر عن الحضور في هذه السنة؛ أحسب ذلك لمضايقات أمنية.
ثم أُلحقت كتب الأول الثانوي بأخواتها بعد ذلك، وأصبحت هذه الكتب الجديدة مثلًا يحتذى في أقطار الخليج.
وهذا ما أغرى الوزارة أن تكلفنا مرة أخرى - الشيخ عبد المعز والعسال وأنا - أن نؤلف كتبًا في مقرر «البحوث الإسلامية»، وهو مقرر لا ينتمي إلى علم من العلوم الشرعية المعروفة، من فقه أو تفسير أو حديث، بل يقدم بحوثًا إسلامية في موضوعات ثقافية، يحتاج إليها المجتمع، ويوحي بها منطق العصر.
وقد قسمناها أيضًا على أنفسنا، فاخترت أن أكتب في بحوث «السنة الأولى» الثانوية، والعسال اختار بحوث السنة الثانية، وعبد المعز اختار السنة الثالثة.
وقد أُنجزت بحمد الله، وحازت الرضا والقبول.