كان من أهم أعمال سنتي الأولى في قطر: رحلتي لأداء مناسك الحج: حج الفريضة، فقد استطعت «السبيل» إلى الحج، فلا ينبغي أن أؤخره، صحيح أن هناك من أئمة المذاهب الإسلامية من يقول: الحج مفروض على التراخي، ولكنه يحمل الإنسان المسئولية لو واتته الفرصة ولم يغتنمها، ثم فقد الاستطاعة بعد ذلك، فهو يتحمل وزرها؛ ولذا لم أر أفضل من التعجيل، فقد قال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} (المائدة:48)، وقال سبحانه: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} (الحديد:21)، وفي الحديث: «تعجلوا إلى الحج؛ فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له»، وفي الأمثال: خير البر عاجله. والشاعر يقول: وانتهز الفرصة، إن الفرصة تصير -إن لم تنتهزها- غصة.
وقد نويت أن أحج وحدي دون اصطحاب العائلة، فقد كانت زوجتي ترضع ابنتي الثالثة «عُلا»، وكان عندها طفلتان: إلهام وسهام، فلم يكن معقولًا أن تحمل على يديها واحدة، تسحب اثنتين، وتحتمل مشاق الرحلة، فأجلت حجها إلى حين، وكنا في أواخر السنة الدراسية، فرأيت أن سفرها إلى مصر مدة غيبتي في الحج أوفق وأولى، بدل أن تبقى وحدها.
وسافرت إلى الحج، وكان الجو حارًّا، فقد كان في الشهر الخامس «آيار - مايو»، وأذكر ممن حجوا معي في تلك السنة: الأخوين الكريمين: عبد الحليم أبو شقة، ومحمد الشافعي صادق، ولم تكن هناك في ذلك الوقت رحلات مباشرة من الدوحة إلى جدة، فركبنا إلى الظهران، ثم من الظهران إلى الرياض، ثم من الرياض إلى جدة. أخذ سفرنا إلى جدة قرابة يوم كامل.
في جدة:
ونزلنا في جدة لأول مرة، فلم يتح لي من قبل أن أزور أي مدينة في المملكة العربية السعودية، وكانت جدة مدينة صغيرة، أو قرية كبيرة، جدة القديمة، بأسواقها العتيقة ومينائها، وفنادقها الصغيرة والمحدودة القدرات والخدمات، وأذكر أننا بتنا ليلة في فندق يسمى «فندق الحرمين»، ولا أدري: ألا يزال باقيًا أم لا؟
إلى المدينة:
ومن جدة سافرت إلى المدينة المنورة، وكانت مثل جدة، بل أقل كثيرًا في عمرانها وتطورها، إلا ما أضافه الملك عبد العزيز رحمه الله إلى المسجد النبوي، وهي إضافة لها قدرها وقيمتها، في توسعة المسجد، وإن كانت لا تسع كل المصلين في أيام الموسم، فالصفوف تتصل وتمتد نحو نصف كيلو أو أكثر، ولا سيما من الناحية الشمالية.
لم تكن في المدينة فنادق كافية مناسبة، وكان معظم الناس يستأجرون بيوتًا أو حجرات في بيوت، وكانت بيوت المدينة قديمة في بنائها، قديمة في تجهيزها، قديمة في أثاثها.
وكان الذين حجوا قبلنا يخوفوننا من شيء واحد في بيوت المدينة، هو: العقارب! وخصوصًا في حر الصيف، الذي يهيج هذه الحشرات، وأنا شخصيًّا لا أدعي الشجاعة، فأنا أخاف من هذه المخلوقات التي لا نعرفها في الوجه البحري من مصر، والتي يشبهون بها بعض الناس من المؤذين لخلق الله، فيقولون: إنه كالعقرب، يلدغ ويختفي؛ ولهذا استأجرت الحجرة، ولم أكن أنام بها إلا قليلًا؛ خوفًا من حمة العقرب، وكثيرًا ما كنت أذهب إلى الشارع، أو إلى المسجد أول ما يفتح.
وإذا فُتح المسجد، فإني لا أكاد أتركه، ففيه أجد قرة عيني، وأنس قلبي، وسكينة نفسي، وأشعر براحة لا أجدها في غيره، ولا سيما في «الروضة الشريفة» التي كنت أقضي ما تيسر لي من الوقت في رحابها، متمتعًا بالصلاة حينًا، وتلاوة القرآن وذكر الله حينًا آخر.
ثم أسعد بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان أسعدني حين وقفت أمام قبره عليه الصلاة والسلام لأول مرة في حياتي، أناجيه وأسلم عليه، كأنما هو حي حياة حسية أمامي، ولم لا؟! ألم يقل الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران: 169)، فإذا كان الشهداء أحياء عند ربهم، أفلا يكون الأنبياء أحياء؟! فما بالك بسيد الرسل وإمام الأنبياء؟!
إنه ليس شعوري وحدي، إنه شعور كل المؤمنين من حولي، يستحضرون رسول الله كأنه معهم، وليس هذا تقديسًا ولا شركًا، كما قد يتوهم بعض الجامدين، إنه الحب والوجد والعاطفة، وهذه لها منطقها، ولها خطابها الخاص الذي لا يخضع لمنطق الأرقام والحساب والظاهرية.
وفي المدينة توجد مساجد تزار، يسمّونها: المساجد السبعة، وبهذا تتميز المدينة عن مكة، فليس في مكة أي شيء يزار، وإن كنت سمعت أن بعض هذه الأشياء قد أزالوه أو شرعوا في إزالته، وهذه جناية على التراث والتاريخ. ومبالغة في التخوف من الشركيات!
ويوجد «مسجد قُباء» الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يزوره كل يوم سبت، راكبًا وماشيًا، ويصلي فيه ركعتين، كما جاء في «الصحيحين»، والذي جاء فيه الحديث: «من تطهر في بيته، ثم أتى مسجد قباء، فصلى فيه ركعتين، كان كأجر عمرة» رواه أحمد، والنسائي، والحاكم وصححه، عن سهل بن حنيف.
وفيها: البقيع الذي دُفن فيه عدد من الصحابة رضي الله عنهم.
وفيها: جبل أُحد الذي وقعت عنده الغزوة، وهو الذي ورد فيه الحديث الصحيح: «أُحد يحبنا ونحبه»، وما أروعها كلمة، تعبر عن حقيقة شعور المسلم بالكون من حوله!
ويوجد هناك قبر سيد الشهداء: حمزة بن عبد المطلب، عم رسول الله، وأسد الله، وأسد رسوله في أُحد.
من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة:
وبعد عدة أيام قضيناها في المدينة، ربما كانت أربعة ولم تكن خمسة، كما يحرص أكثر الناس على ذلك، لما روي لهم من حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من صلى في مسجدي أربعين صلاة، لا تفوته صلاة؛ كُتبت له براءة من النار، وبراءة من العذاب، وبراءة من النفاق» رواه أحمد، والطبراني في «الأوسط»، عن أنس.
والحق أن هذا الحديث غير صحيح، وقد ضعفه الشيخ الألباني في كتابه: «حجة النبي صلى الله عليه وسلم»، والمبالغة في الثواب المذكور فيه تشكك في صحته.
ولا شك أن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة في المساجد العادية، وأن الصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة فيها؛ ومعنى هذا: أن الصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة صلة في المسجد النبوي.
فحزمنا متاعنا القليل للسفر إلى مكة، عن طريق جدة: الطريق القديم، قبل شق الطرق الحالية السريعة المهيأة، فكان علينا أن نتهيأ للإحرام في الطريق قرب المدينة من «آبار علي»، وهي قرب «ذي الحليفة»، الميقات الذي حدده الحديث النبوي، وهو أبعد المواقيت عن مكة.
ومن «آبار عليّ» أحرمنا متمتعين، وقلنا: لبيك اللهم عمرة، فإذا أدينا العمرة تحللنا من الإحرام، ولبسنا ثيابنا، وبقينا أحرارًا حتى نحرم بالحج يوم التروية، وعلينا هدي، كما قال تعالى:{فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (البقرة: 196) وأخذ الطريق نحو ثماني ساعات إلى مكة على ما أذكر، حتى انتهينا إلى البلد الحرام، والذي ولد فيه محمد -عليه الصلاة والسلام- ونشأ في ربوعه، وتعبد في جباله، ونزل عليه الوحي، وهو في غار حراء فيه، وفيه بدأ الدعوة إلى الإسلام، ولقي ما لقي هو وصحابته الذين رباهم في «دار الأرقم».
لأول مرة ترى عيني المسجد الحرام، والبيت الحرام، أول بيت وضع لعبادة الله في الأرض، ومنه تهب على المرء الذكريات المحمدية من قريب، والذكريات الإبراهيمية من بعيد.
ها هو البيت الذي نولي وجوهنا شطره خمس مرات كل يوم، نراه بأعيننا، ونطوف حوله بأقدامنا، وللبيت العتيق إيحاء عجيب، وتأثير عميق، في نفس المسلم، لا يستطيع الإنسان أن يصوره، ولكن يحسه ويشعر به في أعماقه.
وكان أول ما شغلنا به فور وصولنا إلى مكة: أن نفرغ من أعمال العمرة، والعمرة هي: الإحرام والطواف والسعي، ثم الحلق أو التقصير، وفي أقل من ساعة ونصف أنهينا أعمال العمرة.
ومما أذكره: أنه في هذه السنة اكتمل بناء المسعى الجديد، وإن لم يتم «تشطيبه» وتكييفه، وقد حدثنا الذين حجوا في السنة الماضية (موسم 1380هـ) كيف كان الناس يسعون بين المحلات التجارية، عن يمين وشمال، وبين الباعة والمشترين، والمتجولين، وقد تجد حولك من يركب حمارًا، أو يجر عربة، أو نحو ذلك، على خلاف ما نرى عليه المسعى اليوم، وقد أصبح جزءًا من المسجد الحرام، وإن أفتى العلماء أنه لا يأخذ كل أحكام المسجد، فيجوز أن تدخله الحائض والنفساء.
وأردنا -أنا والأخوان الكريمان: عبد الحليم أبو شقة، ومحمد الشافعي- أن نسكن في فندق قريب من الحرم، يمكننا من أداء الصلوات الخمس فيه بيسر وسهولة، فكان أقرب الفنادق المحترمة في ذلك الوقت، هو: «فندق بنك مصر» - الذي يُسمّى الآن: فندق الكعكي، في شارع أجياد.
وكان الإقبال على الفندق شديدًا، وخصوصًا كلما قربت أيام الحج، فلم يجدوا لنا مكانًا إلا صالة مُلئت بالأسِرَّة، وكل سرير معه ما يسمونه «كوميدينو»، وقلنا: لا بأس، فهذه رحلة عبادة ونسك، وليست رحلة رفاهية وتنعم.
ومن حسن حظي: أن وجدت بجواري اثنين من أهل قريتي، وهما من أعيان البلدة، أحدهما: الأستاذ عليّ حمزة خضر «المستشار الآن»، وأظنه كان وكيل نيابة في ذلك الوقت، والثاني: هو الحاج عبد القادر العيسوي، وهو من الرجال الأفاضل الذين عُرفوا بالتدين والصلاح والنزعة الصوفية، وقد فرحت بلقائهما كثيرًا، كما فرحا بلقائي، ومن المعروف أن رحلة الحج لها نفحات وبركات، ومن نفحاتها: توثيق الأواصر بين الحجاج، فيقول أحدهم: لقد كان رفيقي في الحج منذ عشرين أو ثلاثين سنة!
ولكن هذه الصحبة بيننا أبناء صفط لم تدم طويلًا، فبعد يومين أو ثلاثة عرفنا أن الشيخ قاسم بن حمد آل ثاني - وزير المعارف - يحج هذا العام، ونزل ضيفًا على الحكومة السعودية، التي خصصت له ولمن معه منزلًا كبيرًا مجهزًا في منى؛ فرأينا من اللائق: أن نذهب إليه، ونسلم عليه باعتبارنا موظفين في الوزارة، وبيننا وبينه مودة.
الشيخ قاسم بن حمد يستضيفنا معه في منى:
وبالفعل ذهبنا إلى منى، وسلّمنا على الوزير، ودعانا لتناول الغداء معه، ثم سألني: أين تقيم؟ فقلت: نقيم نحن الثلاثة في فندق بنك مصر، فقال: أنتم ضيوف عندي هنا من اليوم، هاتوا أمتعتكم وانضموا إلينا، قلنا: نحاسب الفندق، ونأتي إليكم من الغد إن شاء الله.
وفعلًا عدنا إلى الفندق لنبيت فيه ليلتنا، ونحاسبه، ونودع أصدقاءنا، وخصوصًا ابنَيْ قريتي اللذين أنست بهما، كما أنسا بي؛ لا سيما عليّ حمزة خضر، الذي كان مثالًا في الأدب والتواضع، والحرص على خدمة الآخرين، وكم كنت حريصًا على أن أبقى معه طوال مدة الحج؛ لأزداد معرفة به، ودنوًا منه، ولكن لم يُمَكِّني القدر من ذلك، ولم يُقدَّر لي أن ألقاه بعدها إلى اليوم، وإن كنت أعرف شيئًا من أخباره ومآثره عن طريق زميله في القضاء، صديقنا المستشار علي الاختيار، الذي رافقنا في قطر مدة طويلة، وكان ينقل لي: أن عليّ خضر كان في نظر زملائه جميعًا آية في الفضل ومكارم الأخلاق.
انتقلنا إلى منى في صحبة الشيخ قاسم، أو الشيخ جاسم، كما ينطقها القطريون وأهل الخليج، حتى إن بعضهم ناقشني أن أصلها «جيم» وليس «قافًا»، وقلت لهم: أنا لا أشك في أن أصلها قاف، فإن أهل الخليج ينطقون «القاف» على عدة أوجه، فأحيانًا ينطقونها «جيمًا» معطشة مثل: «جاسم» في «قاسم»، وأحيانًا «جيمًا قاهرية» غير معطشة أو «كافًا فارسية» مثل قولهم: أجول أي أقول، ومثل قولهم: يا رفيج، أي: يا رفيق، وتارة ينطقونها «غينًا» مثل قولهم: عبد الغادر، في: عبد القادر، وليلة الغدر، في: ليلة القدر، وعيد الاستغلال، أي: الاستقلال، ولا يوجد في الخليج من ينطق القاف همزة، مثل: أهل القاهرة، وأكثر الوجه البحري في مصر، والدليل على أن «جاسم» أصلها «قاسم»: أن أهل الخليج يكنون محمدًا «أبا جاسم». وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكنى بـ «أبي القاسم».
وشاء الله أن ننتقل إلى حج مرفّه، نأكل الخراف والمكبوس كل يوم، وننام على الحشايا وفي التكييف، وفي يوم التروية الثامن من ذي الحجة أحرمنا بالحج من حيث نقيم، فنحن في منى.
وفي يوم عرفة بعد أن صلينا الفجر، وتناولنا الفطور، نقلتنا سيارات معدة بسرعة فائقة إلى صعيد عرفات، حيث بركة المكان، وبركة الزمان، وبركة تنزل نفحات الرحمن، فهذا يوم العفو والغفران، يوم يباهي الله ملائكته بهؤلاء الحجاج الذين جاءوا شعثًا غبرًا ضاحين. إنه يوم لم ير الشيطان في يوم أحقر ولا أدحر ولا أغيظ مما رئي في ذلك اليوم، إلا ما كان يوم بدر.
وقد أعدت لنا خيمة كبيرة نزلنا بها، وجلسنا نذكر الله ذكرًا كثيرًا، ونسبحه بكرة وأصيلًا، أحيانًا ندعوه ونتضرع إليه، ونسأله كل ما نحب لنا ولأهلينا وذوينا وإخواننا وأخواتنا المسلمين، وأحيانًا نستغفره مما ألممنا فيه من الذنوب والخطايا، وأحيانًا نذكره بالباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ونذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الدعاء: دعاء عرفة، وخير ما قلته أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» وأحيانًا نتلو القرآن.
وعندما جاء وقت الظهر؛ ذهب بعضنا إلى مسجد نَمِرة ليصلي مع الإمام، وبقي أكثرنا في الخيمة، وصلينا فيها الظهر والعصر جمع تقديم، وتناولنا الغداء، وظللنا بعده ندعو ونذكر ونستغفر، ثم أخذتني سنة من النوم، من طول التعب، فقال الشيخ قاسم بن حمد: الشيخ القرضاوي ينام في يوم الموقف العظيم!
وأنا من الناس الذين نومهم خفيف، فسمعت كلام الشيخ فاستيقظت. فقال الشيخ: تنام في يوم الوقوف؟ قلت له: يا شيخ قاسم، العلماء قالوا: المراد بالوقوف في عرفة: الحضور والوجود، وليس المراد أن يظل المرء واقفًا على رجليه، ومن حق المتعب أن يستريح، وما جعل الله علينا في الدين من حرج، وأمامنا الليلة سهر طويل، قد يستغرق الليل كله؛ فلا حرج أن نستعين عليه بشيء من القيلولة. والمهم هو الإخلاص، وفي الحديث: «أخلص العمل يجزك منه القليل».
وبعد أن غربت الشمس أفضنا من عرفات، ونفرنا إلى مزدلفة، وهي المشعر الحرام، وذكرنا الله بها، وصلينا المغرب والعشاء جمع تأخير.
ومما أذكره أننا وصلنا إلى مزدلفة بسرعة فائقة، قبل أن يأتي وقت العشاء، فهل نصلي المغرب والعشاء عند وصولنا، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ أو ننتظر حتى نصليهما تأخيرًا، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ورجحنا أن ننتظر قليلًا، ونجمع بين الصلاتين جمع تأخير. ثم تناولنا عشاءً خفيفًا، وبدأنا نلتقط الحصى، ولا سيما لجمرة العقبة، سبع حصيات، والأحوط أن نلتقط لليومين بعدها، فكان مجموع ما علينا أن نلتقطه: سبعًا وأربعين حصاة لكل حاج.
وعندما طلع القمر، وقد انتصف الليل أو أوشك، بدأنا نستعد للرحيل من مزدلفة، على مذهب الحنابلة ومن وافقهم، الذين يجيزون لمن معهم بعض النساء والضعفاء أن لا ينتظروا إلى الصباح؛ وهذا التيسير في أمور الحج مطلوب، وخصوصًا مع كثر حجاج بيت الله الحرام، وازدحام الناس في المشاعر، فينبغي على العلماء أن يأخذوا بالأقوال التي تيسر على الناس، والله يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر.
ذهبنا بعد منتصف الليل لنرمي جمرة العقبة، الجمرة الكبرى، وهي الجمرة الوحيدة المطلوبة في هذا اليوم، ثم حلق منا من حلق، وقصّر من قصّر، وأصبح من المشروع لكل منا بعد رمي الجمرة والحلق أو التقصير: أن نلبس ملابسنا، فهذا هو التحلل الأول، الذي يحل فيه للمحرم كل شيء إلا النساء؛ ولذلك مررنا بمقرنا في منى، وقضينا حاجتنا، وجددنا وضوءنا، وخلعنا ملابس الإحرام، ولبسنا ملابسنا العادية؛ استعدادًا ليوم الحج الأكبر، وقد قضينا بعض مناسكنا من الرمي والحلق، وبقي علينا الذبح والطواف والسعي، أما الذبح فقد أجلناه حتى نعود إلى منى، وأما الطواف والسعي، فقد نزلنا إلى مكة مسرعين، قبل أن تغرقنا الموجات الهائلة من زحام البشر في الطواف.
واستطعنا أن نطوف بحمد الله في سعة ويسر، وأن نسعى في سعة ويسر، فقد كنت في السادسة والثلاثين من عمري، وما أسهل المشي -بل العَدْو- عليَّ، ولم أكن ممن نشأ في الرفاهية والطراوة والترف، بل تعودنا الحركة والخشونة والمرونة من الصبا، وزادتنا السجون والمعتقلات قوة وصلابة، فالحمد لله. وبعد الطواف والسعي تحللنا نهائيًّا من الحج، فمن كان معه زوجته حل له معاشرتها.
وأذكر أننا صلينا الفجر في الحرم الشريف، ثم امتطينا سياراتنا لنعود إلى منى، وهنا كانت المشكلة، فقد ازدحم الطريق وتوقف السير تقريبًا، كل فترة نتحرك أمتارًا، ثم نقف، أظن أننا لم نصل إلا بعد أربع ساعات؛ وهذا يؤكد لنا أن ما يحدث اليوم من سيولة الحركة، وسهولة التنقل، يعتبر إنجازًا كبيرًا بالنسبة لما كان في الماضي.
كنا قد وكلنا أحد الإخوة ليشتري لنا بقرة عن سبعة منا، وكان المعتاد أن يذبح الناس هديهم من الغنم والبقر عادة، ثم يدعونها، فلا يستفيد منها أحد، ثم تطمر ويهال عليها التراب وتباد، حتى لا تؤذي الناس بروائحها ونتنها بعد حين؛ وهكذا كانت عشرات الألوف بل مئات الألوف من الهدايا والضحايا، تضيع في التراب دون أن ينتفع بها أحد، وهناك من المسلمين من لا يجد ما يمسك الرمق، أو يطفئ الحرق، وهذا قبل أن يتدخل «البنك الإسلامي للتنمية» وغيره من المؤسسات في تنظيم الانتفاع بلحوم الهدي، عن طريق توكيله في الذبح والتصرف في اللحم.
وكان الأخ عبد الحليم أبو شقة رفيقنا في هذه الرحلة، له رأي إيجابي بنّاء في قضية الذبح، وهو أن الذي يضيع الانتفاع بالذبيحة هو عدم سلخها؛ ولهذا أصر على أن نأتي بمن يسلخ البقرة أو العجل، الذي اشتركنا فيه، فجاء هذا الجزار، وسلخ العجل، وقطعه عدة قطع، فإذا بالفقراء يختطفونه اختطافًا، كل ما حصلنا عليه شيء من الكبدة وقليل من اللحم، قلنا: نأخذه لنأكل منه، ونطبق قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (الحج:28).
وبقينا في منى، نصلي فيها أحيانًا، وفي أحيان أخرى ننزل للصلاة في الحرم الشريف، ولنرمي الجمرات، ونذكر الله تعالى، كما قال الله عز وجل: {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} (البقرة: 203).
ولا أدري هل أكملنا الأيام الثلاثة أو اكتفينا باثنين، فقد كنا مقيمين بمنى، ولكن الذي أذكره أني أخذت برأي العلامة الشيخ عبد الله بن زيد المحمود، في جواز الرمي قبل الزوال، فقد اقتنعت بأدلته، وأصبحت أزاوله بنفسي، وأفتي به غيري، وأنا مطمئن كل الاطمئنان. صحيح أني كنت شابًّا وأستطيع أن أرمي بعد الزوال وأزاحم مع المزاحمين..
ولكني حسبت حساب أمرين: الأول: أن شدة الزحام تفقد الإنسان لذة العبادة، وحلاوة الذكر والدعاء، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة الأولى والثاني، ويطيل الدعاء بعدهما، ومن أين للإنسان أن يدعو في هذا المعترك الهائل؟!
والثاني: أني طول عمري لا أطيق حرارة الشمس إذا اشتدت، وقد تؤذيني وتسبب لي صداعًا، فكيف بشمس مكة ومنى في أوائل الصيف؟! لهذا أخذت بالرخصة، والنبي صلى الله عليه وسلم علّمنا أن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه.
التهيؤ للسفر إلى الدوحة وشراء الهدايا:
وبعد ذلك تهيأنا للسفر عائدين إلى قطر، بعد أن قضينا مناسكنا، وأدينا فريضتنا، وودعنا الشيخ قاسم بن حمد، شاكرين له ضيافته الكريمة، وذهبنا إلى مكة، لنشتري بعض الهدايا، التي اعتاد الحجاج أن يشتروها، ليصطحبوها معهم إذا عادوا إلى أوطانهم، ليهدوا منها أقاربهم وأصدقاءهم، وبعض الناس يبالغون في هذه الهدايا حتى ترهقهم عسرًا.
وبعض الناس يتأخر عن الحج؛ لأنه يقدر على تكاليف الحج، ولا يقدر على هذه الهدايا، وهذا ليس بعذر شرعًا، فمن تأخر عن الحج وضاعت عليه الفرصة بسبب ذلك فهو آثم، أما أنا فقد قصدت إلى شراء بعض الأشياء الخفيفة التي تذكر بهذه الرحلة المقدسة، مثل: المسابح، والمساويك، وسجاجيد الصلاة، وما أشبه ذلك.
وبعض المسابح أقل من ريال، وبعضها بعشرات الريالات، وأنا شخصيًّا لا أستعمل المسبحة، فأنا أسبح بيميني وأعدّ بها، وأكتفي بذلك، وإن كنت لا أمنع المسبحة، ولا أعتبرها بدعة، فبعض الناس يستعين بها على ختام الصلوات، وعلى التسابيح التي تحتاج إلى عد، كالعشرة والمائة، وبعض الناس يتخذها زينة، كالخاتم في الأصبع، وهؤلاء يتباهون بها، ويحرصون على أن تكون من النوع الثمين.
وقد قال بعضهم: المسابح ثلاثة: مسبحة، ومروحة، ومقبحة، فالمسبحة: ما أعان على العبادة، والمروحة: ما كان للتلهي، والمقبحة: ما حمل للرياء.
ومما لفت نظري أن هذه الهدايا من المسابح والسجاجيد وجدتها مصنوعة في أوروبا وفي الصين! وكأن المسلمين عجزوا حتى عن صناعة هذه الأشياء البسيطة، فصنعها لهم الخواجات!
وبعد شراء هذه الأشياء وما تيسر من التمر؛ ذهبنا لنطوف طواف الوداع، ونصلي آخر صلاة في المسجد الحرام في هذه الرحلة الميمونة، داعين الله تعالى أن لا يكون هذا آخر عهدنا بالبيت، وأن يوفقنا للعودة إليه مرارًا وتكرارًا حاجين ومعتمرين، ثم ذهبنا إلى جدة لنأخذ طريقنا إلى الدوحة، على الطريقة التي سافرنا بها، من جدة إلى الرياض، ثم ننتقل إلى طيارة أخرى من الرياض إلى الظهران، ثم إلى طيارة ثالثة من الظهران إلى الدوحة. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة: 127).
الرجوع إلى الدوحة:
ورجعنا إلى الدوحة بعد أن أدينا الفريضة، التي كانت الناس قديمًا يؤخرونها، ليختموا بها حياتهم، ويتطهروا بها من أدارن خطاياهم، حتى قال الإمام الغزالي: الحج تمام الأمر وختام العمر.
وبعد الرجوع إلى قطر شاركنا في امتحانات آخر العام، وكان في المعهد أول امتحان للشهادة الإعدادية. وقد نجح المتقدمون جميعًا، وانتقلوا إلى الصف الأول الثانوي.
وبعد الامتحانات، طفق المدرسون يتهيأون للرحيل إلى بلدانهم، كما هي سُنة الله: أن يعود الغريب إلى أوطانه، وقد قال شوقي:
وكل مسافر سيعود يومًا ** إذا رُزق السلامة والإيابا
وبدأت أتهيأ للسفر، وخصوصًا أن زوجتي وأولادي سبقوني إلى مصر، فما أشوقني إليهم، وما أشوقني إلى مصر.
وكانت الإجازة مدة ثلاثة أشهر كاملة: من (15-6) إلى (15-9)
وفي الخامس عشر من يونيو، امتطيت الطائرة «الكوميت» عائدًا إلى القاهرة، والحمد لله رب العالمين.