كان المعهد الديني - على حداثة سنه وعلى صغر حجمه - يمثل نموذجًا حيًّا للجمع بين القديم والحديث، أو الأصيل والمعاصر. وكان طلابه نماذج حية للاجتهاد في التحصيل وحسن الفهم، والالتزام الديني والخلقي.

وكان الطلبة يتنافسون فيما بينهم في التفوق العلمي، والنشاط المدرسي، والسلوك الأخلاقي. وكنا في كل عام دراسي نختار «الطالب المثالي» الذي يبرّز في العلم والنشاط الطلابي، وحسن العلاقة مع أساتذته وزملائه، يشترك في اختياره الطلاب والأساتذة والإدارة.

وكان الطلاب هم الذين يتناوبون حكم المعهد داخليًّا، عن طريق نظام الأسر، فهناك أسرة أبي بكر الصديق، وأسرة عمر بن الخطاب، وأسرة صلاح الدين الأيوبي، وأسرة أحمد بن حنبل، وكل أسرة تشرف على المعهد: نظافة ونظامًا لمدة أسبوعين، ثم تسلمه لمن بعدها.

وكان الطلاب في قطر وبلاد الخليج على الفطرة السليمة، لم تفسدهم أجهزة الإعلام، ولا الأفلام والمسلسلات، وغيرها. وقد ساعدني على أداء مهمتي إداريون متفاهمون متعاونون، منهم: وكيل المعهد الشيخ عليوة مصطفى، وكان رجلًا فاضلًا، شاعرًا، خفيف الروح.

وسكرتير المعهد الأخ أحمد المنيب حسين، ثم الأخ يوسف السطري، وأمين المخازن الأخ حسني أدهم جرار، وضابط هو الأستاذ أحمد سعد، وكلهم كانوا أعوانًا صادقين، وإخوانًا متحابين، كما ساهم في نجاح المعهد: عدد من الأساتذة في مختلف المواد الشرعية والعربية والاجتماعية والعلمية، كانوا كأنهم أسرة واحدة، يعملون في المعهد بروح صاحب الرسالة، لا بمجرد الوظيفة.

من هؤلاء: الشيخ عبد اللطيف زايد، والشيخ عليّ جماز، والشيخ عبد المحسن موسى من مدرسي العلوم الشرعية. ومنهم الأساتذة: محمد علي الموافي، ورشدي عبد الغني المصري من مدرسي اللغة العربية، وأحمد اليازوري مدرس اللغة الإنجليزية، ومنهم الأساتذة: يعقوب الدباغ مدرس الرياضيات، وداود العباسي مدرس العلوم، وبشير عزام، وإبراهيم أبو عزب، وفايد عاشور «الدكتور» من مدرسي المواد الاجتماعية، وغيرهم ممن لا أذكره الآن، ممن قضى نحبه، وممن ينتظر.

حتى مدرس التربية الفنية، كان من خيرة من عرفت من المدرسين: موهبة وخبرة وتعاونًا وفضلًا، وقد ملأ المعهد باللوحات الطبيعية، والكتابات الجميلة، وهو الأستاذ عبد التواب عز الدين. وكنت أدخل على المعلمين في دروسهم، وأسأل الطلاب، فيتجاوبون معي، وقد آخذ بعض الملاحظات على المعلم، وأناقشها بيني وبينه بعد الانتهاء من الدرس.

وكنت أطلب في بعض الأحيان من المدرسين: أن يؤدي درسًا نموذجيًّا، يعدّه بأناة وتؤدة، وأحضره ويحضر زملاؤه من الأساتذة، ليدونوا ملاحظاتهم عليه: في مادته وفي طريقته وفي شخصيته؛ استفادة مما تعلمناه في التربية العملية في تخصص التدريس.

وكان من المآخذ التي أخذتها على بعض المعلمين: أن أحدهم لا يحضر درسه جيدًا، فإذا دخل الفصل فرغ من درسه في دقائق، وبقي حائرًا، وكان أحدهم يملأ هذا الفراغ بحديثه عن الإسلام، والدعوة الإسلامية؛ فلفتُّ نظره إلى ذلك، وقلت له: الإسلام الذي تتحدث عنه يوجب عليك أن تهتم بإعداد درسك، وأن تتعب في ذلك حتى تفيد طلابك، وتؤدي حق المرتب الذي تقبضه آخر الشهر. وقد كان الطلاب ملّوه، بل كرهوه، وكرهوا حديثه عن الإسلام الذي يغطي به فشله وإخفاقه.

التدريس بالعامية المصرية:

ومما لاحظته على المدرسين بالمعهد، وقد كان أكثرهم مصريين، وبخاصة أساتذة العلوم الشرعية والعلوم العربية: أن بعضهم يكثر من استخدام اللغة العامية المصرية، والأصل أن يكون التدريس بالفصحى، فهي المفهومة لدى الجميع، وهي لغة القرآن، ولغة الحديث، ولغة الثقافة الإسلامية، وكثير من الألفاظ العامية لا يفهمها الطلاب في بلاد الخليج، وخصوصًا في ذلك الوقت، حيث لم تكن وسائل نشر العامية المصرية موفورة في قطر، فلا توجد سينمات تنشر «الأفلام» المصرية، ولا يوجد تليفزيون تذاع فيه هذه الأفلام أو المسلسلات ونحوها، بل لم تكن توجد إذاعة ولا صحافة في قطر؛ ولهذا كانت العامية المحضة مجهولة لدى الطلاب تمامًا.

كما كان بالمعهد طلاب من آسيا ومن إفريقيا، مثل الطلاب الذين جاءوا من الهند، وهم يتقنون العربية الفصحى ويفهمونها، ولا يفهمون حرفًا من العامية المصرية، ولا من أي عامية أخرى؛ ولهذا نبّهت المدرسين في الاجتماعات الدورية التي كنا نعقدها: أن يحرصوا على الكلام بالفصحى حتى يُفهموا، وأن يتجنبوا الكلام بالعامية، والله تعالى يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم:4)، ولسان قومهم هنا هو الفصحى من غير شك.

وبهذه المناسبة أود أن أقول كلمة عن العامية المصرية:

فالعامية المصرية مزيج من كلمات عربية - وهي الأغلب - مخلوطة بكلمات أعجمية، ففيها كلمات من المصرية القديمة أو الرومانية أو القبطية، أو التركية أو الفارسية، أو ما وفد من الكلمات الأوروبية من الفرنسية أو الإنجليزية أو اليونانية، ومن كان له إطلاع على اللغات لاحظ ذلك بسهولة.

والعجيب أن الكلمات الفرنسية أشيع في اللغة الدارجة من الإنجليزية؛ لأنها كانت أسبق في الدخول إلى مصر، منذ عهد محمد علي؛ ولهذا نجد كلمة «بوريه»، و«بوفيه»، و«أنتريه»، و«كبنيه»، و«شيفونيره»، و«دلسوار» إلى آخر هذه الكلمات، كلها فرنسية.

وكثيرًا ما تحرف الكلمات العربية، فتنطق على غير أصولها، كأن ينطق حرف الثاء تاء، مثل: ثعلب «تعلب»، وثعبان «تعبان»، وثلاثة «تلاتة»، وغيرها. وكذلك الذال تنطق دالًا، مثل: ذهب «دهب»، وذيل «ديل»، وذرة «درة»، وأحيانًا تنطق الذال زايًا، مثل: ذُلٌّ تنطق «زل»، وكذلك الظاء تنطق ضادًا، مثل: الظُّهر «الضُّهر»، والظَّهر «الضَّهر»، والمنظرة «منضرة».

وأبعد ما يكون عن الفصحى: نطق القاف همزة، كما في القاهرة وبعض محافظات الوجه البحري، ولم أر هذا في بلد عربي آخر، ولا أدري: ألهذا أصل من لهجة قبيلة عربية انقرضت أم هو مجرد تحريف؟ لعل الباحثين في اللغات واللهجات يفيدوننا، وكثيرًا ما تقلب الكلمات، فيقولون: «أنارب» وأصلها «أرانب»، ويقولون: «رزعه» في الأرض، وأصلها «زرعه» في الأرض، وبعض الكلمات يظن أنها عامية، وهي عربية صرفة، مثل: شاف وبص وغيرها.

كيف كنت أدير المعهد؟

وكنت أدير المعهد بالهيبة والمحبة، ولم أضطر أبدًا إلى استخدام العنف أو العقوبة مع أستاذ أو تلميذ، إلا مرة واحدة، لفت نظر أستاذ كان معارًا من مصر، وخرج من المعهد بدون إذن، وتأخر عن درسه بضع دقائق، فلما لمته على ذلك ردَّ بغير أدب؛ فكتبت «لفت نظر» في شأنه، ولكنه لم يغادر درج مكتبي، وسرعان ما عاد الأستاذ واعتذر إليَّ بشدة.

ومرة أراد أحد الطلاب - وكان مفتونًا بعبد الناصر - أن يعلق له صورة في الفصل. وقد فعل، وشكا إليَّ بعض الأستاذة والطلاب، فأوعزنا إلى أحدهم: أن يعلق صورة للملك فيصل، وتنازع الطالبان، وجيء بهما إليَّ، فقلت لهما:

أولًا: من الناحية الذوقية، لا يجوز أن تعلق صورة لزعيم في مبنى حكومي لبلد آخر.

وثانيًا: من الناحية الشرعية، فالإسلام يكره تعليق صور الأشخاص، وخصوصًا إذا كانت مظنة التعظيم، وأنتم ترون أني لا أعلق في مكتبي أي صورة، لا لأمير البلاد، ولا لولي عهده، ولا لوزير المعارف، وقد قبل الناس مني ذلك، ولم يلمني أحد عليه.

وقد خرَّج المعهد مجموعة من خيرة أبناء قطر، وأبناء الإمارات، فقد كان المعهد لهم جميعًا، وكان خريجوه الذين أكملوا دراستهم في الأزهر غالبًا أو في كلية دار العلوم، أو في جامعة المدينة المنورة: أمثلة تحتذى، وقد أصبحوا جميعًا من القيادات الدينية والتربوية والثقافية والسياسية في المنطقة.

حتى إني أذكر أنه في الوزارة السابقة في قطر، كان فيها أربعة وزراء من خريجي المعهد: الأستاذ عبد العزيز عبد الله تركي «وزير التربية والتعليم»، ود. حمد عبد العزيز الكواري «وزير الإعلام والثقافة»، والأستاذ أحمد عبد الله المحمود «وزير الدولة للشئون الخارجية»، واللواء حمد بن عبد الله بن قاسم آل ثاني «وزير الدولة لشئون الدفاع»، واثنان بمرتبة وزير: الشيخ عبد الرحمن عبد الله المحمود «رئيس المحاكم الشرعية والشئون الدينية»، والشيخ محمد بن عيد آل ثاني «رئيس الهيئة العامة للشباب والرياضة»، وفي الوزارة التالية كان وزير التربية من خريجي المعهد أيضًا، وهو د. محمد عبد الرحيم كافود.

وعدد من السفراء: أذكر منهم الأساتذة: محمد سالم الكواري، وعتيق ناصر البدر، وأحمد غانم الرميحي، وعبد الله طالب المري، وحسن إبراهيم التميمي، ومعهم عدد من الملحقين والمستشارين في شتى السفارات.

وعدد من القيادات في الوزارات المختلفة: العميد مقرن هجرس العتيق في القوات المسلحة، ويوسف عبد الرحمن الملا، ومحمد عبد الله الأنصاري، وعبد الرحمن عبد الله المولوي، في وزارة التربية، وفي الجامعة: د. عبد الحميد إسماعيل الأنصاري، ود. عليّ محمد يوسف المحمدي، ود. عبد العزيز عبد الرحمن كمال، ود. مصطفى عقيل الخطيب، ود. عبد الرحمن الدرهم.

وكذلك مانع عبد الهادي، ويوسف عبد الرحمن المظفر في الإعلام ثم الأوقاف، ومحمد فرج قاسم في رعاية الشباب. وآخرون في مواقع مختلفة لا تحضرني أسماؤهم الآن.

أما في الإمارات، فقد كان من أبناء المعهد: د. محمد عبد الرحمن البكر «وزير العدل والشئون الإسلامية»، ود. سعيد عبد الله سلمان «وزير التربية والتعليم والتعليم العالي»، والأستاذ شبيب عبد الله المرزوقي الأمين العام لجامعة الإمارات. والأساتذة: ماجد الخزرجي، وخليفة سيف، وأحمد ناصر النعيمي، وصقر المري، وجمعة بطي، وغيرهم.

نشاط متنوع في المعهد:

في هذا الوقت أصبح المعهد الديني في قطر ساحةً لأنشطة متنوعة، يشغل بها طلابه، ويحرك حوافزهم، وينمي قدراتهم ومواهبهم، كما فتح أبوابه في المساء لنشاط ثقافي يسهم به في التوعية والتنوير للجمهور القطري.

على المستوى الطلابي، كنا نقيم بين الحين والحين مسابقات أدبية للطلبة، بعضها لأحسن خطيب، وبعضها لأحسن من يكتب مقالًا، وبعبارة أخرى: يكتب موضوع إنشاء، وأود أن أقول هنا بكل صراحة: إن الذين فازوا بالأولية في الخطابة والكتابة - أول مرة - لم يكونوا هم الطلاب العرب، وإنما هم الطلاب الهنود، الذين قدموا إلى المعهد من ولاية «كيرالا» من جنوب الهند، وقد نشأوا في أحضان المدارس والكليات الدينية العربية، حيث يعلمون العربية وآدابها وعلومها منذ لحاقهم بها، ويدربون على التكلم والخطابة بها؛ فلا غرو أن يحوزوا قصب السبق متفوقين على أبناء قطر والخليج. أذكر منه هؤلاء الطلبة: الشاب الهندي اللامع محمد سليم، وزميله محمد عليّ وغيرهما.

وقد عرفت تفوق هؤلاء الشباب من شباب الهند بعد ذلك في جامعة قطر، في كلية الشريعة مثل الشاب النابه: عبد الغفار عزيز أحد مساعدي أمير الجماعة الإسلامية في لاهور، ولا سيما فيما يتعلق بالعرب والعروبة والعربية، وكذلك في كلية اللغة العربية، مثل: الطالب اللامع: علي باوتي، والطالب النابه: عبد الله كُنْهاين.

ومن الأنشطة الطلابية التي عنيت بها: المطارحات الشعرية، بين الطلبة بعضهم وبعض، إما بين طالبين متميزين، أو بين فريقين من الطلاب، وهو الغالب، وفكرة المطارحة تقوم على أن يلقي أحد الطرفين بيتًا من الشعر، ويرد عليه الطرف الآخر ببيت يبدأ بحرف القافية التي انتهى به بيت صاحبه.

فإذا قال أحدهم:

أخلقْ بذي الصبر أن يحظى بحاجته  **  ومدمن القرع للأبواب أن يلجا

يرد عليه الآخر بقوله: 

جزى الله الشدائد كل خير  **  عرفت بها عدوي من صديقي

فيرد عليه الأول بمثل قوله:

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد  **  وينكر الفم طعم الماء من سقم

ويرد الثاني بمثل قوله:

من كل شيء إذا فارقته عوض  **  وليس لله إن فارقت من عوض

وهكذا، وكانت هذه المطارحات تعقد ما بين الحين والحين، فدفعت الطلاب إلى أن يتهيأوا لها بحفظ ما أمكنهم من الشعر، ومراجعة ما حفظوه حتى لا ينسوه، والاطلاع على دواوين الشعر في مكتبة المعهد، وفي كل هذا خير وبركة على الطلاب، وخصوصًا المتفتحين المرجوين للغد، أما الكسالى الخاملون، أما البلداء الغافلون، فهم عن هذا كله بمعزل.

لقد أسمعت لو ناديت حيًّا  **  ولكن لا حياة لمن تنادي!

وكانت جوائزنا للمتفوقين في هذه الأنشطة بسيطة جدًّا، ولكنها كانت تسر الطلاب، وتحفز هممهم، وجلها كانت «كتبًا» نحاول الحصول عليها من بعض الجهات، إلى كتابة اسم الفائز في «لوحة الشرف» بالمعهد، وإعلان اسمه في طابور الصباح.

نشاط ثقافي عام بالمعهد:

أما النشاط الثقافي العام، فقد أخذ عدة صور، أذكر منها: أنا كنا نحتفي بالمناسبات الإسلامية مثل الهجرة النبوية، وذكرى الإسراء والمعراج ونحوها، وندعو من يتحدث فيها من الخطباء المرموقين مثل فضيلة شيخنا الشيخ عبد المعز عبد الستار، والدكتور عز الدين إبراهيم، وكثيرًا ما ندعو بعض علماء قطر، مثل: الشيخ عبد الله بن تركي، والشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري، وغيرهما، ومنها: إقامة موسم محاضرات، وأذكر أني ألقيت المحاضرة الأولى في ذلك، وعنوانها: «نظرات في الاقتصاد الإسلامي».

ومنها: إقامة ندوات شعرية، يتبارى فيها الشعراء بإلقاء أروع قصائدهم، وأذكر أول مرة دعوت فيها إلى هذه الندوة، وكانت أول ندوة من نوعها تقام في قطر، وقد تبارى فيها عدد من الشعراء الذين لم يكن الجمهور يعرفهم حق المعرفة، فأبدعوا وأحسنوا، ونالوا إعجاب الحضور، من هؤلاء الشاعر المطبوع المجيد: أحمد محمد الصديق، والشاعر سعيد تيّم، والشاعر معروف رفيق، والشاعر الشيخ عليوة مصطفى، وكان لهذه الندوة صداها الواسع في الأوساط الثقافية والأدبية في قطر، ولم أشارك بشيء من شعري، واكتفيت بتقديم الآخرين للجمهور.

وتكررت هذه الندوات ما بين الحين والآخر، ولا سيما إذا وجدت مناسبة إسلامية، أو مناسبة وطنية، وكانت المناسبة الحية والحاضرة باستمرار هي قضية القضايا، قضية العرب والمسلمين الأولى: قضية المسجد الأقصى، قضية أرض النبوات، قضية فلسطين، وكان لفلسطين نصيب الأسد في كل ندوة، وحق لها.

مسابقات القرآن:

كان من الأشياء التي أعتقد أن قطر كان لها فضل السبق فيها: مسابقات حفظ القرآن الكريم، التي اقترحها تفتيش العلوم الشرعية برئاسة الشيخ عبد الله بن تركي على الشيخ قاسم بن حمد آل ثاني وزير المعارف، فما كان أسرع من استجابة الوزير وتشجيعه ورصده الميزانية اللازمة لهذه المسابقة.

وكانت المسابقة على مستويين:

الأول: مستوى طلبة وطالبات المدارس. وهؤلاء يمتحنون في المقرر عليهم، وهو: سور من جزء عم، وجزء تبارك، لتلاميذ وتلميذات القسم الابتدائي، بحيث يحفظ من أتم الدراسة الابتدائية «الجزأين: عم وتبارك»، وفي الإعدادي والثانوي تقرر سور أخرى أو فقرات من سور.

الثاني: مستوى الجمهور العام، ويدخل فيه من أراد من الطلبة والطالبات. وهؤلاء يمتحنون فيما هو أكثر من المقرر، ابتداءً من خمسة أجزاء، إلى عشرة، إلى خمسة عشر جزءًا، إلى عشرين، إلى خمسة وعشرين، إلى القرآن كله، والامتحان يكون في قوة الحفظ، وجودة التلاوة، وكان يصرف للأوائل من المتقدمين إلى المسابقة على المستويين: مكافأة مالية مقدرة، يتميز الأول فيها عن الثاني، والثاني عن الثالث، ومن بعد الثالث لا مكافأة له، أما حافظ القرآن كله، فيأخذ على ما أذكر ثلاثة آلاف ريال، وكان هذا مبلغًا مجزيًا في ذلك الوقت.

وكان الذين يفوزون بهذه الجائزة في العادة هم إخواننا العجم «من الهنود، والباكستانيين، والأفغان» ممن يقيمون في قطر، ويعملون بها أئمة للمساجد أو موظفين في بعض الدوائر.

وقد امتحنت كثيرًا من هؤلاء - حين كنت أرأس لجنة المسابقة العامة - فوجدت الواحد منهم يحفظ القرآن لا يخرم منه حرفًا، كأنه «مسجِّل». أسأله في متشابهات القرآن، التي تلتبس على كثير من الحفاظ، فإذا هي عنده كالماء الزلال. فإذا قلت له: ما اسمك؟ هز رأسه ولم يجبني بشيء؛ لأنه لم يفهم من سؤالي شيئًا، فهو لا يعرف من معاني العربية شيئًا.

وهذا والله، من روائع هذا القرآن، بل من معجزاته، التي تجعل العجمي الذي لا يعرف لغته: يحفظه عن ظهر قلب، وهذا من وسائل حفظ الله تعالى لهذا الكتاب، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر:9).

نشيد «مسلمون مسلمون مسلمون»:

في هذا الوقت: أنشأت نشيد «مسلمون مسلمون مسلمون». وكان الذي أوحى إليَّ به، هو: الغلو في القومية العربية، حتى زعم بعضهم أنها نبوة جديدة، وأن الولاء لها كالولاء لدين الله، وظهر شطط كثير لدى بعض الأقلام والألسنة، وأصبح بعض الناس يعتزون بالعروبة ولا يعتزون بالإسلام، وسمى بعضهم ابنه: «لهبًا» ليكنى بـ «أبي لهب»، وهو ما هيَّج النزعات القومية الأخرى، مثل: «الكردية» في العراق، و«البربرية» في الجزائر، وغيرها.

لهذا كتبت نشيد «مسلمون» لأؤكد فيه معنى «الانتماء» الإسلامي، والولاء لأمة الإسلام، والاعتزاز بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، وأتم به النعمة علينا، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} المائدة:3)، بغض النظر عن عروقنا وألواننا وأوطاننا.

قلت في هذا النشيد:

مسلمون، مسلمون، مسلمونْ  **  حيث كان الحق والعدل نكونْ

نرتضي الموت ونأبى أن نهونْ  **  في سبيل الله ما أحلى المنونْ

وهذه متكررة بعد كل فقرة من فقرات النشيد.

نحن صممنا وأقسمنا اليمينْ  **  أن نموت أو نعيش مسلمينْ

مستقيمين على الحق المبين  **  متحدين ضلال المبطلين

جاهدين أن يسود المسلمون  **  نحن بالإسلام كنا خير معشرْ

وحكمنا باسمه كسرى وقيصر  **  وزرعنا بالعدل في الدنيا فأثمر

ونشرنا في الورى «ألله أكبر»  **  فاسألوا إن كنتم لا تعلمون

سائلوا التاريخ عنا ما وعى  **  مَن حمى حق فقير ضيّعا؟

مَن بنى للعلم صرحًا أرفعا؟  **  مَن أقام الدين والدنيا معا؟

ذلكم تاريخنا يا سائلون  **  نحن بالأخلاق نورنا الحياة

نحن بالتوحيد أعلينا الجباه  **  نحن بالبتار أدبنا الطغاة

           نحن للحق دعاة ورعاة  

جاء هذا النشيد في موعده، وانتشر انتشارًا هائلًا، وتغنى به الشباب المسلم في كل مكان، ولحنه أكثر من واحد، في أكثر من بلد، حتى إنه كان نشيد المدارس اليمنية بصفة عامة، أيام رئاسة القاضي عبد الرحمن الإرياني.

وكان نشيد المدارس الإسلامية في عدد من البلاد، التي يعيش المسلمون فيها أقليات، مثل المدارس الهندية، ولا سيما أن النشيد يقول:

يا أخي في الهند أو في المغرب  **  أنا منك أنت مني أنت بي

لا تسل عن عنصري عن نسبي  **  إنه الإسلام أمي وأبي

                      إخوة نحن به مؤتلفون

وفي قطر أُنشئت لجنة لتطوير مناهج اللغة العربية برئاسة الدكتور عز الدين إبراهيم، فكان نشيد «مسلمون» مما أدخلته اللجنة في مقرر «النصوص».

وقد حدثني الشيخ الغزالي رحمه الله عن أول مرة استمع فيها إلى هذا النشيد، وكيف تأثر به، وذرفت دموعه، عندما ألقاه الشباب في أحد المؤتمرات في الجزائر، وكان تلحينه قويًّا، وإنشاده جماعيًّا، وفي الفقرة التي تقول:

يا أخا الإسلام في كل مكان  **  قم نفك القيد قد آن الأوان

واصعد الربوة واهتف بالأذان  **  وارفع المصحف دستور الزمان

                        واملأ الآفاق: إنا مسلمون

هنا صعد بعض الشباب، وهتف بالأذان: الله أكبر، الله أكبر بصوت جميل مؤثر... ورفع عدد من الشباب المصاحف منادين: القرآن دستور الأمة... وردد الحضور مع الشباب في النهاية:

مسلمون مسلمون مسلمون  **  حيث كان الحق والعدل نكون

قال الشيخ الغزالي لبعض الشباب الذين نظموا هذا النشيد وإلقاءه على هذه الصورة: لمن هذا الشعر؟ قالوا له: ألا تعرف من صاحب هذا الشعر؟ قال: لو كنت أعرف ما سألت. قالوا: إنه شعر صديقك وتلميذك، الشيخ القرضاوي... فدعوت لك بخير.

أسرتي في قطر:

ومن فضل الله عليَّ: أن زوجتي لم تنكر الحياة في قطر، بل انسجمت معها، وتعرفت على أخواتها من النساء المصريات، وخصوصًا من كان قبلنا منهن ممن عرفن الدوحة وأسواقها وما يتطلبه النساء منها، وأهمها: «السوق الضيقة» للائي تعرفن على تجاره وعالمه، وخصوصًا عالَم الأقمشة والثياب، التي تشتري منها المرأة لنفسها ولبناتها، وللهدايا المطلوبة منها آخر العام للأرقاب والأصدقاء والجيران.

وكانت المحلات التجارية الكبرى الآن الدوحة ممثلة في دكان صغير بالسوق الضيق، أو سوق واقف، وكان التاجر يعطي المرأة الثوب، لتأخذه معها إلى البيت، لتريه لزوجها أو لبناتها، وبدون أن يأخذ أي تأمين عليه، فقد كانت الثقة موفورة بين الناس.

وكان وجودنا مع العسال في بيت واحد متجاورين؛ يمنحنا نوعًا من الأنس، وإن كانت زوجة العسال تعمل مدرّسة، وزوجتي متفرغة للبيت، وقد أغرى بعض المدرسات زوجتي أن تعمل مدرسة، مثل الكثيرات من أمثالها، ولكنا تفاهمنا على أن تبقى زوجتي ربة بيت، وكان في ذلك الخير.

وكان بين الإخوة المعارين والمتعاقدين من مصر - ولم يكن عددهم كبيرًا - تعارف وتآلف وتقارب، حتى بين الأسر بعضها وبعض، وكنا نتزاور باستمرار، ولم يكن عند الناس من المشاغل ما عندهم اليوم، وكان الأطفال يلعبون مع الأطفال.

وكنا في كثير من أيام الجمع نخرج مع أسرنا، في طابور من السيارات إلى الأماكن الخلوية والرياضية والمتنزهات، في أم صلال، أو الخور، أو الشمال، أو الوجبة، أو دخان، أو أم سعيد، أو غيرها، ونقضي يومًا حافلًا بالنشاط الرياضي والثقافي، ونصلي الجمعة في أقرب المساجد، ونعود آخر النهار أكثر حيوية، وأقدر على مواصلة مشوار الحياة.

وكانت امرأتي عندما قدمنا الدوحة «حاملًا»، وفي 15 ديسمبر 1961م؛ رزقنا الله بابنتنا الثالثة: عُلا؛ فزادت البيت بهجة وإشراقًا، فقد زاد في منزلنا قنديل أو مصباح جديد.