كان اتفاق الشيخ ابن تركي معي منذ التقينا في مصر؛ على أن أتسلم إدارة المعهد الديني الثانوي في قطر؛ خلفًا عن مديره السابق فضيلة الشيخ الدكتور عبد الغني الراجحي، الذي تسلم إدارته لسنة واحدة، هي كل عمر المعهد الناشئ، وكان وكيله الشيخ محمد محفوظ، وكان بين المدير والوكيل خلاف وصراع طويل.
وقبل عودتي نُقل الشيخ محفوظ من المعهد. وكان من فضل الله تعالى عليَّ، حتى لا أبدأ حياتي بصراع لا ضرورة له، وأنا أحب أن أعمل أبدأ في سلام وهدوء وسكينة تعين على العطاء والإنتاج.
وقد عُينت براتب قدره (1475) روبية «أول راتب السنيار»، ورغم أني مدير لم يكن لي راتب المدير، ولا بدل الإدارة، مثل مدير مدرسة الصناعة مثلًا، ولكني رضيت بهذا، فقد كان خيرًا وفضلًا من الله ونعمة.
الشيخ عبد الله الأنصاري:
في أول يوم من أيام دوامي بالمعهد الديني - (4/4/1381هـ - 15/9/1961م)، وكان مبنى صغيرًا قديمًا أُزيل وبُني مكانه رئاسة المحاكم الشرعية القديمة، التي احتل مكانها الآن «صندوق الزكاة» - كان أول من زارني رجل مهيب الطلعة، بشوش الوجه، باسم الثغر، دخل عليَّ مكتبي وصافحني بحرارة، وقال: أنا أخوك عبد الله بن إبراهيم الأنصاري من طلبة العلم، ومدير مدرسة صلاح الدين بالدوحة. ولقد سمعنا بك قبل أن نراك، فأهلًا ومرحبًا بك في الدوحة بين أهلك وإخوانك. بيوتنا كلها مفتوحة لك، وأيدينا ممدودة إليك، ولا تتأخر في طلب أي مساعدة تحتاجها، فنحن إخوانك وأولى الناس بك.
أسرتني هذه الكلمات من رجل لم يلقني من قبل، وإنما سمع عني بعض ما حببني إليه، فشكرت له حسن صنعه، وجميل سعيه وزيارته، ورجوت أن أكون عند حسن ظنه، وألا أكون كما قال المثل العربي: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه.
قال: بل صدق الخُبر الخبر، وصدقت العين الأذن، والأذن تعشق قبل العين أحيانًا، كما قال الشاعر. وانصرف الشيخ بعد أن دعاني إلى زيارته في مجلسه. ووعدته بذلك شاكرًا له.
وعرفت بعد ذلك أن الشيخ الأنصاري من علماء الدين المعدودين في قطر، وأنه أحد العبادلة الثلاثة من أهل العلم: أولهم: عبد الله بن زيد المحمود، قاضي المحكمة الشرعية، وثانيهم: عبد الله بن تركي، وقد حدثتك عنه. وثالثهم: عبد الله الأنصاري. وسيأتي في مناسبات شتى الحديث عن هؤلاء العلماء الذين كان لكل منهم وزن وشأن.
وكان هذا التعبير: عبد الله الأنصاري من «طلبة العلم» جديدًا عليَّ، وهو تعبير شائع بين أهل الخليج، توارثوه خلفًا عن سلف، يقولون عن العالِم منهم، ويقول العالِم عن نفسه: من طلبة العلم. وإنه لتعبير موفَّق؛ فالإنسان - وإن بلغ من العلم ما بلغ، وعلا كعبه ما علا - يظل طالبًا للعلم، وفي مأثوراتنا: اطلب العلم من المهد إلى اللحد. لا يزال المرء عالِمًا ما طلب العلم، فإذا ظن أنه علم فقد جهل، وما أجمل أن يُعرِّف المرء بنفسه، فيقول: أخوكم من طلبة العلم!
الشيخ عليّ بن سعود:
وكان الزائر الثاني في نفس اليوم هو الشيخ عليّ بن سعود بن ثاني آل ثاني، الذي كان وصله كتابي «الحلال والحرام في الإسلام» وكان يقرأ الكتاب، وهو معجب به، وبمؤلفه، وأهم من ذلك: أنه كان يقرأه ليطبق ما فيه. فلما قرأ فيه أن الساعة والقداحة «الولاعة» والقلم إذا كان من الذهب فهو حرام على الرجال. وكان يستخدم هذه الأشياء الذهبية فتخلى عنها، وقال: والله، لا حاجة لي إلى الحرام.
وكان الشيخ عليُّ رحمه الله على صلة طيبة بأحد الأزهريين القدماء في قطر، وهو الأخ الشيخ يوسف عبد المقصود، فحدثه عما قرأه في كتاب «الحلال والحرام»، وأنه معجب بهذا الكتاب، فقال الأخ يوسف: هل تعلم أن مؤلفه في الدوحة؟ قال: لا أعلم. ومتى قدم إلى الدوحة؟ قال: إنه قدم منذ يومين فقط، مديرًا للمعهد الديني، وسيكون في مكتبه غدًا. قال: إذن سأسعى لزيارته..
وجاء الشيخ عليُّ، وسعدت بزيارته، وعرفت أن له قراءات في التراث الإسلامي، وفي التراث الأدبي، وأنه يقول الشعر، وعرف مني أيضًا أني أقول الشعر، وانعقدت بيننا مودة ظلت موصولة الحبال، حتى لقي ربه، رحمة الله عليه.
ومما أذكره للشيخ عليّ بن سعود: أنه بعد حوالي سنتين وربما أكثر في قطر، فاجأني بهدية، كانت عبارة عن تليفزيون صغير (14 بوصة أبيض وأسود) قائلًا لي: ليتسلى به الأولاد. ولم يكن يخطر ببالي في ذلك الوقت أن أقتني جهازًا للتليفزيون، ولم تكن هناك محطات تليفزيونية لأي بلد عربي تظهر فيه، فلم تكن معظم البلاد العربية أنشأت محطات أو قنوات. وإنما كانت تظهر فيه قناة «أرامكو» في المنطقة الشرقية من السعودية.
وظل هذا التليفزيون عندنا عدة سنوات، حتى فوجئنا بهدية أخرى من الشيخ عليٍّ نفسه، هي تليفزيون في حجم الأول، ولكنه ملوّن، وكانت هذه مجاملة طيبة منه، وقد جاءت في وقتها، وربما يسأل الكثيرون: هل يجوز للمسلم - ناهيك بالعالِم الداعية - أن يقتني جهازًا تليفزيونيًّا؛ برغم ما قد يكون فيه من مفاسد؟
والجواب: أن التليفزيون إنما هو وسيلة، يمكن أن تُستخدم في الخير، كما تُستخدم في الشر، والوسائل إنما يحكم لها بحكم مقاصدها، مثل السيف أو البندقية، فهي في يد المجاهد أداة خير، ووسيلة للدفاع عن الحق، وهي في يد قاطع الطريق أداة شر وإفساد في الأرض، فلا نقول: البندقية حلال أو حرام، إنما حكمها بحسب ما تُستعمل فيه، والتليفزيون كذلك مثل غيره من الصحافة والإذاعة والمطبعة، يستطيع المسلم أن يستفيد من خيرها، ويحذر من شرها، وهنا دور التربية والتوجيه.
وقد عمت البلوى بهذه الأدوات، فلم يعد من الممكن منعها إلا بضغط وإكراه، وفي هذه الحالة تكون مرغوبة، كما يقول الشاعر: أحب شيء إلى الإنسان ما مُنعا.
مشكلات المعهد الجديد:
وأود أن أعطي فكرة عن المعهد الذي تسلمت إدارته؛ لقد أنشئ هذا المعهد سنة (1960م)، أي قبل أن آتي بسنة واحدة، وأنشئ من صفين أو فرقتين: الصف الأول، والصف الثاني، وكان هؤلاء الطلاب في الصفين، هم أصلًا من تلاميذ معهد ديني ابتدائي أنشئ قديمًا، وكان مديره الشيخ عبد الله الأنصاري، ثم رئي إغلاقه، وحول طلابه إلى مدرسة صلاح الدين.
فلما أريد إنشاء معهد ثانوي - بدل المعهد الابتدائي القديم - جيء بالطلاب القدامى ليكونوا نواة المعهد الجديد. فنشأ منهم المعهد بصفيه الأول والثاني حسب مستواهم الدراسي الذي كانوا عليه، وكانت فكرة المعهد قائمة على أساس أنه «معهد ثانوي» على غرار معاهد الأزهر الثانوية القديمة، على النظام الذي درسناه نحن في أيامنا. ومدة الدراسة فيه خمس سنوات، ويدرس الطلبة في هذا المعهد ما كان يدرسه طلاب المعاهد الثانوية قديمًا في الأزهر قبل قانون تطوير الأزهر ومعاهده.
ولهذا وجدت الطلبة يدرسون في الصف الأول الثانوي: شرح ابن عقيل على الألفية، في النحو والصرف، ويدرسون كتابًا في البلاغة، على نحو ما كنا ندرسه في السنة الأولى الثانوية من كتاب: «زهر الربيع في المعاني والبيان والبديع». كما يدرسون علم المنطق، وهو كتاب: «شرح المسلّم» المعروف لطلبة الأزهر. ويدرسون الفقه في كتاب على مستوى الثانوي أيضًا من كتب الفقه الحنبلي، وهو كتاب: «الروض المربع شرح زاد المستنقع». ويدرسون في التفسير كتاب «تفسير النسفي»، وفي الحديث: «صفوة صحيح البخاري»، ولا يدرسون من العلوم والرياضيات والمواد الاجتماعية واللغة الإنجليزية إلا القليل.
وكان هذا التصور للمعهد في قطر خطأ جذريًّا؛ لأنه بني على أساس غير سليم، من الناحية العلمية والموضوعية والواقعية:
أولًا: لأن المعهد الثانوي في الأزهر مؤسس على مرحلة ابتدائية سابقة مدتها أربع سنوات، درس الطالب فيها النحو أربع مرات: في «شرح الأجرومية»، و «شرح الأزهرية»، و «شرح قطر الندى»، و «شرح شذور الذهب»، ثم درس الصرف في كتاب: «شذا العرف في فن الصرف».
ثم درس فقه العبادات في السنة الأولى، ودرس الفقه كله في السنوات الثلاثة، وتأسس الطالب في العلوم الشرعية والعربية تأسيسًا قويًّا مكينًا. أما طالب معهد قطر، فقد جاء من المدارس الابتدائية التي لم تؤهله هذا التأهيل المطلوب؛ ولهذا كانت المقررات التي تدرس للطالب في معهد قطر غير مناسبة إطلاقًا، وفوق مستوى الطلاب بمراحل.
وثانيًا: لأن الأزهر غيَّر من مناهجه، وأدخل اللغة الأجنبية ابتداءً من أول سنة، كما زاد من كم العلوم الطبيعية والرياضية التي كانت تسمى: «العلوم الحديثة». وسمى الأزهر المرحلة الابتدائية: «المرحلة الإعدادية»، أما الثانوية فبقيت على الاسم القديم؛ وهذا ما دعاني إلى التفكير بعمق في تغيير وضع المعهد كله، ورسم صورته من جديد.
طلاب يطلبون سحب أوراقهم:
وقد فوجئت بمشكلتين واجهتاني في المعهد من أول يوم.
المشكلة الأولى: أن ثلاثة طلاب من الصف الثاني في المعهد جاءوا، وفي يد كل منهم طلب بسحب أوراقه من المعهد. أذكر منهم الطالب: عتيق ناصر البدر «سفير بوزارة الخارجية الآن»، والطالب: موسى زينل موسى «مدير إدارة الثقافة والفنون الآن»، وثالث نسيت اسمه.
قلت لهم مازحًا: أتستقبلون الضيف بالإكرام أم بالإهانة؟
قالوا: بل بالإكرام والترحيب.
قلت: جئت ضيفًا على بلدكم، ومن أول يوم، تقولون لي: لا نريد أن نرى وجهك!
قالوا: معاذ الله يا أستاذ.
قلت: هذا هو معنى طلبكم؛ أنكم تريدون أن تغادروا المعهد، حتى لا تعاشروني ولا تروا وجهي.
قالوا: لا يا فضيلة الأستاذ، ولكن الدراسة في المعهد لا تناسبنا.
قلت لهم: ما الذي لا يناسبكم؟
قالوا: لا ندرس إلا ثلاث حصص في اللغة الإنجليزية، ولا ندرس من العلوم ما يكفي، وندرس في العلوم الشرعية والعربية كتبًا في غاية الصعوبة.
قلت لهم: أنا معكم في هذا كله، وأعدكم أن هذا كله سيتغير، واصبروا عليَّ عدة أسابيع وسترون ما أقوله صحيحًا.
وقد اقتنع هؤلاء الطلاب الثلاثة، وكانوا سببًا في إقناع عدد آخر من زملائهم كانوا ينوون سحب أوراقهم.
لم يتقدم طالب للصف الأول بالمعهد:
والمشكلة الثانية: أشد وأنكى من الأولى؛ فالأولى: كانت انسحاب القديم، والثانية: أن لا جديد. ذلك أني لم أجد طالبًا واحدًا تقدم للالتحاق بالصف الأول بالمعهد. كل ما هنالك أن طالبًا لم يدخل الامتحان في العام الماضي فأعاد السنة، فهذا هو الاسم الوحيد الموجود على قائمة الصف الأول، ومر يوم واثنان وثلاثة، وبقية الأسبوع، فلم يتقدم إلينا أحد، ومعنى هذا: أن المعهد يصفي نفسه من أول يوم. إذًا لا معنى لمعهد لا يأتيه طلاب جدد، والطلاب القدامى كأنما فرضوا عليه، أو فرض عليهم فرضًا.
وبدأت أتهيأ لمواجهة هذه المشكلة العاجلة. فكتبت نشرة توزع على نطاق واسع في المساجد، تبين أهمية الدراسة الدينية والتفقه في الدين، وأنه واجب على كل مجتمع أن يهيئ من أبنائه فئة تتفقه في الدين، حتى إذا سئلوا أفتوا بعلم، وإذا قضوا قضوا بحق، وإذا دعوا إلى الله دعوا على بصيرة، {فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ} [التوبة: 122].
وفي يوم الجمعة، تحدثت بعد خطبة الشيخ ابن تركي في الجامع الكبير المعروف باسم «جامع الشيوخ» حديثًا عن طلب العلم، وأهمية علم الدين ... إلخ. فبدأ يجيئنا طالب بعد آخر، حتى اكتمل الصف الأول ثمانية طلاب، وقلنا: فيهم بركة، وربنا يبعث المزيد. أما تطور المعهد، فسنتحدث عنه بعد قليل.
التعرف على الشيخ ابن مانع:
كان درسي بعد صلاة الجمعة جاذبًا لانتباه من سمعوه من أهل العلم، وعلى رأسهم: العلامة الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع، كبير علماء قطر، ومدير المعارف سابقًا بالمملكة العربية السعودية، وكان بيته ومجلسه بجوار الجامع الكبير، وبعد كل صلاة جمعة، يجلس مع صحبه في مجلسه، فدعاني إلى مجلسه، وسلم عليَّ ورحب بي، وأثنى على حديثي، وعرفني بأنه زار مصر، وأنه لقي الشيخ محمد عبده، وأنه أول من جلب علماء الأزهر إلى المملكة، وكان يذكر هذا على سبيل الفخر والاعتزاز.
والشيخ ابن مانع من العلماء الذين لهم ولع بالتراث وبالكتب، وله رسائل وتحقيقات بعضها نشر، وبعضها لم ينشر. وكان عالِمًا حنبليًّا معتزًا بحنبليته، وكان يتمسك بالمذهب الحنبلي ويردد بيت الشاعر الذي يقول: أنا حنبلي ما حييت، فإن أمت فوصيتي للناس أن يتحنبلوا!
ومع هذا لم يكن متعصبًا، بل كان رجلًا سمحًا، لطيف المعشر، لين الجانب، حسن الأخلاق، فكه الحديث، وكان يقول: اجتمع عندنا في الرياض من مشايخ الأزهر ما يكون حديقة حيوان، فكان عندنا من العلماء والمشايخ: النمر والضبع والديب والسبع والسراحين! يعني: آل سرحان، وكانوا ثلاثة.
وقد تعرفت في مجلس الشيخ ابن مانع على ابنه القارئ المثقف المهذب: الشيخ عبد العزيز، وقد توثقت الصلة بيني وبينه، حتى وافته المنية مبكرًا رحمه الله، وكان من جلساء ابن مانع باستمرار: الشيخ قاسم درويش فخرو، الذي كان مجلسه أيضًا - ولا زال - بجوار الجامع الكبير، وكان يعد من طلبة العلم أو من «المطاوعة» كما يسمونهم في الخليج. وكان قد ولي على المعارف في عهد الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني، قبل أن يتولاها الشيخ قاسم بن حمد آل ثاني، ابن عم الحاكم، وشقيق نائبه وولي عهده الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني.
زيارة الشيخ عبد الله بن زيد المحمود:
وكان من أوائل الزيارات التي قمت بها: زيارة العلامة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، قاضي المحكمة الشرعية، وصحبني في هذه الزيارة أخونا الشيخ عليّ شحاتة، وكان هو والأستاذ كمال ناجي من القدماء في قطر، ممن قدموا من السودان إلى قطر، وكان قد أخذ مني كتابي: «الحلال والحرام»، وكتابي: «العبادة في الإسلام» هدية مني إلى الشيخ، وتفضل بإيصالهما إليه.
فلما دخلنا على الشيخ وجدناه يقرأ في كتاب: «العبادة في الإسلام»، وقد وقف على فقرة في الكتاب وقال لجلسائه: الشيخ في هذه المسألة محقق، قد رد المسألة إلى جذروها، واستدل عليها بالقرآن والسنة، وقد نسيت أيَّ مسألة هي.
وكانت جلسة علمية رفيعة المستوى، تبادلنا فيها الأحاديث، وانتهت بأن أهداني فضيلته رسالته القيِّمة التي كان قد أصدرها منذ عدة أعوام حول فقه الحج، وسمَّاها: «يسر الإسلام» وأجاز فيها «رمي الجمار قبل الزوال». وأقام على رأيه أدلة قوية، وأنه لا يوجد دليل ينهى عن الرمي قبل الزوال، وأن الرمي أمر يتم بعد التحلل النهائي من الحج، وأن الإنابة فيه تجوز، وأنه -عند الحنابلة- لو أخر الرمي كله إلى اليوم الأخير لأجزأه ... وأن النبي صصص ما سئل عن شيء قدم أو أخر يوم النحر، إلا قال: افعل ولا حرج؛ وأن رفع الحرج مطلوب الآن أشد من أي وقت مضى؛ فالناس يموتون تحت الأقدام، وأن طاووسًا وعطاء من كبار فقهاء التابعين أجازا الرمي قبل الزوال، وأن بعض المتأخرين من الشافعية وغيرهم أجازوه.
الحقيقة أن منطق الشيخ كان قويًّا، وقد سبق زمنه بهذه الرسالة الشجاعة، فأصبح الكثيرون الآن يفتون به، وقد تبنيت رأيه منذ قرأت رسالته، ورده على علماء الرياض الذين شددوا غاية التشديد في القضية، وردوا عليه، وشنوا عليه الغارة، وأرادوا أن يلزموه بالرجوع عن رأيه، ويبدو أنه وافقهم عندما كان هناك تحت الضغط، فلما عاد إلى قطر، غيَّر رأيه، ورأى أنه إنما يدين الله بما اقتنع به، وانتهى إليه اجتهاده، وأن الله لا يكلفه أن يدع اجتهاده ليعمل باجتهاد الآخرين. وهذا من محاسن الإسلام، وإن كان المشايخ في «الرياض» قالوا عنه: أخلف وعده، ونكث عهده. وليس كذلك، بل تفسيره ما ذكرت، وهو بيّن، والحمد لله.
زيارة الشيخ قاسم بن حمد:
وكان لا بد لنا أن نزور الرجل الأول المسئول عن التعليم في قطر، وزير المعارف، وهو الشيخ قاسم بن حمد آل ثاني، شقيق ولي العهد ونائب الحاكم الشيخ خليفة بن حمد، وابن عم حاكم قطر. وهو الوزير الوحيد في حكومة قطر، مع الشيخ خليفة الذي كان يعتبر وزيرًا للمالية أيضًا.
وكانت وزارة المعارف أهم وزارة في البلد، وأكثرها موظفين، وهم يكونون قوة اقتصادية مهمة؛ فهم الذين يحركون الأسواق، وهم الذين يشغلون سيارات الأجرة، وكانت تعمل بنظام «الورّة» أي الدورة، كل من لديه سيارة أجرة «تاكسي» من القطريين يأخذ دوره في المعارف في حينه بالعدل والقسطاس المستقيم، وهم الذين يشغِّلون «تناكر» المياه، فلم تكن المياه قد وصلت إلى المنازل، إلا النادر، فكانت سيارات المياه توصل إلى المنازل كل عدة أيام ما يحتاج إليه من ماء. وكان أصحاب البيوت يؤجرونها للدولة، ليسكن فيها المدرسون. المهم أن حركة الحياة في الدوحة كانت في أغلبها مرتبطة بوزارة المعارف وموظفيها.
وكان طلاب المدارس يتغذون جميعًا على حساب الوزارة، وكانوا يذهبون بعد الدرس الأخير إلى «قاعة التغذية» المعدّة لذلك، وكان لها إدارة أو قسم، ورئيس لهذا القسم، وكان رئيس قسم التغذية أحد إخواننا المصريين الفضلاء الذين قدموا مع القادمين الأول إلى قطر، وهو الأستاذ عبد اللطيف مكي، وكانت التغذية تقدم طعامًا طيبًا شهيًّا على الطريقة الخليجية.
وكانت هذه التغذية من المغريات للتلاميذ بالالتحاق بالمدارس، فقد كان كثير من أهل قطر، من أهل البادية، الذي لا يقدرون التعليم حق قدره، فكان هذا مما يحفزهم لإلحاق أولادهم بالمدارس، وأكثر من ذلك: أنه كانت تدفع لهم رواتب منذ أول يوم يسجلون فيه في المدرسة، فإذا كان البدوي لا يهمه التعليم، فهو يهمه الفلوس والدراهم.
وبهذا نرى أن وزارة المعارف - التي سميت بعد سنوات: وزارة التربية والتعليم - كان لها دورها الفعال، وأثرها الحيوي في الحياة القطرية كلها؛ وهذا ما جعل لوزير المعارف منزلة خاصة مستمدة من أهمية وزارته، ومن شخصيته التي كان لها هيبتها، وقدرتها على منع أي عبث أو تجاوز في المدارس، وخصوصًا من أبناء شيوخ الأسرة الحاكمة، الذين لم يكن ليلزمهم الأدب، ويوقفهم عند حدهم سوى الشيخ قاسم.
زرت وزير المعارف الشيخ قاسمًا في منزله أو في قصره بالدوحة، وكنت مع فضيلة الشيخ عبد المعز عبد الستار والشيخ أحمد العسال، فرحب بنا الرجل ترحيبًا كبيرًا، وتحدث معنا، وتحدثنا معه، ودعانا إلى أن نزوره في مزرعته في شمال قطر بمنطقة الزبارة؛ فاستجبنا للدعوة، وزرناه بعد أيام في مزرعته. وكان الشيخ قاسم من أوائل الذين بادروا بإنشاء المزارع في قطر، وكان ينفق عليها حتى تنتج، وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وفي الغالب لم يكن قصده تجاريًّا، بل هو هواية تخضير الأرض في تلك الرمال الصفراء.
وكان من هوايات الشيخ قاسم: صيد «المها» أو ما يسمونه: «الوضيحي»، وهو نوع من الظباء أو الغزلان ذات لون خاص، أقرب إلى البُنّي، وهو نادر في العالَم، وقد بدأ ينقرض، وبدأت الهيئات الدولية المعنيّة تهتم بحمايته، وعمل الحظائر الخاصة به، وكانت «حديقة المها» عند الشيخ قاسم معروفة عند المهتمين به على مستوى العالَم.
والمها هو ذلك النوع الذي التفت إليه شعراء العرب، وشبهوا الغيد الحسان من النساء به، ولا سيما العيون، كما قال الشاعر:
عيون المها بين الرصافة والحسر سلبن النهى من حيث تدري ولا أدري!
وفي كل فترة يدعونا الشيخ قاسم لمزرعته، فيكرمنا بما عرف عند العرب من كرم الضيافة، ويذبح لنا الخراف، ونأكل «المكبوس»: وهو الأرز الذي يطبخ مع الخروف.