من مكارم الدكتور البهي: أنه عرفني بكثير من أصدقائه من الرجال الكبار، وقدمني إليهم تقديمًا كثيرًا ما أخجلني، لما يلبسني فيه من ثوب أراه فضفاضًا عليَّ، ولم أر الدكتور البهي يصنع هذا مع أحد غيري. وأعتقد أنه كان في هذا مخلصًا، فلم أكن ممن يرجى أو يخشى، حتى يقول فيَّ ما لا يعتقده. بل كنت مضطهدًا مطاردًا من قبل سلطات الأمن، كما لا يخفى عليه، وكان من أهم من عرفني بهم: الأربعة الكبار من علماء سوريا: مصطفى السباعي، ومصطفى الزرقا، ومحمد المبارك، ومعروف الدواليبي. فطالما ذكرني عندهم بخير في غيبتي، حتى شوقهم إلى لقائي.
أما مصطفى السباعي، فقد عرفته من قبل، حين زارنا بالمحلة، وألقي فيها محاضرة عامة رائعة استمرت نحو ساعتين، وهو يفيض كالبحر الزخار: وكان الإخوة بالمحلة هم الداعين إليها، والمنظمين لها. وهو رجل يسحر سامعيه، بوضوح فكره، وقوة عرضه، وجمال أسلوبه، وجمعه بين الجد والفكاهة المحببة. وقد قرأت له من قبل كتابه القيم «السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي»، وكتابه «اشتراكية الإسلام»، و«من روائع حضارتنا»، وغيرها من الكتب والرسائل التي تجمع بين إقناع العقل، وإمتاع القلب.
وأما محمد المبارك، فقد قرأت تعريفًا به في سجل التعارف الإسلامي، الذي كانت تحرص عليه مجلة «الشهاب»، الذي أصدرها الإمام الشهيد حسن البنا، فكان في كل عدد منها ملحق به عدد من الأسماء والصور في صفحة أو صفحتين، وكان من هؤلاء: الأستاذ محمد المبارك، والأستاذ مصطفى الزرقا، والدكتور معروف الدواليبي، والأستاذ عمر بهاء الدين الأميري، والأستاذ أحمد مظهر العظمة، وغيرهم من رجالات سوريا وعلمائها ودعاتها الأكرمين.
وقد ساهم كل من السباعي والزرقا والمبارك والدواليبي مع الدكتور البهي في لجان تطوير الأزهر، وكان من مقترحاتهم: أن يدرس طلاب الأزهر مادة «نظام الإسلام»، التي يقدم فيها الإسلام نظامًا متكاملًا في العقيدة والعبادة والتشريع والأخلاق. وإن كان الأزهر لم ينفذ توصيتهم هذه على أهميتها.
كما أن هؤلاء العلماء - وخصوصًا الأستاذ الزرقا - أسهموا بنصيب وافر في تطوير قانون الأحوال الشخصية، وعمل قانون موحد يأخذ بما انتهت إليه أفكار الإصلاح والتجديد في الأحوال الشخصية، منذ عهد الشيخ المراغي فما بعده. وإن لم ير هذا القانون النور؛ لانتهاء الوحدة قبل أن يكتمل، وقد نشره الأستاذ الزرقا بعد سنوات.
حضر الشيخ السباعي، والأستاذ المبارك إلى مصر، فعرض الدكتور البهي عليَّ أن يجمعني بهما، ودعاني إلى حفل شاي أقامه لهما في فندق «شبرد» بالقاهرة، وكان لقاءً مباركًا زاد من صلتي بالأستاذ السباعي، وأهداني بعض كتبه، ممهورة بتوقيعه بقلمه، ومنها: كتاب «السنة ومكانتها في التشريع».
وقد بقي الدكتور السباعي في القاهرة مدة من الزمن، لقيته فيها أكثر من مرة، وقد حدثني في إحدى زياراتي له: أنه زاره محمود أبو ريّا مؤلف كتاب: «أضواء على السنة المحمدية» الذي تطاول فيه على السنة، وعلى بعض الصحابة مثل أبي هريرة، وعلى أئمة السنة، حتى البخاري، ورد عليه الشيخ السباعي في فصل من كتابه؛ ردًّا قويًّا مركزًا هدم كتابه من أساسه.
وقال لي الشيخ: إن أبا ريّا قال له: إنك كنت شديد القسوة عليَّ. وكانت كلماتك كأنها شواظ من نار. فقلت له: وماذا كنت تريد أن أقول لك بعد أن هاجمت سنة رسول الله، وأصحاب رسول الله، وأئمة الإسلام، وخرجت عن الأسلوب العلمي في نقدك؟ هل كنت أريد أن أقول لك: معذرة يا شيخ الإسلام؟! وخرج أبو ريّا من عند الشيخ ملومًا محسورًا، وقد زادته كلمات الشيخ قهرًا على قهر، وغمًّا على غم؛ جزاء ما أساء إلى السنة.
كما لقيت الأستاذ المبارك وجهًا لوجه، بعد تقريره عن كتابي «الحلال والحرام»، وحدثني عن قراءته لمسودة كتاب «الحلال والحرام»، وأنه أعجب به منذ شرع في قراءته. ولكنه لم يكن يعرف القرضاوي كاتب هذا الكلام، ولماذا لم يُعرف قبل ذلك ما دام لديه مثل هذه المعرفة، وهذه الرؤية، وهذا القلم؟ حتى عرف من شقيقه مازن عني ما لم يكن يعرف - كما أشرنا إلى ذلك من قبل - قال: وقد حدثني عنك بما شوقني إليك، وزادني شوقًا حديث الأستاذ الدكتور البهي عنك. قلت: أرجو - والله - أن أكون عند حسن الظن. وقد توثقت الصلة بيني وبين المبارك، حتى توفاه الله في الأرض المقدسة، في مكة المكرمة رحمه الله، وجزاه عن دينه وأمته خيرًا.
الامتحان من أجل الابتعاث للبلاد العربية
كان من حقنا بعد مضي ثلاث سنوات علينا في العمل؛ أن نتقدم بطلب ليكون لنا حق الابتعاث أو الإعارة لبعض البلاد العربية التي تطلب مدرسين لمدارسها أو معاهدها من الأزهر. وما إن اكتملت لنا مدة السنوات الثلاث - منذ بدء تعييننا في الأوقاف - حتى تقدمنا بهذا الطلب؛ لنلحق بالمعارين إلى السعودية والكويت وغيرهما. وبخاصة أننا قد تأخرنا في التعيين، وفي حاجة ماسة إلى سند مادي يشد ظهرنا في مواجهة مطالب الحياة، وكل منا يريد أن يكون له بيت يملكه، لا مجرد شقة يستأجرها، وأن يكون له قدر من المال يدخره لمفاجآت الحياة.
والإسلام لا ينظر إلى المال على أنه شر ونقمة على الإنسان، بل ينظر إليه على أنه نعمة يجب أن تشكر، وأمانة يجب أن تُرعى، وهو وسيلة لتحقيق غايات الإنسان، جيدة كانت أم رديئة، فهو خير في يد الأخيار، وشر في يد الأشرار، وفي الحديث: «نعم المال الصالح للمرء الصالح»، وقد امتن الله تعالى على رسوله فقال: {وَوَجَدَكَ عَآئِلٗا «أي فقيرًا» فَأَغۡنَىٰ} )الضحى:8)، وقال تعالى على لسان نوح: {فَقُلۡتُ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارٗا * يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارٗا * وَيُمۡدِدۡكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ جَنَّٰتٖ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ أَنۡهَٰرٗا} (نوح:10-12).
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى»، كما كان يستعيذ به من شر فتنة الفقر، ومن شر فتنة الغنى، فلم يجئ في القرآن ما جاء في الإنجيل: أن الغني لا يدخل ملكوت السماوات، حتى يدخل الجمل في سم الخياط، ولم يقل الرسول لأحد أصحابه: اذهب فبع ما لك ثم اتبعني. بل قال: ما نفعني مال كمال أبي بكر... ودعا لخادمه أنس بدعوات منها: أن يكثر الله ماله.
على أن السفر لا يفيد الإنسان مالًا فقط؛ بل يفيده علمًا وخبرةً وتجربةً، وقد كنا نحفظ شعرًا ينسب إلى الإمام عليّ رضي الله عنه يقول فيه:
تغرّبْ عن الأوطان في طلب العلا ** وسافر، ففي الأسفار خمس فوائد
تفرج همّ، واكتساب معيشة ** وعلم، وآداب، وصحبة ماجد
على أن في البعثة بالنسبة إلينا - معشر الإخوان - فائدة أخرى غير مصرح بها، وهي الفرار من ملاحقات المباحث والمخبرين، والنجاة بالرأس من احتمالات الاعتقالات التي قد تكون بسبب أو بغير سبب، وقد يكون السبب أمرًا لا علاقة لك به، ولا تعلم عنه شيئًا. ولا عجب أن قدمنا طلب الإعارة أول ما استحققنا ذلك.
وكان المتبع في الأزهر: أن المتقدمين للبعثات أكثر من المطلوبين عادة، وفي بعض العهود كان الابتعاث موكولًا إلى بعض الأشخاص في الإدارة يتحكمون فيه، وقد قيل عن هؤلاء ما قيل، وفاحت روائحهم، وكان بعض المشايخ يتمثل بقول القائل:
إذا كنت في حاجة مرسلًا ** وأنت بها كلف مغرم
فأرسل حكيمًا ولا توصه ** وذاك الحكيم هو الدرهم
وقال آخر:
ألا بالقرش تبلغ ما تريد ** وبالمصري يلين لك الحديد!
تحويرًا لقول الشاعر القديم:
ألا بالصبر تبلغ ما تريد ** وبالتقوى يلين لك الحديد
فجعل مكان الصبر «القرش»، ومكان التقوى «المصري» أي الجنيه المصري.
وهذه آفة من أشد الآفات خطرًا على المجتمعات وقيمها: انتشار الرشوة، وإعطاء الأمر لمن يدفع، لا لمن يستحق؛ ولذا لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش، أي الوسيط بينهما. وفي الحديث الصحيح: «إذا ضُيَّعت الأمانة فانتظر الساعة» قيل: وكيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: «إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة».
وليس من الضروري أن تُفهم «الساعة» هنا على أنها الساعة العامة للبشر جميعًا. بل لكل أمة ساعة تذهب فيها عزتها وسيادتها، ويسلط عليها غيرها، فيصرف أمورها على ما يريد هو، لا على ما تريد هي، ولئن جازت الرشوة -وما هي بجائزة- في أي مجتمع، لا يجوز أن تكون في الأزهر، الذي يخرج للأمة علماءها ودعاتها ومفتيها؛ لهذا ضبط هذا الأمر في عهد الشيخ شلتوت بأن يدخل طالبوا البعثة «امتحانًا شفهيًّا» تقوم به لجنة من العلماء المرموقين، ويرشح منهم الناجحون الأول فالأول؛ وبهذا يأخذ كل ذي حق حقه.
وأذكر هنا: أن اللجنة التي امتحنتني كان على رأسها أستاذنا الشيخ محمد يوسف الشيخ الأستاذ بكلية أصول الدين، وأستاذ العقيدة وعلم الكلام والمنطق، الذي كانت له شهرته في التدريس في الكلية، وكانت اللجنة تمتحن المتقدم في القرآن الكريم وفي أسئلة عامة في العلوم الإسلامية.
وكنت بحمد الله حافظًا للقرآن، لا أكاد أخرم منه حرفًا، وكان أستاذنا محمد يوسف الشيخ يسأل أحيانًا في تفسير بعض الآيات. ومما أذكره أنه سألني أن أقرأ من سورة فصلت: قوله تعالى: {قُلۡ أَئِنَّكُمۡ لَتَكۡفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡأَرۡضَ فِي يَوۡمَيۡنِ وَتَجۡعَلُونَ لَهُۥٓ أَندَادٗاۚ ذَٰلِكَ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (فصلت:9)، وقرأت هذه الآيات إلى أن وصلت إلى قوله عز وجل: {فَقَضَىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَاتٖ فِي يَوۡمَيۡنِ وَأَوۡحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمۡرَهَاۚ وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنۡيَا بِمَصَٰبِيحَ وَحِفۡظٗاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ} (فصلت:12).
وهنا سألني الأستاذ: ألا ترى يا قرضاوي في قوله تعالى: {وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنۡيَا بِمَصَٰبِيحَ وَحِفۡظٗا}: ردًّا على ذلك الزعم الذي يرى أن بإمكان الإنسان أن يصعد إلى القمر، والله تعالى قد بيَّن لنا أنه حفظ السماء؟
قلت له: اسمح لي يا شيخنا: إني لا أرى كلمة {حِفۡظٗا} دالة على عجز الإنسان أن يصل إلى أي كوكب فوقنا. فهذا الحفظ حفظ مخصوص دلّت عليه الآيات الأخرى مثل قوله: {وَحِفۡظٗا مِّن كُلِّ شَيۡطَٰنٖ مَّارِدٖ * لَّا يَسَّمَّعُونَ إِلَى ٱلۡمَلَإِ ٱلۡأَعۡلَىٰ وَيُقۡذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٖ} (الصافات:7-8)، وقال في سورة أخرى: {وَحَفِظۡنَٰهَا مِن كُلِّ شَيۡطَٰنٖ رَّجِيمٍ} (الحجر:17)، فهو حفظ من استراق السمع.
ولا ينافي هذا الحفظ أن يصل الإنسان، الذي علمه الله ما لم يكن يعلم - وفقًا لسنن الله تعالى في الآفاق وفي الأنفس - إلى بعض كواكب السماء، وقد قال تعالى: {وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتِۢ بِأَمۡرِهِ} (الأعراف:54).
وأعتقد أنه من المجازفة يا مولانا: أن نعلن باسم الدين والقرآن: أن الصعود إلى القمر أمر مستحيل، ثم يتمكن الإنسان بعد سنوات - قد تطول أو تقصر - من تحقيق هذا الأمر؛ فماذا يكون موقف الذين أنكروا هذا الأمر واستبعدوه؟
قال الشيخ: وهل تعتقد أن هذا بالإمكان؟
قلت: لا ريب أنه في دائرة الإمكان حسبما وصل إليه الإنسان من إنجازات كانت تحسب من قبل في عداد المستحيلات، وقد قال تعالى: {وَيَخۡلُقُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (النحل:8)، ولو لم يكن هذا الأمر في دائرة «الإمكان العادي»؛ فهو قطعًا في دائرة «الإمكان العقلي» الذي درستموه لنا في علم الكلام.
وسكت الشيخ العلامة في العلوم العقلية، وإن كنت لاحظت عليه أنه غير مصدّق بقدرة الإنسان على الصعود إلى القمر.
والحمد لله، قد صدّقتني الأيام؛ فقبل مضي عشر سنوات كان الإنسان قد حقق هذا الإنجاز الخطير، وصعد أول إنسان إلى القمر، وجلب من فوقه صخورًا وأتربه ليحللها الإنسان هنا على سطح الأرض.
أول المتسابقين
ولم تؤثر هذه المناقشة التي خالفت فيها رئيس اللجنة في تقديرها لي، فقد منحتني اللجنة أعلى درجة نالها ممتحن، وكنت أول المتقدمين في هذا الامتحان؛ ومن ثم كان من حقي أن أختار أي بلد أحب من البلاد التي يُبعث إليها الأزهريون. وكان أفضل بلد يختاره الأزهريون عادة هو «الكويت»، فقد كانت الكويت تعطي أعلى الرواتب للمعارين إليها.
اختيار قطر
ولكني لم أختر الكويت، بل اخترت «قطر»، ولم يكن لقطر شهرة في ذلك الوقت، ولا يرغب المعارون فيها كغيرها، فقد كانت تخطو الخطوات الأولى في سلم الترقي الحضاري، وكانت رواتبها أقل من غيرها؛ ولكن لأن الشيخ عبد الله بن تركي المسئول عن العلوم الشرعية فيها كان قد طلبني من قبل من وزارة الأوقاف، ولا يزال حريصًا على استقدامي إلى قطر. فكان من الواجب أن أبادله ودًّا بود، وأقابل تحيته بمثلها أو أحسن منها.
ولكن بدت هنا عقبة لم أكن أتوقعها، ولم تخطر لي على بال؛ وهي أن أستاذنا الدكتور محمد البهي رشحني لبلد آخر، هو المملكة الليبية، فقد كان للأزهر هناك معهد يتبعه اسمه «معهد القويري» بمدينة مصراطا، وكان شيخ هذا المعهد يُعين من الأزهر، ويكون رئيسًا للبعثة الأزهرية، وكان الأزهر هو الذي يدفع رواتب المبعوثين إلى ليبيا.
وكان رئيس البعثة الأزهرية في ليبيا على غير هوى الدكتور البهي، وهو محسوب على الشيخ المشد، وقد أرسل إليه الدكتور البهي بتعليمات فلم ينفذها كما ينبغي؛ لذا أراد الدكتور البهي أن يتخلص من هذا الرجل، ويبعث مكانه شخصًا يعتقد أنه سيملأ مكانه وزيادة، وسيكسب رضا الشعب الليبي وثناءه، فلأجل ذلك حرص على أن يرشحني لهذا المنصب.
ولكني اعتذرت برفق لأستاذنا الدكتور البهي، وقلت له: إن بعثة ليبيا لا تنفعني بحال؛ لأن رواتب مبعوثيها من الأزهر، وهو يعطي ثلاثة أمثال الراتب، وأنا لا زلت في أوائل الدرجة السادسة، وراتبي جد محدود؛ فمعنى هذا: أن راتبي سيكون نحو سبعين جنيهًا!!
قال الدكتور: هناك علاوة لرئيس البعثة.
قلت: هب أنه صار مائة جنيه، فماذا ينفعني هذا؟ وماذا أنفق منها؟ وماذا يبقى لي؟
وكان منطقي قويًّا مبررًا؛ فلم يملك أمامه الدكتور أن يقول شيئًا، ولكنه يظهر - والله أعلم - أنه تأثر بهذا الموقف مني، وأنه كان يتوقع أن أستجيب له فيما أراده، وخصوصًا بعدما قدم لي من إكرامات في صور شتى، ولكن كانت هذه البعثة غير ملائمة لي على كل المستويات، ابتداءً من المستوى المالي، ثم هي في بلد ليس عاصمة البلد الذي سنذهب إليه، ثم ما ذنبي أنا أن أدخل في تصفية حسابات بين الدكتور البهي والشيخ المشد، وعلاقتي بكل منهما في غاية الجودة؟
ولقد حضر إلى مصر في الإجازة الصيفية الشيخ عبد الله بن تركي من قطر، وقابلته أنا والأخ أحمد العسال، وكان لقاءً علميًّا حيًّا، طرقنا فيه موضوعات في العقيدة والفقه والتربية، وسر به الشيخ ابن تركي، وطلبنا رسميًّا من الأزهر.
وقد دعانا الأخ إسماعيل حمد المدرس في قطر إلى وليمة على شرف الشيخ ابن تركي في يوم جمعة، بعد أن صلينا جميعًا في المسجد الذي يخطب فيه شقيقه صديقنا الشيخ أحمد حمد في حي الدقي، وكان المقصود أن يستمع ابن تركي إلى أحمد، ويعجب به، ويطلب إعارته إلى قطر.
ولكن الذي حدث هو العكس، فلم يدخل أحمد حمد قلب ابن تركي، ولم ينشرح إليه، ولا أعجبه، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء؛ ولهذا لم تفلح «عزومة» إسماعيل في طلب إعارة أخيه، وهذه قضية عادية، ولكن كان لها ما بعدها من الأثر في علاقتنا بأخينا أحمد. وليس لنا جرم فيها، لا أنا ولا العسال، وكل امرئ يأخذ نصيبه وفق قدر الله.
منعي من السفر إلى قطر
ومضينا نتخذ الإجراءات للبعثة، ونهيئ الأسباب للسفر القريب، واستخرجت جواز السفر لي وللعائلة، ولكني فوجئت بما لم يكن في الحسبان، فقد مضت أمور أخي العسال بلا عقبات ولا اعتراض من أحد، أما أنا فقالوا: إن جهات الأمن معترضة عليك، وسألنا عن سبب الاعتراض، فلم نجد جوابًا، وطلبت من الدكتور البهي أن يسأل مكتب السيد كمال رفعت، ومديره السيد عليّ إمبابي الذي كان دائم الصلة بمكتب الدكتور البهي، وكانت إشارته حكمًا، وطاعته غنمًا، وتوجيهاته لا ترد ولا تناقش، وكل هذا لم يجد شيئًا.
وظل الشيخ عبد الله بن تركي يرسل البرقيات تلو البرقيات لتسهيل إعارتي إلى حكومة قطر، ولا من سميع أو مجيب، وقد أخبرني بعض الرجال في إدارة الأزهر، ممن لهم صلات بجهات الأمن: أن الذي حال بيني وبين السفر إلى قطر هو الدكتور البهي نفسه، وأنه هو الذي أوعز إلى جهات الأمن أن تمنعني، وذلك عندما سأله رجال الأمن: هل تضمنه؟ فكان جوابه: لا. وأن الدكتور البهي فعل ذلك؛ عقوبة لي على رفضي الاستجابة لرغبته في الذهاب إلى ليبيا شيخًا لمعهد القويري هناك.
ولكني لم أصدق هذا الكلام، وأنا أستبعد هذا على الرجل وحسن علاقته بي، ولا أسيء به الظن إلى هذا الحد. وإن كنت قد لاحظت أنه ساءه موقفي، وليس من اليسير عليَّ أن أتهم رجلًا عاملني طوال مدة العمل معه معاملة منقطعة النظير، ولم أر منه قط ما يسوءني، بل رأيت منه كل ما فيه تكريم وإعزاز لي، وقد ذكرت ذلك فيما مضى.
وليس من خلقي أن أسارع باتهام الناس، وإساءة الظن بهم بغير بينة، والأصل في الناس عامة: البراءة، كما أن الأصل في معاملة المسلم للمسلم: أن يحمل حاله على أحسن المحامل، حتى يتبين منه غير ذلك. وقد قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞ} (الحجرات:12)، وقال عليه الصلاة والسلام: «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث»(1).
والمؤمن أبدًا يلتمس المعاذير، والمنافق دائمًا يبحث عن العيوب. وقد قال أحد السلف الصالح: ألتمس لأخي من عذر إلى سبعين، ثم أقول: لعل له عذرًا آخر لا أعرفه! والمؤمن يريح نفسه حين يقول: الخير فيما اختاره الله، ويقرأ قوله تعالى: {فَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡٔٗا وَيَجۡعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيۡرٗا كَثِيرٗا} (النساء:19)، والمثل يقول: كل تأخيره وفيها خيرة. وهذا ما جربناه في مناسبات شتى.
وقد قال لي الأستاذ محمد مرسي مدير مدرسة الدوحة الثانوية حينما لقيته في الصيف المقبل بعد رفع الحظر عن سفري: من الخير أنك تأخرت هذه السنة؛ لأنك ستأتي هذه السنة قطر مديرًا للمعهد الديني، تملك قرارك بدون معارضة ولا تعطيل، ولو جئت في العام الماضي؛ لكنت وكيلًا للمعهد، وكنت ستتعب مع المدير الموجود.
وعلى كل حال، لا أملك إلا أن أدعو للدكتور البهي بالمغفرة إن كان قد فعل ذلك. فما هو إلا بشر يصيب ويخطئ، وقد قالوا: لكل عالِم هفوة، ولكل جواد كبوة، ولكل سيف نبوة! والمهم أن تغلب حسنات الإنسان سيئاته، {فَمَن ثَقُلَتۡ مَوَٰزِينُهُۥ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (الأعراف:8).
ولقد ظلت علاقتي بأستاذنا الدكتور البهي موصولة الحبال، لم تنقطع خيوطها يومًا، رغم أنه رحمه الله ساءت علاقته بالشيخ الغزالي والشيخ سيد سابق، بعد أن عين وزيرًا للأوقاف. واصطدم بهما بغير مبرر، مع أنهما كانا حفيين به، وطالما دعواه وقدماه وكرماه من خلال منصبيهما في الوزارة، ولكن «عنف» الدكتور البهي غلب عليه، فعاملهما بجفوة مستغربة، مما اضطرهما أن يطلبا نقلهما إلى الأزهر، وبقيا فيه حتى خرج د. البهي من الوزارة.
وقد طلبته بعد ذلك بمدة أستاذًا زائرًا لكلية الشريعة بجامعة قطر، عندما كنت عميدًا لها، فجاءنا مع أهله، ورحبنا به كل الترحيب كما هو أهله، ووفرنا له ما يستحق من تقدير وتكريم، وذلك حين عرفت ضائقته المادية، فلم يستفد من الوزارة شيئًا غير راتبه، وغير العداوات التي جلبها على نفسه، رحمه الله.
وقد كان من دأب الدكتور البهي - الذي عرفناه من سيرته - أنه لا يأخذ أجرًا على مقالة يكتبها، أو محاضرة يلقيها، أو حديث يذيعه، طريقة اتخذها لنفسه، وأصر عليها إلى أن لقي ربه، رحمة الله عليه ورضوانه، يرى أن هذا جزء من الدعوة إلى الله تعالى، التي ينبغي أن تؤدى احتسابًا، وحينما رأى نشاطي المتنوع في قطر، سُرّ به سرورًا بالغًا، وقال لي يومًا: كان ظني بك في محله، وأنك العالِم المرجو لغد هذه الأمة إن شاء الله. قلت: إنما أنا تلميذ لكم، مستفيد من فكركم، وأرجو أن أكون عند حسن ظنكم بي.
وكان يقول للأزهريين الذين يزورونه: إن القرضاوي لم يأخذ حقه. إن مكانه الصحيح هو مشيخة الأزهر! إن الأزهر في حاجة إلى قيادة تجمع بين الفكر والدعوة، وبين الأصالة والتجديد، وإن علينا - نحن علماء الأزهر - أن نرشح القرضاوي ليقود سفينة الأزهر التي تميل بها الرياح. وكان هذا من حسن ظنه بي غفر الله لي وله. وكان الزملاء ينقلون إليّ قوله.
وقد صارحني بذلك في إحدى زياراتي له في الفندق، وقلت له: يا فضيلة الأستاذ شكر الله لك، حسن ظنك بي. ولكن هل ترى مثلي يصلح لهذا المنصب في هذه الظروف التي تعرفها؟ وهل يقبلون مثلي لهذا الأمر؟! قال: هم لا يقبلون، ولكن علينا نحن أن نقنعهم! قلت: وهبهم اقتنعوا، هل يطلقون يدي لأنفذ ما أريد؟
السنة الدراسية (1960 - 1961م)
وسافر العسال إلى قطر، وبقيت في مصر، أعمل بين المكتب الفني للوعظ والإرشاد، ومراقبة البحوث والثقافة، فكثيرًا ما كلفني الدكتور البهي بتقديم بعض المحاضرين في موسم المحاضرات بقاعة الشيخ محمد عبده، وهي السُّنة الحسنة التي استنها الدكتور البهي لإحياء الجانب الثقافي في الأزهر، واستغلال قاعة الشيخ محمد عبده لدعوة كبار المفكرين والعلماء لإلقاء المحاضرات العلمية بها في مختلف التخصصات، وقد ظلت سنوات وهي مهجورة لا يدخلها أحد.
وقد شهدت هذه القاعة محاضرات لبعض الرجال الكبار من مصر ومن البلاد العربية، منهم: الكاتب العملاق عباس العقاد، الذي ألقى محاضرةً قيمةً عن «فلسفة الغزالي»، ومنهم: الأستاذ محمد المبارك، الذي كان موضوعه: «نحو وعي إسلامي جديد»، ومنهم: الأستاذ السيد علي السيد، رئيس مجلس الدولة، الذي تكلم عن العلم في القرآن..
ومنهم: الدكتورة عائشة عبد الرحمن «بنت الشاطئ» التي تحدثت عن القرآن فيما أذكر، وكانت حاسرة الرأس، فسارع العالِم الورع الصوفي المعروف الشيخ محمود أبو العيون، بإلقاء «شاله» عليها، لتستر نفسها أمام الرجال الأجانب في قاعة محاضرات الأزهر.
وأذكر من الرجال الذين كلفني الدكتور البهي بتقديمهم في قاعة الشيخ محمد عبده: الشاعر الأديب السفير الحقوقي الداعية السوري الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري، الذي تحدث في محاضرة له عن العلاقة «بين العروبة والإسلام».
ولقد قدمته قبل المحاضرة، وعلقت على محاضرته بكلمات قوية، وقعت موقعها في قلب الأستاذ الأميري، فعانقني بعدها وشكرني، ومن يومها انعقد بيني وبينه صلة عميقة، لم تزدها الأيام إلا عمقًا وقوة، ولا سيما بعد أن التقينا مرات ومرات في لبنان وفي قطر، وفي السعودية والمغرب والجزائر.
ولا أذكر في هذه السنة أحداثًا ذات بال، حدثت في حياتي؛ إلا أني كنت أقرأ كثيرًا في الموضوع الذي اخترته لرسالة الدكتوراه، وهو «الزكاة في الإسلام وأثرها في حل المشاكل الاجتماعية»، والذي قدمته إلى الكلية، التي عينت لي مشرفًا هو شيخنا في الكلية، وشيخي في الدراسات العليا: الشيخ أحمد علي رحمه الله.
وقد كنت معنيًّا بالمقارنة بين الزكاة وغيرها من الضرائب، ولكني قرأت كثيرًا من كتب الاقتصاد، وخصوصًا ما يسمى «الاقتصاد السياسي»، ولم أجد فيها ما يشبع نهمتي. وكانوا يتحدثون عن الاقتصاد الرأسمالي، والاقتصاد الاشتراكي، ولا يخطر ببالهم أن هناك شيئًا اسمه: الاقتصاد الإسلامي، حتى حينما يتناولون التاريخ، يذكرون الاقتصاد عند اليونان، والاقتصاد عند الرومان، والاقتصاد عند الفرس، ولا يذكرون شيئًا عن الاقتصاد عند العرب والمسلمين، الذين كانت لهم حضارة شماء، استمرت شمسها مشرقة نحو عشرة قرون!
وقد اكتشفت بالمصادفة أن الفرع الذي يهمني في دراستي أكثر من غيره من فروع الاقتصاد، هو: علم المالية العامة، الذي يتناول موارد الدولة ونفقاتها، وفلسفة الضرائب وشروطها، وكيف تتحقق العدالة فيها. وقد قيل لي: إن أعظم كتاب في «أصول علم المالية» هو كتاب الأستاذ الدكتور محمد عبد الله العربي، أستاذ علم المالية في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، والذي كتب في الاقتصاد الإسلامي عدة بحوث جيدة.
وهو الكتاب الذي درسه عدة سنوات في الكلية، ولكني حاولت أن أعثر عليه فلم أجده، فمن المؤسف أن هذه الكتب القيمة المقررة في الكليات إذا لم تعد مقررة لتغير الأستاذ؛ فُقدت من السوق تمامًا. وهذا ما حدث لهذا الكتاب وأمثاله من الكتب الأصيلة؛ ولهذا لم أجد بدًّا من أن أستعيض عن كتاب الدكتور العربي بما يتوافر في السوق من كتب علم المالية، المقررة على الطلبة في كليات الحقوق. وقد استفدت منها على كل حال، ووجدت فيها طلبتي التي كنت أنشدها، وإن لم تبلغ مبلغ كتاب العربي.
قطر تواصل الإرسال في طلبي من مصر
وفي خلال هذه السنة الدراسية (1960 - 1961م) لم تنقطع رسائل وزارة المعارف في قطر عن طلبي من الحكومة المصرية، وبخاصة أن فضيلة الشيخ عبد الله بن تركي مسئول العلوم الشرعية في المعارف، والمسئول عن التعاقد مع علماء الأزهر في مصر؛ لم يكف عن إرسال البرقيات إلى الأزهر، وإلى السيد حسين الشافعي - عضو مجلس الثورة - والمشرف على الأزهر في ذلك الوقت، يطلب فيها «فك الحظر» عني، والسماح لي بالسفر إلى قطر.
ونظرًا لكثرة البرقيات وإلحاحها؛ شرع مكتب حسين الشافعي يحقق في أمر منعي وأسبابه؛ وانتهى إلى إلغاء قرار المنع، والسماح لي بالسفر إلى قطر، ابتداءً من العام الدراسي القادم (1961 - 1962م)، وفي (12/9/1961) سافرتُ إلى قطر مديرًا لمعهدها الديني الثانوي؛ لأبدأ هناك مرحلةً جديدةً من مسيرة الحياة، حديثها يطول، وهو ما نتحدث عنه إن شاء الله، في الصحائف القادمة.
.....
(1) رواه البخاري (4747)، ومسلم (4646) عن أبي هريرة.