كان وضعي أنا وأخي العسال في وزارة الأوقاف مريحًا، ولكنه قلق غير مستقر؛ فالعمل الذي يزاوله كلانا ليس واضح الأهداف، محدد المعالم، فأخي أحمد يشرف على مكتبة لا تحتاج إلى متفرغ مثله، والمعهد الذي أشرف عليه ليس معهدًا حقيقيًا، يحتاج إلى تفرغ مثلي له. وكلاهما مرهون ببقاء الباقوري وزيرًا للأوقاف، والبهي الخولي مراقبًا للشئون الدينية، ومعه الغزالي، وسيد سابق.
لهذا فكرنا جديًا أن ننتقل إلى الأزهر، فهو مكاننا الطبيعي، ولا سيما أن شيخنا العلّامة محمود شلتوت هو الآن شيخ الأزهر، وإمامه الأكبر، وبيننا وبينه من قديم مودة مكينة، وصلة متينة، ونعتقد أننا إذا ذهبنا إليه وكلمناه في نقلنا إلى الأزهر، فلن يتأخر عن تلبية طلبنا، كما أن إخواننا ومشايخنا في الأوقاف لن يقفوا عثرة في طريقنا.
ترحيب الشيخ شلتوت بنقلنا إلى الأزهر:
وهذا ما حدث بالفعل، فقد زرنا الشيخ في بيته، وحدثناه عن وضعنا في الأوقاف، ورغبتنا في الانتقال إلى بيتنا - بيت العائلة - بالأزهر، فرحب الشيخ بنا كل الترحيب، وقال: الأزهر داركم وموئلكم، وأنتم أبناؤه البررة، والأب يرحب بعودة أبنائه إليه، وإن اغتربوا فترة عنه. وطلب الشيخ الأكبر من صهره ومدير مكتبه الأستاذ أحمد نصار: أن يكلم الأستاذ الدكتور محمد البهي المدير العام لإدارة الثقافة الإسلامية، لينقلنا إلى إدارته، فرحّب بذلك وأيده. بل طلب الإسراع بإنجاز الإجراءات اللازمة التي كثيرًا ما تطول بين الوزارات والمؤسسات المختلفة.
وما هي إلا أسابيع حتى تم النقل بسرعة؛ نظرًا لأن الجهتين - المنقول منها والمنقول إليها - كانتا تساعداننا بإخلاص، ولا تضع العراقيل الروتينية في طريقنا، كما هو المعتاد في مثل هذه الأحوال. وشكرنا لوزارة الأوقاف وشيوخها الكبار - وعلى رأسهم: الوزير - ما قاموا به نحونا من تكريم ورعاية، ولا نملك إلا أن نقول لهم: شكر الله لكم وجزاكم عنا خيرًا.
العمل مع د. محمد البهي:
وانتقلنا إلى الأزهر لنعمل في مراقبة البحوث والثقافة، التابعة للإدارة العامة للثقافة الإسلامية، تحت إشراف مديرها العام الأستاذ الدكتور محمد البهي، أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية أصول الدين وكلية اللغة العربية، ومؤلف الكتب الشهيرة في الفلسفة والفكر الإسلامي، مثل: «الجانب الإلهي في التفكير الإسلامي»، و«الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» الذي كان له دويه في الأوساط الثقافية والفكرية؛ لوقوفه بالمرصاد للفكر الماركسي الذي يقول: الدين خرافة، والدين مخدر، والفكر العلماني الذي يقول: الإسلام دين لا دولة.
وكان الدكتور البهي مشهورًا بالشدة - وربما العنف - في إدارته. ولكن - ولا أقول إلا الحق - : إنه كان معي في غاية الدماثة واللطف، ما دخلت عليه إلا أجلسني بجواره، وإذا كان عنده ضيوف كبار قدمني إليهم تقديمًا أشعر بالخجل منه، فهو يضفي عليَّ من الأوصاف أكثر مما أستحق، ولم يفعل ذلك مع أي موظف يعمل معه، حتى رؤساء الأقسام عنده كانوا يقفون أمامه وجلين، وأنا جالس بجواره. وهذا لا تفسير له عندي إلا أنه فضل الله على عبده.
إخراج كتب الشيخ شلتوت:
فكر الدكتور البهي فيما يسند إليَّ أنا وزميلي العسال من عمل، ثم قال: لدينا عمل كبير لا ينجزه غيركما، وهو: أن ننشر تراث الشيخ شلتوت على الناس في كتب كبيرة، ولا بد أن نجمع هذا التراث من مظانه المختلفة. في الصحف والمجلات، وفيما لدى الشيخ الأكبر من مقالات أو مسودات. وأنتما أهل لتجميع ذلك وتنسيقه وطباعته وتصحيحه. ومطبعة الأزهر رهن إشارتكما.
وكان الشيخ شلتوت - رغم شهرته وذيوع صيته - لا يكاد يوجد له كتب يقرأها الناس، غير كتاب شارك فيه العلامة محمد علي السايس، وهو كتاب: «المقارنة بين المذاهب الفقهية» المقرر على السنة الرابعة من كلية الشريعة، جامعة الأزهر.
وله كتاب آخر، كان في أصله محاضرات ألقاها على طلبة الدراسات العليا في كلية الحقوق، عنوان: «فقه الكتاب والسنة: القصاص». وله رسالة صغيرة عن «القرآن والقتال»، وأخرى عن: «القرآن والمرأة»، وثالثة عن: «منهج القرآن في بناء المجتمع».
وما عدا ذلك له فتاوى وبحوث في جوانب شتى، نشرها في بعض المجلات، أو بعض الصحف اليومية، أو بثتها الإذاعة المصرية، من ذلك ما كان في مجلة «الرسالة» التي كان يصدرها الأستاذ الزيات، وما كان في مجلة «الأزهر»، وما كان في مجلة «رسالة الإسلام» التي تصدر عن «دار التقريب بين المذاهب الإسلامية» بالقاهرة.
وكانت الخطوة الأولى هي التنقيب عن هذا التراث في مظانه المختلفة، وتجميعه من كل من عنده شيء منه. وبعد أن تجمع لدينا كمٌّ كبير من تراث الشيخ، ترجح لنا أن نضعه في أربعة كتب كبيرة:
الأول: يتضمن الجانب العقدي والفقهي والأصولي أو التشريعي من كتابات الشيخ، والذي كان قد كتب فيه رسالة صغيرة الحجم، سمَّاها: «الإسلام عقيدة وشريعة»، وفيه أفرغنا كتاب: «فقه القرآن والسنة»، وبعض ما كتبه الشيخ حول هذا الجانب من العقيدة والشريعة.
والثاني: يتضمن «فتاوى الشيخ» التي أصدرها ونشرها في مناسبات مختلفة، وهي فتاوى تتسم بالتجديد والجرأة، وتجمع بين الأصالة والمعاصرة معًا. وقد أودعنا فيه كل ما عثرنا عليه من فتاوى الشيخ.
والثالث: يتضمن المقالات الدعوية والتوجيهية في شتى جوانب الدين والحياة، وهو الذي اختار له الدكتور البهي عنوان: «من توجيهات الإسلام».
والرابع: يتضمن مقالات «التفسير» للقرآن، التي نشرت في مجلة «رسالة الإسلام»، وكان جمعها أسهل من غيرها؛ لأنها مكتوبة منشورة مرتبة، فلا تحتاج أكثر من التجميع.
وكان علينا في هذا المجال عدة أمور:
أولًا: أن نقسم الكتاب تقسيمًا علميًّا منطقيًّا إلى أبواب أو فصول، أو أجزاء يسهل الرجوع إليها.
وهو ما صنّفناه في «الإسلام عقيدة وشريعة» أما في «الفتاوى» فقد قسمناها إلى ما يتعلق بالقرآن والحديث، وما يتعلق بالعقائد والغيبيات، ثم ما يتعلق بالعبادات: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وما يتصل بالمرأة والأسرة، وما يتصل بالمعاملات، وما يتصل بالحكم والدولة والعلاقات الدولية، ثم متفرقات.
وثانيًا: علينا بعد هذا التقسيم والتبويب: عمل آخر، وهو وضع العناوين الجانبية لتفصيلات كل موضوع؛ لتعين القارئ على حسن الفهم والاستيعاب. وقد عرضنا تبويبنا وتقسيمنا وطريقة عملنا على الدكتور البهي فأقرها. وكذلك عرضناها على الشيخ شلتوت نفسه، فسُر بها، ودعا لنا بالخير والتوفيق.
وقد كنا نراجع الشيخ في بعض الفقرات التي تكون لنا عليها ملاحظة، فيقرنا عليها، وأحيانًا يوكلني بإتمام ما أراه ناقصًا، وأذكر أنّا عرضنا عليه: أن بعض الآيات في سورة الأنفال لم تأخذ حقها من الشرح رغم أهميتها، فقال لي: سُدّ هذه الفجوة بما تراه. ذلك تفويض مطلق. وكان الأخ العسال كلما مر على هذه الفقرة ونحوها يقول: هذه قرضاوية. فأقول له: قد أصبحت بإقرار الشيخ شلتوتية!
والحقيقة أن ثقة الشيخ بي كانت غير محدودة، فكثيرًا ما أحال إليَّ بعض الأشياء المعضلة لألخصها له، مثل: رأي ابن القيم في «فناء النار»، وقد لخصته له في كتابيه: «شفاء العليل في القدر والحكمة والتعليل»، و «حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح». وأحيانًا يحيل عليَّ بعض الاستفتاءات لأرد عليها بقلمي. مثل: فتوى إفطار الجنود في الصوم عند قتال العدو، وقد كتبتها وسلمتها للشيخ ونشرت باسمه.
وثالثًا: علينا أن نشرف على الطباعة والتصحيح، حتى يخرج الكتاب للناس في صورة مقبولة. وكنت أرى أن من القربات إلى الله أن نعمل على إخراج علم الشيخ شلتوت إلى النور، لتنتفع به الأمة، وأن أي جهد نبذله فهو - إن شاء الله - في ميزاننا، وإن ضاع عند الناس فلن يضيع عند الله.
ولقد نوّه الأستاذ الدكتور محمد البهي بما قمنا به - أنا والعسال - من جهد في تجميع هذه الكتب وتنسيقها حتى خرجت للناس بصورتها المشرقة مبوبة مفهرسة.
وكان هذا التنويه في الطبعة الأولى لهذه الكتب التي طبعتها مطبعة الأزهر، فلما اختلف الدكتور البهي مع الشيخ شلتوت بعد ذلك، وخصوصًا بعد أن صار وزيرًا للأوقاف، أمر الشيخ بحذف مقدمات الدكتور البهي من جميع كتبه، وهذه المقدمات هي الشهادة الوحيدة التي سجلت جهدنا العلمي في خدمة تراث الشيخ. فلم يعد لجهدنا هذا أي ذكر في أي طبعة من الطبعات. وأعتقد أن من العدل والإنصاف، ومعرفة الفضل لأهله: أن يذكر هذا أو يشار إليه، على غلاف هذه الكتب، أو في مقدماتها على الأقل.
زيارة لسوريا لم تتم:
في تلك الآونة كانت الوحدة بين سوريا ومصر قائمة في إطار الجمهورية العربية المتحدة، وكانت ترتب زيارات بين البلدين لتوثيق الصلات، وإذابة الحواجز، وكان بعض هذه الزيارات تنظمها جهات حكومية مختلفة.
وقد طُلب من الأزهر أن يرشح بعض النابهين من علمائه - خصوصًا الشباب منهم - لزيارة سوريا، والاطلاع على ربوعها، والتعرف على شعبها ومؤسساتها، وقد رشحنا مكتب شيخ الأزهر لهذه المهمة - العسال وأنا - وقلنا لمدير المكتب الفني للشيخ: الأستاذ عبد الحكيم سرور: ربما لا توافق علينا جهات الأمن، فقال: نحن أبلغناهم بالاسمين، ولم يعترضوا، وكيف يعترضون على عالِمين رشحهما شيخ الأزهر نفسه؟ ثم إنكما تسافران في بلدكما من إقليم إلى آخر!
وأعددنا العدة، وأحضرنا حقائبنا للسفر، وذهبنا إلى المطار، وعملنا الإجراءات الأولى للسفر من الوزن وخلافه، وانتظرنا أن ينادى علينا لنركب الطائرة، وقبل أن نركب الطائرة: نودي على اسمي، معتذرين عن عدم إمكان سفري. ولكن لم ينادوا على العسال، وقلت له: ما أظن إلا أنهم سينادون عليك، وقد ركب الطائرة بالفعل، ثم بعد دقائق، نادوا عليه وأنزلوه من الطائرة، وأخذنا حقائبنا وعدنا إلى منزلنا، وفي اليوم التالي ذهبنا إلى الأزهر، ففوجئوا بنا، وقصصنا عليهم ما حدث، وأخذ أخونا الشيخ سرور يضرب كفًّا على كف، ويقول: كيف يمنع مواطن من التنقل بين أقاليم بلاده؟ إذن هي ليست وحدة حقيقية!