أما تهمة الاشتراك في الجهاز السري أو النظام الخاص؛ فأذكر علاقتي به كيف كانت، ومتى كانت. في يوم من الأيام، وأنا في مدينة المحلة الكبرى، أظن ذلك كان بعد أن خرجت من الاعتقال الأول في مارس 1954م؛ جاءني أحد الإخوان القدامى المعروفين في المحلة، وهو الأخ سليمان مطاوع، وقال لي: إن أخًا مهمًا هنا يريد أن يلقاك على انفراد.
قلت له: هل جاء من طنطا أو من القاهرة؟
قال: لا، بل هو يعمل في المحلة ذاتها.
قلت له: هل هو من الإخوة الذين أعرفهم؟
قال: لا، إن ظروفه تحتم عليه ألا يظهر مع الإخوان.
قلت له: لا بأس ولا حرج أن ألقاه.

وذهب بي الأخ مطاوع إلى منزل أخ يعمل في شركة المحلة، وعرفت أن اسمه: عبد الحميد الرفاعي، وأن أصله من الشرقية. وقال: إنه يرقب نشاطي من بعيد، ويحضر خطبة الجمعة، وغيرها من الأنشطة البعيدة عن شعبة الإخوان. وعلمت منه أنه المكلف برئاسة التنظيم الخاص في المحلة، والإشراف عليه، وأنهم يطلبون عوني في أداء مهمتهم.
قلت له: وهل يعرف الأستاذ محمد عبد العال ـ رئيس الإخوان بالمحلة ـ بهذا الأمر؟
قال: لا، لأن الأوضاع من حولنا تقتضي أن يكون عملنا سريًا؟
قلت له: لا مانع أن يكون العمل سريًا في بعض الأحيان، وقد قال سيدنا يعقوب لابنه يوسف: {لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ} (يوسف: آية 5)، ولكن ألا يعلم المسؤول في الإخوان ما يجري في منطقته؟
قال: في بعض المناطق يكون المسؤول عن المنطقة هو المسؤول عن التنظيم الخاص، ولكن ليس في كل منطقة.
قلت له: وما هو المطلوب مني؟
قال: العناية الثقافية والروحية بأعضاء التنظيم.
قلت: هذا ما أقوم به بالنسبة لجميع الإخوان.
قال: نريد جرعات أقوى، وعناية أكبر بالشباب المنتظمين معنا. وقد قال لي الحاج: إنك الموجه الروحي للنظام في مديرية الغربية.
قلت: من الحاج؟
قال: الحاج أحمد البس.
فعرفت منه أن الحاج أحمد هو المسوؤل عن النظام الخاص في الغربية، وبتعبير الإخوان: مكتب إداري الغربية. ولم يطلب مني الرجل أن أبايعه كما يفعل مع غيري، لعله استكثر أن يبايع مثلي مثله.

وانتهت المقابلة الأولى والأخيرة مع عبد الحميد الرفاعي مسؤول التنظيم في المحلة، وظللت أضرب أخماسًا في أسداس، وأفكر فيما سمعت، وأقلب وجهة النظر فيه. لقد كنت أسمع عن النظام الخاص من قديم، ولكن لم يعرض علي أحد قبل ذلك الانضمام إليه. حتى أستاذنا البهي الخولي قالوا عنه: إنه كان ممن يبايعه الإخوان على الدخول في هذا النظام، ولكنه لم يحدثنا يومًا عنه، ولم يطلب إلينا صراحة الانخراط فيه، حتى أيام "كتيبة الذبيح".

وفكرت في نفسي: هل أصلح لنظام خاص، وأنا بطبيعتي رجل عام؟ وهل أصلح في تنظيم سري، وعملي كله علني؟ ثم إنه يفترض الطاعة العمياء من أفراده، وأنا لا ألتزم إلا بطاعة مبصرة، ولا أفعل شيئًا لا أفهمه، ولا أعرف فحواه ولا مشروعيته؟

ثم ما هذا النظام الذي يجعل في المنطقة الواحدة مسؤولًا سريًا، ومسؤولًا علنيًا لا يعلم عن المسؤول الآخر شيئًا، وهل يجيز الإسلام هذه الازدواجية؟ وما الحكم لو صدر أمران متعارضان للأخ: أحدهما من الرئيس العلني، والآخر من القائد السري؟

ثم كيف يُفرض على الناس مسؤول لا يعرفون عنه شيئًا؛ لأنه لا يحضر إلى دار الإخوان، ولا يسمع محاضرة ولا درسًا، ولا يشارك في نشاط عام، ولا نستطيع أن نحكم له أو عليه؛ لأنه يعيش في مخبأ سري كالإمام الغائب، لا نعرف عنه كثيرًا ولا قليلًا؟! على أن هنا خللًا واضحًا؛ إذ كان يجب أن يكلمني الحاج أحمد البس في ذلك أولًا، فأنا أعرفه وأعرف تاريخه، وأعرف منزلته في الدعوة، أما أن يكلمني رجل مجهول غير معلوم؛ فهذا ما ينبغي أن يُنكَر ولا يستساغ.

كان هذا ما يدور في خلدي وما يجول بفكري في تلك الفترة، ولكن لم أتخذ موقفًا حاسمًا، إذ لم يكن مطلوبًا مني شيء غير عادي أفعله، وكنت أنتهز الفرصة لأناقش الأمر في القضية مع الحاج أحمد البس مسؤول الغربية، أو مع الإخوة في القاهرة، ولا سيما مع المرشد العام نفسه، عندما تسمح الظروف، ولكن الظروف كانت تتغير بسرعة هائلة.

ولم يطلب مني أي شيء في تلك الفترة يختص بالتنظيم، غير أن الأخ سليمان مطاوع جمعني مرة بعدد من الإخوة في لقاء خاص عرفت من سياقه أنهم أعضاء في التنظيم، وكنت أعرف أكثر هؤلاء الإخوة في شعبة الإخوان. وهم لا يمتازون عن غيرهم؛ إلا أنهم أقل كلامًا، وأقل نشاطًا عامًا من غيرهم! وربما اختُبروا فوجِدوا أقدر على الكتمان والطاعة المطلقة.

وقد جمعني السجن الحربي بعد ذلك بهؤلاء الإخوة الطيبين المخلصين. وقد حوكموا معي، وصدر علينا جميعا الحكم من المحكمة العسكرية بالسجن عشر سنوات مع إيقاف التنفيذ. وكان الدليل الوحيد علينا جميعًا، هو اعتراف عبد الحميد الرفاعي مسؤول التنظيم، الذي اندفع عندما مسه التعذيب إلى الاعتراف بكل شيء. هذا مع أني لم أبايعه لا هو ولا غيره، والبيعة من شروط الانضمام إلى التنظيم. كما لم أقل له أي كلمة تفيد قبولي الانضمام إليه، ولم أشارك في أي عمل خاص ينفرد به النظام، ولا طُلب مني ذلك. وكانت الفترة تلك حافلة بالأحداث والتغيرات المتلاحقة، ولكن يظهر أن الرفاعي اعتبر سكوتي عند مقابلته كسكوت البكر حينما يعرض عليها الزواج؛ فإذنها صماتها، وسكوتها يعبر عن رضاها!

وكذلك الإخوة من أبناء المحلة الذين حوكموا معي لم يصدر منهم أي عمل محظور، ولم يُكلَّفوا بأي شيء مخالف للقانون. أما الرفاعي فقد حُكم عليه بعشرين سنة على ما أذكر، باعتباره أحد المسؤولين في إحدى المناطق الكبيرة.

هذه هي علاقتي بالتنظيم الخاص أو بالجهاز السري، كما سمته السلطات الحكومية، وهي علاقة ـ كما ترى ـ لا تجعلني منه في عير ولا نفير.

وقفة لتقويم النظام الخاص:

في سنة 1940 أنشأ الأستاذ البنا جهازًا داخل الجماعة؛ سماه "النظام الخاص" يضم إليه من أفراد الجماعة الإخوة الذين عُرفوا بإخلاصهم للدعوة، وثباتهم عليها، والتزامهم بتعاليمها وتوجيهاتها، كما يتميزون باللياقة البدنية، والقدرة على الاحتمال، والصبر على المكاره، وكتمان الأسرار، والسمع والطاعة في المنشط والمكره، والاستعداد للتضحية والبذل، ولو بالنفس والنفيس. وكلَّف الأستاذ البنا خمسة من الإخوان بالإشراف على هذا النظام واختيار جنوده، وتدريبهم على متطلبات للجهاد، وإعدادهم لليوم الموعود. وكان وراء تكوين هذا النظام عدة أهداف يسعى إلى تحقيقها:

1ـ أولها: مقاومة الإنجليز، الذين يحتلون مصر والسودان وغيرهما من بلاد العرب والمسلمين، فمن المعروف أن الحرية والسيادة والاستقلال للأوطان لا تنال بالخطب ولا بالمفاوضات، ما لم تسندها مقاومة شعبية مسلحة، ترغم المحتل على الرحيل من أرض لم يعد يجد فيها الأمان. وأكد ضرورة هذا التنظيم: أن التجنيد في ذلك الوقت لم يكن إجباريًا، وكان من يملك عشرين جنيهًا يستطيع أن يعفي نفسه من الخدمة العسكرية.

2ـ وثانيها: مقاومة المشروع الصهيوني، الذي غزا المنطقة بمكر ودهاء، وأقام مستعمرات شتى في أرض فلسطين، ولا تزال الهجرات الجماعية تتوالى على أرض الإسراء والمعراج، تفرضها العصابات الإرهابية الصهيونية، وتؤيدها الحكومة البريطانية المنتدبة على فلسطين، والتي وعدت اليهود من قبل على لسان وزير خارجيتها "بلفور" بإقامة وطن قومي لهم. وقد تركت لليهود الحبل على الغارب يسلحون أنفسهم بما يقدرون عليه، وساعدتهم سرًا وجهرًا، على حين حرمت على أهل البلد الفلسطينيين أن يملكوا أي سلاح.

ولا يقاوَم المشروع الصهيوني المدجج بالسلاح، المستبيح للدماء، بالأماني الفارغة، ولا بالأقوال المعسولة؛ بل ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة، والشر بالشر يُحسم، والبادئ أظلم.
والشر إن تلقه بالخير ضقت به  **  ذرعًا وإن تلقه بالشر ينحسم
والناس إن ظلموا البرهان واعتسفوا  **  فالحرب أجدى على الدنيا من السلم
فلا بد من إعداد جيل مجاهد، ليقف في وجه أطماع بني صهيون، ويواجه القوة بالقوة المستطاع إعدادها، ليرهب بها عدو الله وعدوه.

3ـ ثالثها: حماية الدعوة من أعدائها الذين قد يحاولون اقتلاع جذورها، وإيقاف مسيرتها، وتعويق حركتها، بقانون القوة، أو بقوة القانون، عن طريق الأحكام العرفية أو الطوارئ العسكرية. وقد يتم ذلك عن طريق المحتلين الأجانب مباشرة، وقد يكون عن طريق عملائهم من الحكام الذين يأتمرون بأمرهم، ويدورون في فلكهم، وينفذون لهم مطالبهم.
وهنا يجب أن تدافع الدعوة عن نفسها ووجودها، إذا اعتُدي عليها، وعلى حرماتها، وحرمت من حقها في إبلاغ كلمة الإسلام إلى الناس، وجمعهم عليه، وتربيتهم على منهجه. وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} (الشورى:39).

4ـ رابعها: غرس روح الجهاد في الشباب المسلم، هذا الجهاد الذي طمست معالمه، وخُنقت أنفاسه في مجتمعات المسلمين، وحلت محله روح الميوعة والطراوة، والإخلاد إلى الراحة والدعة ونعومة العيش. والأمم التي ديست حقوقها، وانتهكت حرماتها، واحتلت أرضها؛ يجب عليها أن تعد أبناءها للجهاد لتحرير أرضها، واستعادة حقها، وطرد غاصبيها. ولا سيما الأمة الإسلامية التي أمرها الله بالجهاد في سبيله، واشترى من أبنائها أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.      

ولقد جعلت دعوة الإخوان من شعاراتها منذ ارتفعت رايتها: الجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا. فلابد أن يكون لهذا الشعار مدلول عملي في تكوين أبنائها. وكان النظام الخاص هو الذي يوفر ذلك بقوة وجلاء، ويدرب الشباب على الأعمال الجهادية والعسكرية اللازمة لكل من يهيئ نفسه للدخول في معركة مع أعداء الأمة.

5ـ خامسها: السعي إلى تغيير الحكم العلماني الذي لا يحكم بما أنزل الله، ولا يحتكم إلى شريعة الإسلام وقيمه في تشريعه وتقنينه، ولا في اقتصاده وسياسته، ولا في تربيته وتعليمه، ولا في ثقافته وإعلامه، ولا في تقاليده وآدابه، عن طريق "انقلاب عسكري" تكون طلائعه من أبناء النظام الخاص. بعد أن ثبت أن الديمقراطية في بلادنا ليست ديمقراطية حقيقية، فالانتخابات تُزوَّر، وحتى لو لم تزور، فإنها تؤثر فيها قوى مختلفة، تجعلها غير معبرة بحق عن إرادة الشعب وتوجهاته الحقيقية.

هذه هي الأهداف الخمسة التي كان يُرجى من النظام الخاص أن يحققها أو يساهم في تحقيقها، وكلها أهداف مشروعة ومقبولة، ولا يسع أي مسلم أو وطني حر إلا أن يرحب بها، "وخصوصا" في تلك المرحلة من مراحل تاريخ الأمة الإسلامية عامة، والعربية خاصة، والمصرية على وجه أخص. ولكن ماذا كان موقف النظام الخاص من هذه الأهداف؟ وهل استطاع أن يحقق شيئًا منها؟ وهل ظلت هذه الأهداف باقية في برنامجه أو تغيرت؟ أو فقدت مصداقيتها؟

أما الهدفان الأولان ـ مقاومة الاحتلال البريطاني والاستعمار الصهيوني ـ فلا ينكر أن النظام قد قام ببعض الأعمال ضدها، وضرب بعض المؤسسات التابعة لكل منهما، ولكن لم يكن وجود النظام الخاص شرطًا لتحقيق ذلك، فقد يمكن ذلك عن طريق تنظيم المقاومة الوطنية الشعبية، كما حدث في كثير من الشعوب والأوطان، وإن كان العمل السري في حالات مقاومة العدو المحتل أكثر جدوى، وخصوصًا مع وجود الحكومات الموالية له، أو المستخذية أمامه، والتي تحاكم المواطنين وتزج بهم في السجون .

وقد شهدنا عندما فُتح باب التطوع لجهاد العدو الصهيوني في فلسطين سنة 1948م، والعدو البريطاني في سنة 1951م؛ أن الذين تقدموا لجهاد الأعداء من الإخوان عامة، ومن الشعب كافة؛ كان أكثرهم من غير أعضاء النظام الخاص. كما تبين أن النظام بكل ما لديه من قوة بشرية ومادية؛ لم يمكنه حماية الدعوة من الضربات التي وُجهت إليها، سواء سنة 1948 في عهد الملكية المصرية، أم سنة 1954م في عهد الثورة؛ لأن سيف الحكومة أقطع، وقوة الحكومة أغلب.

بل كان النظام الخاص في كلا العهدين من أسباب اضطهاد الإخوان من خصومهم، واتهامهم بالعمل على قلب نظام الحكم، وإنشاء جهاز سري مسلح مخالف لقوانين الدولة، واتخذوا من بعض الأعمال التي حدثت من النظام ضد الإنجليز أو الصهاينة ذريعة لضرب الإخوان وحل جماعتهم، واتهامهم باستخدام العنف .

وإذا قارنا بين جماعة الإخوان في مصر والجماعة الإسلامية في باكستان التي أسسها الإمام أبو الأعلى المودودي؛ نجد كلتا الجماعتين تُحارَب من السلطات الحاكمة، ولكن الجماعة الإسلامية، سرعان ما يقف القضاء في محاكمه العليا بجانبها، ويحكم لها بالعودة إلى ممارسة نشاطها، وإلغاء الحظر المفروض عليها، إذ لم يكن لديها نظام سري خاص، يستخدم القوة في تنفيذ أغراضه؛ ولذا لم يجد القضاء أمامه أي تهمة يمكن أن يلصقها به .

أما إعداد الشباب للجهاد وتدريبه على متطلباته؛ فالحق أن النظام الخاص قد قام بهذه المهمة خير قيام وربَّى على الجهاد والفداء والتضحية: شبابًا كانوا بحق نماذج ومثلًا رفيعة لغيرهم في ربَّانيتهم وثقافتهم وإيثارهم، فكانوا بحق رهبان الليل وفرسان النهار، وتكاد تحسبهم من بقايا السلف الصالح، وقد ضم النظام فيما رأيت خيرة العناصر الإخوانية .

على أني أقول: إن التدريب على متطلبات الجهاد والسلاح كان مطلوبًا ولازمًا فيما سبق، أما اليوم فإنه لم يعد مُحتاجًا إليه، بعد أن أصبح التجنيد إجباريًا، وغدا كل مواطن يعرف كيف يستخدم البندقية والمدفع. وأما أعمال الخشونة والتربية البدنية، فلا تحتاج إلى نظام سري خاص لمزاولتها. بل يمكن أن تمارَس في العراء وعلى مرأى ومسمع من الجميع.

بقي ما يقال عن تغيير الحكم بانقلاب عسكري، هذا الأمر ناقشته بتفصيل في الجزء الثاني من سلسلة حتمية الحل الإسلامي (الحل الإسلامي فريضة وضرورة)، وبيَّنت خطر الانقلابات العسكرية وأضرارها على الشعوب، حتى لو كانت إسلامية.. فهي لا تستعمل إلا للضرورة، وما أُبيح للضرورة يُقدَّر بقدرها، وبشروطها وضوابطها. والدكتور حسن الترابي مدبر ومخطط الانقلاب العسكري الذي أتى بثورة الإنقاذ في السودان، يقول اليوم: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أقدمت عليه. ويقول: احذروا من العسكريين، فمصيركم معهم هو نفس مصيري! هذا مع تميز "ثورة الإنقاذ" بأنها كانت ثورة بيضاء لم تُرَق فيها قطرة دم، وأنها تبنت الإسلام وشريعته من أول يوم، ولم تتخل عنه إلى الآن.

هذا مع صعوبة نجاح الانقلابات العسكرية الشعبية في مواجهة الجيوش الحكومية والقوات المسلحة. وقد ضربت مثلًا لذلك ما أصاب منظمة التحرير في عمَّان على أيدي الجيش الأردني فيما عُرف بكارثة "أيلول الأسود" وكيف قضى الجيش على هذه القوة العسكرية الشعبية في ثلاثة أيام!

كان النظام الخاص يشكِّل جماعة داخل الجماعة، أو كما يقولون: دولة داخل الدولة، بل كان يعتبر نفسه هو الجماعة الحقة، وما الآخرون إلا "ديكور" وزينة، أو كثرة كغثاء السيل. وهذا أمر له خطورته في التربية: الإعجاب بالنفس، فهو أحد المهلكات كما جاء في الحديث: "ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متَّبع، وإعجاب المرء بنفسه" (رواه الطبراني في الأوسط - كما في صحيح الجامع الصغير للألباني)، ويترتب على هذا احتقاره لغيره، واعتقاده أنه هو اللب، ومن عداه قشر، وأنه هو الجوهر، والآخرون عرض وشكل. وفي الصحيح: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم"(رواه مسلم).

وأذكر أن الأستاذ عبد العزيز كامل رحمه الله كتب في مجلة الإخوان في حياة الإمام البنا مقالة تحدث فيها عن "مهندسي القاع" و"مهندسي السطح"، الأولون يعملون في "الورشة" والآخرون يعملون في قاعات العرض "الفترينات"، وكأنه يشير إلى رجال النظام الخاص وإلى غيرهم من الإخوان العاديين، ورد عليه الكاتب الشاب المتألق محمد فتحي عثمان، منكرًا عليه هذه التفرقة، وأن المدار على صدق النية وصلاح العمل، سواء كان يعمل في السطح أم في القاع. وفي صحيح البخاري: "طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله.. إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة" يعني: أنه يؤدي مهمته حيث وضع.

وهذا الغرور لدى أعضاء الجهاز الخاص في أنفسهم، مع وجود القوة المادية في أيديهم، جعلهم يستخفون بالقيادة الشرعية للجماعة، ويفتون لأنفسهم بما يجوز وما لا يجوز، حتى إنهم خرجوا على طاعة إمامهم ومرشدهم الأول نفسه، ونفذوا بعض العمليات الخطيرة بغير إذنه، كما في مقتل الخازندار، قبل حل الإخوان، وحادث نسف محكمة الاستئناف بعد حل الإخوان، وهو الذي اضطر الإمام البنا أن يصدر بيانه الخطير والشهير الذي قال فيه: "هؤلاء ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين"!!

 وأذكر أن الأستاذ حسن الهضيبي المرشد الثاني للإخوان، بعد أن بويع مرشدًا، وعلم بوجود النظام الخاص في الجماعة؛ أنكر ذلك، وقال كلمته الشهيرة: لا سرية في الإسلام! ويبدو أن بعض مستشاريه أشاروا عليه أن من المصلحة الإبقاء على النظام الخاص في الوقت الحاضر، وقد اقتنع الرجل بذلك، ولكنه أصر على أن يُغيِّر قيادة النظام، بعد أن استبدت بالأمر، وخالفت القيادة الشرعية للجماعة، وغدت تتصرف وكأنها السلطة الشرعية وحدها. وحين أُبلغت قيادة النظام بما قرره مكتب الإرشاد؛ رفضت الانصياع لأمره، وقررت عمل انقلاب داخلي في الجماعة عن طريق النظام، يفرض ما يريد بحق القوة، لا بقوة الحق.

وكان ما كان مما ذكرناه من قبل (الحلقة 3 ج 2) من احتلال المركز العام، واقتحام منزل المرشد، ومحاولة فرض الاستقالة عليه، وتكليف لجنة لإدارة الجماعة… إلخ.. وقد باءت هذه المحاولة كلها بالإخفاق، ولم يحالفها التوفيق، ولم تتجاوب معها الجماعة، وكانت الشرعية المجردة من السلاح، المؤيدة بالجماعة: أصلب وأقدر وأثبت من القوة الفاشية المؤيدة بالسلاح، وقد اعترف كثير من الشبان المخلصين الذين شاركوا في هذه الفتنة العمياء بخطئهم، وتابوا إلى الله تعالى، وطلبوا من المرشد السماح والعفو عنهم، وكان الرجل كريمًا فعفا عنهم، وقال: "عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه".

وكلَّف المرشد الهضيبي شخصية محببة مرموقة مزكّاة لدى الإخوان، عريقة في النظام، عارفة بقيادته، خبيرة بمداخله ومخارجه، هي شخصية المهندس سيد فايز؛ ليتولى إعادة صياغة النظام من جديد على قيم ومفاهيم ترضاها الجماعة وقيادتها. وربما كان المراد إدماج النظام في الجماعة، والخروج به شيئًا فشيئًا إلى الظهور والعلنية بالتدريج.

ولكن قيادة النظام لم تمهل سيد فايز، ولم تمنحه الفرصة ليحقق ما أراد أو ما أريد منه؛ فعاجلته بتدبير مصرعه بسرعة، حين أرسلت له في منزله بمناسبة المولد النبوي "علبة حلوى" وكان غائبًا عن المنزل، فلما عاد وفتح العلبة كانت حلوى المولد "قنبلة" انفجرت فيه وقضت عليه وعلى شقيقته الصغرى التي كانت موجودة عند فتح "العلبة". هذه هي رواية الإخوان للحادثة، والعهدة عليهم، وقد تحدثت عن ذلك من قبل (الحلقة 3 ج 2).

ولا أدري بأي كتاب أم بأية سنة، استحل هؤلاء قتل أخيهم في الله وفي الدين وفي الدعوة؟ وكيف هان عليهم سفك دم بغير حق؟ ألم يقرءوا في القرآن قصة ابني آدم، حين قال ابن آدم الشرير لأخيه الخيّر: {لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (المائدة: آية 27)، وما عقَّب به القرآن على هذه القضية بقوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (المائدة:32).

لم يحقق النظام الخاص ـ أو الجهاز السري ـ إذن ما أُنشئ لأجله من أهداف، بل أصبح وجوده في الجماعة ـ بطبيعته السرية المنغلقة ـ خطرًا على الجماعة من الداخل، وخطرًا عليها من الخارج، وأصبح إثمه أكبر من نفعه؛ ولهذا تحررت الجماعة منه، ومن فكرة "العنف" أو "المواجهة المسلحة" مع الدولة، كما دلت على ذلك الوقائع، وشهدت بذلك الأحداث.. (راجع فصل "الإخوان والعنف" في كتابنا "الإخوان المسلمون.. 70 عامًا في الدعوة والتربية والجهاد"، وفصل "من العنف والنقمة إلى الرفق والرحمة" من كتابنا "الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد").