في أثناء وجودي في المستشفى* حدث بالمركز العام للإخوان حادث خطير وغريب، فقد احتل بعض الشباب الذين ينتمون إلى النظام الخاص، المركز العام؛ انتصارًا لرئيس النظام عبد الرحمن السَّنَدي، وانشقاقًا على المرشد العام الأستاذ الهضيبي، وأراد هؤلاء الشباب المخلصون في نياتهم، المغررون في فكرهم أن يفرضوا رأيهم على الجماعة ومرشدها، وهيئاتها الشورية بالقوة والعصيان.

كان النظام الخاص قد بدأ التمرد على الجماعة، واعتبر نفسه دولة داخل الدولة منذ عهد الإمام حسن البنا، مؤسسه ومؤسس الجماعة، كما في حادث مقتل الخازندار، الذي غضب الأستاذ البنا منه أشد الغضب، وكما في حادث نسف محكمة الاستئناف الذي حمل الأستاذ على أن يصدر بيانه الشهير يقول فيه عن هؤلاء: "إنهم ليسوا إخوانًا، وليسوا مسلمين".

وحينما اختير الأستاذ الهضيبي مرشدًا للجماعة، وعرف بقصة النظام الخاص وتاريخه ونفوذ قادته باستقلالهم عن الجماعة؛ أحس بأن هذا خطر يجب أن يقاوم؛ فأعلن أول الأمر أن لا سرية في الإسلام، ثم يبدو أن بعض الإخوان أقنعوه أن الدعوة لا سرية فيها، ولكن بعض التنظيمات تقضي الضرورات التي تعيشها بلادنا أن تكون سرًا، ولا سيما مع وجود الاحتلال الإنجليزي، والحكومات الموالية له، وفساد القصر، وتهديد الدولة الصهيونية على حدود مصر… إلخ؛ فوافق المرشد على بقائه، على أن يُحدث فيه بعض التغيير، وخصوصًا في القيادة.

ويظهر أن النظام شعر بذلك، فبدأ يقاوم ذلك؛ وهو ما أدى إلى فصل أربعة من كبار أعضائه وقادته، وهم: رئيس النظام عبد الرحمن السندي، ومحمود الصباغ، وأحمد زكي حسن، وأحمد عادل كمال. وكان الفصل قد صدر من مكتب الإرشاد في 22 نوفمبر سنة 1953م.

وكان ذلك على إثر حادثة غير مسبوقة ولا ملحوقة في تاريخ الإخوان، تمثل جريمة من الجرائم الكبرى التي لا تُبَرَّر بحال من الأحوال، وهي قتل أحد الإخوة المخلصين والمهمين الناقمين على قادة النظام، وهو المهندس "السيد فائز"، الذي كان موضع الرضا والقبول من المرشد العام، ومن كل من عرفه؛ لما تميز به من حسن الفهم، وحسن الخلق، والبذل والإخلاص للدعوة.

وكان قتله بطريقة بشعة؛ إذ أُرسلت له علبة حلوى بمناسبة المولد النبوي، وكان غائبًا عن المنزل؛ فلما عاد وفتح العلبة انفجرت فيه فأودت بحياته، وحياة شقيقه الصغير، وكانت أصابع الاتهام كلها تشير إلى النظام، وإن كان التحقيق الرسمي لم يُسفر عن شيء.

وقد قال الأستاذ محمود عبد الحليم في كتابه "الإخوان المسلمون: أحداث صنعت التاريخ" (3 /205): "وقد ثبت ثبوتًا قاطعًا أن هذه الجريمة الأثيمة الغادرة؛ كانت بتدبير هذا الرئيس (السندي) وقد قامت مجموعة من كبار المسئولين عن هذا النظام بتقصي الأمور في شأن هذه الجريمة وأخذوا في تضييق الخناق حول هذا الرئيس حتى صدر منه اعتراف ضمني"!

وكانت هذه الجريمة النكراء سبب استياء عارم، وسخط عام في صفوف الإخوان؛ فكيف يستحل الأخ دم أخيه، وإن اختلف معه في الرأي؟ وبأي ذنب قُتلت هذه النفس التي حرّم الله، والتي جعل القرآن وكتب السماء من قتلها فكأنما قتل الناس جميعا؟ ومن أفتى هؤلاء بإباحة هذا الدم الحرام؟ أم أنهم جعلوا من أنفسهم المفتي والقاضي والمنفذ؟

ومع هذا لم يكتفِ رجال النظام بما اقترفوا، بل أرادوا أن يقاوموا قرار فصل الأربعة الذي صدر من مكتب الإرشاد العام صاحب السلطة التنفيذية العليا في الجماعة، والذي من حقه أن يفصل الأعضاء بناء على اعتبارات يراها، وليس من الضروري أن يُعلن الأسباب، ولا سيما إذا كان ذلك يضر بالجماعة.

أراد رئيس النظام ومن عاونه من شباب النظام أن يحدثوا انقلابًا غير دستوري في الإخوان بأن يحتلوا المركز العام بالقوة، وأن يذهب فريق منهم إلى منزل المرشد العام، ويرغموه على الاستقالة، وأن يتولى فريق من كبار الإخوان المركز العام ويديروه حتى يختار الإخوان لهم مرشدًا جديدًا.

وبالفعل احتلوا المركز العام، في يوم العطلة الأسبوعية: يوم 27 نوفمبر سنة 1953م، وذهب خمسون منهم إلى بيت المرشد، مقتحمين بغير استئناس ولا استئذان، كما هو أدب الإسلام، وطلبوا منه الاستقالة فرفض؛ وبهذا أخفقوا في هذا البند.

وقد تجاوب معهم من الكبار الأستاذ: صالح عشماوي، والشيخ محمد الغزالي، والدكتور محمد أحمد سليمان، والأستاذ أحمد عبد العزيز جلال، والشيخ سيد سابق، الذي قيل: "إنهم اختاروه مرشدًا بدل الهضيبي"! وذلك بسبب خلافهم مع المرشد، وما كان ينبغي أن يصل بهم الخلاف إلى حد إحداث انشقاق في الجماعة، ومساندة رئيس النظام المعزول في تهوره ومحاولاته الانقلابية الفاشلة، المؤيَدة من رجال الثورة، بل لعلها مدبرة منهم .

وقام الأخ الأستاذ عبد العزيز كامل بدور مهم وكبير في التغلب على هذه المأساة وبقي طول الوقت في المركز العام، مستغلًا منزلته في نفوس الجميع، ومجتهدًا في محاولة فضّ هذا الأمر، وإقناع الشباب بالانصراف، وقد استجابوا له بالفعل؛ فلم يأت الفجر حتى كانوا قد رحلوا.

وسرعان ما شعر الكثير منهم بجسامة ما اقترفوا؛ وسارع بعضهم إلى التوبة والاعتذار، ومنهم الأخوان الكريمان: علي صديق، وفتحي البوز، وفي المساء امتلأ المركز العام بالإخوان، وتحدث عدد من دعاة الإخوان: عبد الحكيم عابدين، وسيد قطب، وسعيد رمضان، وعز الدين إبراهيم، وخُتم اللقاء بكلمة المرشد العام.

واعتذر د. سليمان، وأعلن ثقته بالمرشد العام، واكتفى منه بذلك، وأحيل الثلاثة الآخرون : عشماوي والغزالي وجلال إلى "لجنة العضوية" بالهيئة التأسيسية بصفتهم أعضاء بها، لتنظر في أمرهم؛ وانتهى الأمر بفصلهم، وهي نهاية مؤسفة، ولكن لم يكن بد منها، وآخر الدواء الكيّ! ولله الأمر من قبل ومن بعد .

حدثت هذه الأحداث الخطيرة، وأنا في مستشفى المَبَرَّة بالمحلة، عرفت بعضها بالتليفون، وبعضها من الإخوة الذين زاروني؟ وقصُّوا عليَّ ما جرى. فلم تؤلمني الجراحة التي أُجريت في جسدي بقدر ما آلمتني الجراحة التي تمت في جسد الجماعة، التي آمنت بقدسية فكرتها وسمو أهدافها.

إحراق سيارة هيئة التحرير بجامعة القاهرة

كان من أهم الأحداث وأخطرها في تلك الفترة ما حدث في 12 يناير سنة 1954م، بجامعة القاهرة، ذلك أن طلبة الإخوان في جامعة القاهرة، أرادوا الاحتفال بشهداء الجامعة شاهين والمنيسي وغانم، ودعوا الزعيم الإيراني المعروف "نُوّاب صفوي" أحد المعارضين لطغيان الشاه زعيم حركة "فدائيان إسلام" الشهيرة ـ وكان يزور القاهرة وقتها ـ لحضور حفل الجامعة، وعمل مؤتمر بهذه المناسبة، وقد دعوني مع عدد من طلاب جامعة الأزهر للمشاركة في هذا المهرجان الوطني الإسلامي.

وقد تكلم زعيم الجامعة الأخ حسن دوح، وقدموني، فتكلمت كلمة باسم الأزهر، وتكلم بعض الإخوان، كما تكلم نواب صفوي.. وفي أثناء كلامه أراد الطلاب المنتمون إلى "هيئة التحرير" أن يُفسدوا هذا الحفل، بإحداث بعض الشغب، لينفرط العقد، وينقسم الناس، ويتشاغلوا بفض النزاع، فينفض الحفل، وهي طريقة معروفة لدى الحزبيين من قديم.

وكانت "هيئة التحرير" هي الحزب الجديد، الذي أنشأته ثورة يوليو، ليستغنوا به عن المساندة الشعبية للإخوان، وليكون سندهم الشعبي في تأييد قراراتهم السياسية، وفي الانتخابات في المستقبل، وهو الذي تطور بعد ذلك إلى الاتحاد القومي، ثم انتهى إلى الاتحاد الاشتراكي.

عزَّ على الإخوان أن يُهان ضيفهم الكبير، وأن يضطرب الاحتفال الكبير الذي أقاموه له، فقاوموا طلاب هيئة التحرير، ومن جاء يساندهم من رجال الأمن ومنظمات الشباب من الخارج، واصطدموا بهم اصطدامًا عنيفًا، وكان لدى الإخوان طلاب أشداء أقوياء معروفون من خريجي المعتقلات والسجون، مثل الأخ محمود أبو شلوع وغيره، الذين هتفوا بسقوط هيئة التحرير، بل أحرقوا لها سيارة دخلت الجامعة، لا أدري لماذا، وتكهرب الجو السياسي العام، وتلبدت سماء السياسة بالغيوم الكثيفة، وانفض الجميع، لا يدرون عاقبة ما حدث في الجامعة.

كنت مُكَلَّفًا في هذا اليوم بإلقاء محاضرة في المساء في مدينة بنها، وقد سافرت إليها، وألقيت محاضرة بدار الإخوان هناك، وسلمت على الإخوة هناك، وعلى رأسهم الأخ محمد عبد الحليم عيسى، وزرت معه الأخ القديم المبارك الشيخ عبد الله النبراوي في منزله، ووصلني الإخوة إلى محطة القطار.

وفي المحطة وجدت أستاذنا البهي الخولي واقفًا ينتظر القطار الذي أنتظره، وقد قدم من محاضرة ألقاها في شبين الكوم. وحكيت له ما حدث في صباح اليوم في جامعة القاهرة، وكان لا يعلم شيئًا عنه، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله. نحن الآن أمام امتحان خطير بعد هذه الواقعة. لا ندري هل سيبلعها "جمال" أي عبد الناصر، ويفوِّتها؟ أم يتخذ منها تكأة ليضرب ضربته؟ ستكشف ذلك الأيام القليلة القادمة.

......

* لإجراء عملية الزائدة الدودية