لقد اخترت كلية أصول الدين؛ لأنها تضم العلوم النقلية والعقلية، ولما في مناهجها من تنوع تثرى به معارف الطالب، وتتسع مداركه وآفاقه، ولا غرو أن درسنا التفسير والحديث والتوحيد طوال سنوات الكلية، وكذلك درسنا الفلسفة في جميع السنوات، ابتداء بالفلسفة الشرقية القديمة، ومرورًا بالفلسفة اليونانية، ثم الفلسفة الإسلامية في المشرق والمغرب، وانتهاء بالفلسفة الحديثة.

كما درسنا التاريخ في كل سنوات الكلية ابتداء بالسيرة النبوية، مرورًا بعصر الراشدين، ثم بالدولة الأموية والعباسية، وانتهاء بتاريخ الأندلس.

كما درسنا أصول الفقه، والمنطق، وعلم النفس، واللغة الإنجليزية، ولا شك أن هذا أعطانا أرضية ثقافية واسعة، ازدادت اتساعًا بدراستنا لعلوم النفس والتربية في تخصص التدريس.

ولكن مع هذا كان هناك قصور في هذه المناهج ذاتها أو في تدريسها، أذكره في الملاحظات التالية..

ملاحظة عامة

قبل أن أبدي ملاحظاتي التفصيلية على المواد والمقررات الدراسية، أودّ أن أبدي ملاحظة عامة وأساسية على طريقة التدريس. فقد وجدت طريقة التدريس في الكلية هي نفس طريقة التدريس في المعاهد الثانوية، العمدة فيه كتاب مقرر يشرحه الأستاذ، وتدور طريقة الشرح حول الألفاظ، أكثر ما تدور حول المعاني والأفكار، وكثيرًا ما يكون الامتحان فيما قُرِئ من الكتاب، لا فيما هو مقرر فعلًا؛ وبهذا يضيع على الطالب فقرات كبيرة من المقررات ربما لا يعوضها قط.

لم تكن كليات الأزهر، مثل كليات الجامعة في مصر وفي غيرها، تعتمد على الموضوع لا على الكتاب، وتدور على المعنى لا على اللفظ، وتشرك الطالب مع الأستاذ، وتهتم بالبحث يقوم به الأساتذة، ويتعوده الطلاب. لم يكن هناك فرق بين المعهد والكلية إلا أن الكتاب في الكلية أكبر كَمًّا، وأكثر تعقيدًا، وهذا ليس فرقًا مؤثرًا، ولو طُعِّم النظام القديم والطريقة الأزهرية، ببعض هذه التوجهات الجامعية الحديثة؛ لكان في ذلك خير كثير على الأزهر وأبنائه.

أما الملاحظات المفصَّلة على المواد، فأجملها فيما يلي:

علم التفسير:

كان التفسير كله على "الطريقة التحليلية" للألفاظ، مع اهتمام بالغ بالجانب اللغوي والبلاغي، ماضيًا كله على نهج التفسير بـ"الرأي"، وكنت أود:

أولًا: أن يكون هناك جزء من هذا التفسير التحليلي على طريقة "التفسير بالمأثور" كما عند ابن كثير مثلًا؛ ليجمع الطالب بين الطريقتين، ويحوز الحسنيين.

ثانيًا: أن يُستفاد من بعض "التفاسير الحديثة"، مثل "تفسير المنار" بما فيها من نظرات تجديدية إيجابية، كبعض الإشارات واللفتات "العلمية" غير المتكلَّفة.

ثالثًا: أن يكون هناك جزء من مقرر التفسير لما سُمِّي "التفسير الموضوعي"، مثل العلم في القرآن، الإيمان في القرآن، المال في القرآن... إلخ.

رابعًا: أن يقرر تدريس قدر مناسب من "علوم القرآن"، ومنها: أصول التفسير ومناهجه، فهذا لازم لثقافة الطالب المتخرج في أصول الدين.

علم الحديث:

في كلية أصول الدين كان الكتاب المقرر هو "صحيح مسلم" بشرح النووي طوال سنوات الكلية الأربع، ولكن كان هناك أبواب كثيرة ومهمة من الكتاب لا تدرس ولا تقرأ، كما أن شرح النووي عدا الأجزاء الأولى من الكتاب كان خفيفًا وغير مشبع، وكنت أود:

1- أن يقرأ متن الصحيح كله بأسانيده؛ ليتعود الطالب ذلك.

2- أن يحتل "فقه الحديث" مكانًا أكبر، ولا تُهمل أحاديث الأحكام، باعتبار أن ذلك من اختصاص "كلية الشريعة"، فكل كلية يجب أن يكون لها حظ من الفقه بوجه من الوجوه.

3- أن يُستفاد من بعض النظرات الحديثة في شروح الحديث.

4- أن يُمرَّن الطالب على فن "التخريج"، ويعرف أصوله، نظريًّا وعمليًّا.

5- أن يأخذ من "علوم الحديث" قدرًا أكبر مما هو مقرر في الكلية.

6- أن يتدرب الطالب على معرفة "الحديث الموضوعي"، بدراسة بعض الموضوعات في السُّنَّة، مثل "الزواج"، أو "الأسرة"، أو "الجهاد"، أو "الحكم"، أو غير ذلك.

علم التوحيد:

كان علم التوحيد يدرس في الكلية على أنه من "العلوم العقلية" وكانت دراسته رياضة ذهنية، ودربة عقلية، في قضايا نظرية متفرعة عن مسائل الفلسفة القديمة، التي أصبحت قضايا تاريخية، ولم يَعُد لها وجود مؤثر في العقل الحديث؛ ولهذا كان معظمها ردودًا مباشرة أو غير مباشرة على بعض الفلاسفة أو بعض الفرق التاريخية من معتزلة، وجهمية، أو كرامية، أو خارجية... إلخ، حتى إن أول جملة في كتاب التوحيد المقرر "العقائد النسفية" تقول: حقائق الأشياء ثابتة، والعلم بها متحقق، خلافًا للسوفسطائية.

وفي رأيي: أن اعتبار التوحيد من العلوم العقلية البحتة أمر خاطئ؛ فالإسلام عقيدة وشريعة، والعقيدة هي الأساس، والشريعة هي البناء، وإذا كانت الشريعة وفقهها من علوم الدين؛ فكيف لا تكون العقيدة، ـ وهي الأساس ـ من علومه؟

صحيح أن العقيدة في الإسلام تقوم على منطق عقلي سليم، خصوصًا في العقيدتين الأساسيتين: وجود الله، وإثبات النبوة؛ إذ لا بد أن يثبتا بالعقل، ولكن هذا لا يخرج علم التوحيد من اعتباره من العلوم الدينية، بل هو أصلها وعمدتها؛ لهذا كان الواجب دراسة العقيدة من القرآن أولًا، لا على أنه مجرد أخبار، بل باعتباره مشتملًا على آيات، ودلالات، وبراهين عقلية، رد بها على المخالفين من الدهريين ومن أهل الأديان الأخرى.

ومن أهم من يجب الرد عليهم في عصرنا هم: جماعة "الماديين" الذين ينكرون كل ما وراء الحس، وما بعد الطبيعة، ويمكننا الاستعانة في الرد عليهم بالعلوم الحديثة التي قام كثير من أقطابها بدور غير منكور، في التدليل على وجود الله تعالى من خلال تخصصاتهم، كما في كتاب "الله يتجلى في عصر العلم"، و"العلم يدعو إلى الإيمان"، و"مع الله في السماء"، و"الله والعلم الحديث"... إلخ.

علم مقارنة الأديان:

وبهذه المناسبة، هناك علم كنا نحب أن نأخذ عنه فكرة كافية، وهو: علم مقارنة الأديان، وهو يدرس بعد ذلك في تخصص الدعوة والإرشاد، باسم "الملل والنحل"، وكان الأولى أن يأخذ طالب الكلية حظًّا ملائمًا منه، خصوصًا الأديان الكبرى مثل: اليهودية والمسيحية من الأديان الكتابية، والبوذية والهندوسية من الأديان الوثنية.

الفلسفة الإسلامية:

لا أنكر أن دراسة الفلسفة في كلية أصول الدين دراسة قوية ومستوعبة إلى حد كبير، ومع هذا يظل هناك تحفظ على الفلسفة التي سموها طالفلسفة الإسلامية" وهي التي تُعَبِّر عن المدرسة الفلسفية المشائية من المسلمين، ومن تبناها من كبار الفلاسفة، أمثال: الكندي، والفارابي، وابن سينا، ومن دار في فلكهم من بعدهم.

فهذه الفلسفة هي فلسفة اليونان، أو قُل فلسفة كبيرهم والمعبِّر عنهم أرسطو طاليس، الذي اعتبره الفلاسفة المسلمون "المعلم الأول"، والذي اعتبره بعضهم يمثل قمة الكمال العقلي البشري، بحيث لا يتصور الخطأ فيما قال، بل يؤخذ قوله على أنه قضية مُسَلَّمة.

ولهذا كان موقف الفلسفة الإسلامية تأويل "محكمات النصوص" القرآنية، فضلًا عن النبوية ـ لتوافق ما قرره أرسطو. وعلى كل حال، فإن مقولات الفلسفة الإسلامية أو ما سُمِّي فلسفة إسلامية، إنما هي ظلال لفلسفة اليونان، تتأثر بها، ولا تخرج عن دائرتها، وقد قال شيخ مؤرخي الفلسفة الإسلامية في عصرنا الشيخ مصطفى عبد الرازق: إن علم أصول الفقه أولى بالتعبير عن فلسفة المسلمين من الفلسفة الإسلامية.

المهم أن هذه الفلسفة الإسلامية ليست هي فلسفة الإسلام بحال، واعتقد أننا بحاجة إلى مادة جديدة تتحدث بعمق عن "فلسفة الإسلام" في عقائده، وشرائعه، وأخلاقياته، ونظرته إلى الله والكون، وإلى الإنسان والشيطان، وإلى الدين والحياة.

دراسة التصوف:

ومن العلوم التي غابت في الكلية، وكان ينبغي أن يأخذ الطالب فكرة عنها: علم التصوف، أو السلوك، فهو لا شك من علوم التراث الإسلامي، وله مصادره وكتبه، ورجاله وأعلامه، كما له مدارسه واتجاهاته، فمنه السني والمبتدع، والمستقيم والمنحرف، والنظري والعملي.

وبعضه يمثل "علم الأخلاق" أو السلوك الإسلامي، كما نقل ابن القيم عن بعضهم: "التصوف خلق، فمن زاد عليك في الخلق؛ فقد زاد عليك في التصوف"، وبعضهم خرج عن هذا الإطار، وأصبح التصوف لديه: نظريات فلسفية في الحلول والاتحاد، وأحسب أنه ينبغي لطالب أصول الدين أن يأخذ فكرة كافية عنه، وأن يزن موروثه بميزان القرآن والسنة.

علم التاريخ:

ومن مزايا كلية أصول الدين اهتمامها بعلم التاريخ، الذي يدرس في جميع سنوات الدراسة، وحتى في شُعَب تخصص الأستاذية بالكلية قديمًا: شعبة للتاريخ، ولكن كان ينقص المنهج: دراسة التاريخ الحديث، وعلى الخصوص "حاضر العالم الإسلامي" ومشكلات الأمة المسلمة المشتركة، وقضايا أوطانها الساخنة، فهذا هو الذي يربط الطالب بأمة الإسلام، ودار الإسلام، والمؤمنون إخوة، ومن لم يهتم لأمر المسلمين فليس منهم.    (انتهي الجزء الأول من المذكرات)