رحلة إلى مدن الصعيد
عدت -والحمد لله- إلى مصر، وقدمت تقريرًا إلى فضيلة المرشد العام عن الرحلة، وقد لقيت فضيلته بعد ذلك، وعلمت منه أنه قرأ تقريري، واهتم منه بما جاء عن حزب التحرير ومقولاته ومجادلاته.
وكانت الخلافات قد بدأت تبرز بين الإخوان ورجال الثورة، وخصوصًا بعد أن طلبوا من الإخوان أن يرشحوا لهم أسماء للاشتراك في الوزارة، فرشّح مكتب الإرشاد لهم ثلاثة من أعضاء الجماعة، هم الأساتذة: منير دلَّة، وحسن العشماوي، وثالث لا أذكره الآن، لعله الأستاذ عبد القادر حلمي.
ولكن جمال عبد الناصر ورجاله كانوا يريدون أسماء لها رنين وشهرة لدى الشعب المصري، من أمثال الشيخ أحمد حسن الباقوري، والشيخ محمد الغزالي؛ ولذا رفضوا ترشيح المرشد أو مكتب الإرشاد، وعرضوا الوزارة بالفعل على الشيخ الباقوري؛ فقبل مبدئيًّا، وأبلغ الإخوان بذلك، فلم يمنعوه من القبول، ولكن اشترطوا عليه أن يستقيل من الجماعة.
وبدأت الخلافات تتسع بين الجماعة والثورة، ولا سيما عندما أرادت أن يكون لها حزب يمثلها، فلم تَعُد تقبل أن يكون الإخوان هم سندها الشعبي، بل لا بد أن يكون لهم رجالهم وجماعتهم المؤيدة لهم، والمؤتمرة بأمرهم، فبدءوا بإنشاء "هيئة التحرير" وأنشئوا لها فروعًا في كل العواصم والمراكز، وحتى بعض القرى، وبدأ شباب هيئة التحرير يحتكون بشباب الإخوان، وكان الإخوان حريصين على عدم الاصطدام بالهيئة الوليدة، وكانت هذه تعليمات المرشد العام.
ومن ثم كلَّفني الأستاذ المرشد بتطواف مدن الصعيد في توعية للإخوان، وتوجيههم للثبات على دعوتهم، وعدم الذوبان في الآخرين، وتجنب الصدام معهم.
وقد طفت مدن الصعيد، وخصوصًا عواصم المديريات ابتداء من الفيوم، فبني سويف، فأسيوط، فسوهاج، فقنا، فأسوان، كما مررت ببعض المدن المهمة، مثل ملّوي، والقوصية بأسيوط، وأخميم بسوهاج، والمنشأة والعسيرات وجرجا بها، والأقصر ونجع حمادي وإسنا وفرشوط بمديرية قنا، وإدفو بمديرية أسوان.
وكان لي بكل هذه المدن محاضرات عامة، ودروس، ولقاءات خاصة، بنواب الشُّعَب وبالطلاب وبغيرهم؛ لإبلاغهم تعليمات المرشد العام. وكانت هذه أول مرة أزور الصعيد كله بعد زيارة أسيوط لتأييد الأستاذ "أبو غدير" في الانتخابات، وقد تعرفت على عدد غير قليل في كل بلد من هذه البلدان، جمعنا بهم السجن الحربي بعد ذلك.
وكانت لي زيارة أخرى للصعيد بعد ذلك بطلب من إخوان الصعيد أنفسهم، وكانت الزيارة الأولى لي في أيام الشتاء، فكانت ملائمة جدًا، ومما أذكره في هذه الرحلة وكانت في أوائل الشتاء: أنه قابلني في إحدى محطات قطار الصعيد في أحد مراكز قنا الجنوبية -نسيت اسم البلد- اثنان من شباب ضباط الإخوان في الشرطة وهما عباس أبو كرم ومحمد الدمرداش وقالا لي: إن عبد الناصر بدأ يشرد ضباط الإخوان ويفرّقهم في أماكن بعيدة حتى لا يشاركوا في حل ولا عقد، وكان هذا من الحرب الخفية التي لا يعرفها أمثالنا ولم تكن ظاهرة على السطح وإنما اتضحت آثارها بعد زمن. أما الأخ عباس أبو كرم فقد عرفته بعد ذلك في المعتقلات وغيرها، وأما الأخ الدمرداش فلم أعرف عنه شيئا منذ لقيته في مديرية قنا.
وكانت الزيارة الثانية في مقدم الصيف، وهناك عرفنا جو الصعيد الحار، ولكن كنا في عصر الشباب لا نبالي بحرارة ولا برودة، مع الحماس للدعوة والاستغراق في آمال مستقبلها وهموم حاضرها، فتكاد الفصول تستوي عندنا.
ومما أذكره هنا: أن الأخ عبد الله العقيل الذي قدم من العراق للدراسة في كلية الشريعة بالأزهر، أحد الناشطين في قسم الاتصال بالعالم الإسلامي وقسم الطلبة؛ كان يرافقني في إحدى هذه الرحلات، التي مررنا بها معًا على كل مدن الصعيد المهمة، وكان لنا فيها محاضرات ودروس عامة، ولقاءات وجلسات خاصة، وكان لها أثرها الطيب في أنفس الإخوان حينما التقيناهم، كما تركت في نفوسنا ذكريات حسنة، لا زلنا نتحدث بها كلما لقيت الأخ عبد الله العقيل أو لقيني.
زيارة الورتلاني
وفي تلك الفترة زرت الداعية المجاهد الشيخ الفضيل الورتلاني، أحد رجالات الجزائر ومجاهدي علمائها المرموقين، وقد كنت لقيته من قبل في بيروت في رحلتي الشامية السابقة، وكانت هذه الزيارة بناء على طلبه.
وقد عاد من بيروت معززًا مكرمًا من رجال ثورة يوليو باعتباره أحد رموز الجهاد الوطني والعربي، وقد رجا أن يراني في القاهرة حين يعود إليها، وقد أرسل إليّ لأزوره حيث يقيم، فاصطحبت أخي محمد الدمرداش وذهبت لزيارته، وحدثنا عن بعض تجاربه في حياته الحافلة، وهي مثيرة وخصبة..
وسألته أن يحدثنا عن شيخه الشيخ عبد الحميد بن باديس مؤسس "جمعية علماء الجزائر" التي قامت بدور معروف غير منكور في نهضة الجزائر، وأعادتها إلى هويتها العربية الإسلامية، بعد استماتة فرنسا في القضاء على هذه الهوية بالفرنسة التي تريد أن تلغي -أول ما تلغي- الإسلام والعروبة من الجزائر، وقام الشيخ ابن باديس وإخوانه، البشير الإبراهيمي، والعربي التبسي وغيرهم بمقاومة الفرنسة بحركته التعليمية التربوية التثقيفية في كل ربوع الجزائر، وأنشأ الشيخ ابن باديس نشيده الذي كان يحفظه الجزائريون ويرددونه:
شعب الـجزائر مسلـم ** وإلى العـروبة ينتسب
من قال: حاد عن أصله ** أو قال: مات، فقد كذب
وأسَّس ابن باديس مجلة "الشهاب" التي كان يكتب فيها هو وإخوانه لتعميق فكرتهم وتوصيلها إلى الشعب الجزائري. وتحدث الشيخ الفضيل طويلًا عن شيخه بإعجاب وحب، وأنه كان يُحوِّل دروسه كلها بقدرة فائقة إلى دروس تربوية ودعوية.
ومما ذكره لنا: أن ابن باديس كان يشرح لهم "الألفية" في النحو، ووقف عند البيت الأول فيها، وهو الذي يقول:
كلامنا لفظ مفيد كاستقم ** واسم وفعل ثم حرف الكلم
فبعد أن شرح الشيخ البيت من الناحية النحوية؛ عرج على الناحية التربوية فقال: انظروا إلى براعة الاستهلال في هذا البيت، فهو يقول: كلامنا لفظ مفيد، إنه يتكلم عن الجماعة المسلمة؛ ليعلن أنها لا تَهرفُ بما لا تعرف، ولا تلقي الكلام جزافًا، ولا تقول ما يضرها في دينها أو دنياها، إن كلامها "لفظ مفيد" ليس عبثًا ولا ضارًّا.
ثم اختار التمثيل بكلمة "استقم"، وهي التي أمر الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْت} (هود: 112)، وأوصى بها رسوله من سأله من أصحابه عن وصية جامعة، فقال: "قل: آمنت بالله ثم استقم" رواه مسلم. وذكر لنا أشياء من هذه المواقف، تُعَدُّ غاية في الروعة.
وفي هذا اللقاء حاول الشيخ الورتلاني أن يملأني ثقة بنفسي، فقال: أرى فيك متشابهًا من الأستاذ حسن البنا، وهذا يلقي عليك تبعات، فقلت له: يا أستاذ وأين يوسف القرضاوي من الأستاذ حسن البنا؟ وأين الثرى من الثُّريا؟
فثار عليَّ وقال: لا تحقر نفسك، إن حسن البنا عنده قدرات ليست عندك، وأنت عندك قدرات ليست عنده، ومجموع مواهبك يؤهلك لتقوم بدور، فلا تنسحب منه، ولا تبخس نفسك حقها.
قلت: أسأل الله أن يجعلني أهلًا لثقتك وحسن ظنك.
قال: ستثبت لك الأيام حسن ظني؟
قلت: أرجو الله. وقد قرأت في حِكَم ابن عطاء الله السكندري: إن الناس يمدحونك لما يظنونه فيك، فكن أنت ذامًّا لنفسك لما تستيقنه منها، أجهل الناس من ترك يقين نفسه لظن ما عند الناس.
قال: وهذا يزيدني ثقة بك.
وكان أخي الدمرداش يستمع إلى حديثه عني، وهو منفرج الأسارير، فقد كان -رحمه الله- شديد الحب لي، والاعتزاز بي، إلى حد الإسراف أحيانًا.
وفي نهاية اللقاء قال لي: هنا أحد إخواني من شباب علماء الجزائر النابهين، وقد جاء ليكمل دراسته بالأزهر، وهو من قريتي، ولا آمن أن يعيش مع أحد من مصر إلا معك، فأنا أوصيك به خيرًا، ولعلها تكون فرصة له لينهل منك شخصيًا ومن الإخوان وروحهم بصفة عامة، وكان هذا الأخ في الخارج فناداه فحضر، وقال: هذا هو "محمد الأقصري" أمانة في عنقك.
وكان محمد الأقصري شابًا أديبًا قارئًا مثقفًا، وقد التحق بكلية أصول الدين، فكان من المناسب أن يسكن معنا في شقتنا بشبرا. وقد انعقدت بيني وبين الأخ الأقصري مودة عميقة، وصداقة وثيقة، ظلت حتى تخرَّج، وكان له دور في ثورة الجزائر، فقد كان له خطاب يومي أو ليلي إلى ثوار الجزائر كلَّفته به القيادة، يُذاع بصوته من إذاعة "صوت العرب" بالقاهرة كل ليلة، يعبئ الروح المعنوية، ويحرِّض على القتال، وظل هذا حتى انتصرت الجزائر.
وبعد أن تخرَّج الأقصري في "أصول الدين" من الأزهر؛ التحق بمعهد الدراسات العربية العالية التابع لجامعة الدول العربية؛ ليدرس فيها في قسم القانون والشريعة، الذي كان يرأسه علامة القانونيين العرب الدكتور عبد الرزاق السنهوري، وقد قبله في القسم استثناء، مع أنه لا يقبل من الأزهر إلا خريجي الشريعة، وقد رفض قبولي رغم إلحاحي لأني خريج أصول الدين.
كان الأقصري كلما حضر خطبة أو محاضرة لي؛ يقول: كم أتمنى أن يأتي اليوم الذي أراك تخطب فيه وتحاضر في قلب الجزائر، إنه يوم أترقبه وعسى أن يكون قريبًا.
ولكن هذا اليوم لم يأتِ إلا في سنة 1982م؛ حينما حضرت أول "ملتقى للفكر الإسلامي" بالنسبة لي، وكان في مدينة تِلمسان، وشهدت في الجزائر من جماهير الصحوة، ما لم أشهده في بلد آخر، حتى كان يحضر أحيانًا نحو مائتي ألف شخص يستمعون إليَّ في خطبة الجمعة.
والعجيب أني حين ذهبت إلى الجزائر سألت عن الأقصري؛ فلم أجده، فقد كان سفيرًا للجزائر في إندونيسيا وفي غيرها. ولم أره في الجزائر إلا بعد عدة سنوات، ورأيته عزبًا كما تركته من قديم، لم يتزوج، فلما سألته عن السبب، قال: أهملت الأمر حتى فاتني القطار! والآن من تقبل أن تتزوجني لا أريدها، ومن أريد أن أتزوجها لا تقبلني!
وقد تقطعت الصلة بيننا بعد أحداث الجزائر المأساوية، ولا أدري ما مصيره؟ فإن كان حيًا فأدعو الله أن ييسر له أمره، وإن كان ميتًا فأسأله تعالى له المغفرة والرحمة، وأن يتقبله في عباده الصالحين.
ولنا عودة في الحديث عن الجزائر في حينها إن شاء الله.