من عمّان سافرت إلى "الخليل" المدينة التاريخية التي تحتوي قبر إبراهيم الخليل عليه السلام، وقد سميت باسمه، وقد قال علماؤنا: إنه لا يُعرف قبر نبي على التحقيق؛ إلا قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقبر الخليل إبراهيم، فهو في المدينة المسماة باسمه يقينا، وإن كان موضع قبره غير مستيقن، ولكن توارثه الناس، وقد كان رفيقي في زيارة الخليل أحد أبنائها من زملائنا في الأزهر، وهو الأخ حامد التميمي.

والخليل مدينة تستريح إليها النفس، وتشعر بها بالعبق الإسلامي أينما ذهبت، وقد تعرفت فيها على عدد من الإخوة الكرام على رأسهم أسرة عبد النبي النتشة: الحاج عيسى عبد النبي، والدكتور حافظ، والحاج عبد الغني وابنه الحاج صالح، وقد نزلت ضيفا عليهم، ووسعني كرمهم وحسن ضيافتهم، وزرت مصنعهم لتعليب المنتجات الزراعية.

وهناك الشيخ شكري أبو رجب، والدكتور الزير، والأخ فوزي النتشة الشاعر، الذي زادت صلتي به بعد ذلك، بعد مجيئه إلى قطر مُعَلِّما بها. والأخ القارئ المتقن محمد رشاد الشريف الشهير "بأبو رفت" وغيرهم.

وقد بقيت عدة أيام في الخليل كانت من أكثر الأيام فائدة وبركة، وقد ألقيت أكثر من محاضرة بها، وكان أهم ما وقع لي هو النقاش الحاد مع جماعة "حزب التحرير" وقد كان في بداية نشأته، وفي نشاط وتحرك مستمر، وكان الإخوان في حالة ضعف وخمول، وكان التحريريون في الخليل نشيطين جدا، وكان لهم جملة أفكار جديدة شغلوا بها الإخوان، وكانوا مدربين على الجدل فيها، ولم يكن لدى الإخوان دربة على الجدل في مثلها.

ولقد لقيت عددا من التحريريين، وجادلتهم في هذه القضايا، مثل قولهم: إن الدعوة التي لا تنتصر بعد ثلاثة وعشرين عاما ـ وبعضهم يقول: ثلاثة عشرة عاما ـ لا بد أن تكون على خطأ، وعليها أن تغير طريقها.

قلت لهم: ما دليلكم على دعواكم؟

قالوا: السيرة النبوية.

قلت: ليس في السيرة دليل على أن هذا أمر لازم، فقد يتحقق الهدف بعد زمن أقل أو أكثر، وفقا للظروف والإمكانات، ووجود العوائق أو عدمها.

ثم قلت لهم: ما قولكم في سيدنا نوح؟

قالوا: رسول من أولي العزم من الرسل.

قلت لهم: كم بقي يبلغ دعوته؟

قالوا: ألف سنة إلا خمسين عاما.

قلت: هل حقق هدفه من دعوته؟ فسكتوا.

قلت لهم: أنا أجيبكم من القرآن نفسه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} (نوح: 5-7)، وقال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} (هود:40)

حتى إن امرأة نوح لم تؤمن به، وحتى ابنه من صلبه لم يؤمن به، كما صرح بذلك القرآن. هل كان نوح مخطئا في طريقته؟ هل قصّر في تبليغ دعوته؟ كلا. إنه دعا وبلغ وأدى ما عليه، وهو إنما عليه الدعوة، وعلى الله الهداية، عليه البلاغ، وعلى الله الحساب، عليه أن يبذر الحب، ويرجو الثمر من الرب، وهذا هو عمل الداعية.

وهنا صمت التحريريون، ولم يجدوا جوابا.

وقضية أخرى أثاروها ضد الإخوان، وهي أنهم يشغلون أنفسهم بأعمال هي من صميم أعمال الدولة الإسلامية، مثل الأعمال الخيرية والاجتماعية، من مثل إنشاء المستوصفات والمستشفيات، ودور الأيتام، وأقسام البر والخدمة الاجتماعية، وهذا تخدير للناس عن المطالبة بإقامة الدولة وتنصيب الخليفة، وشغل للناس بالعمل الخيري عن الدعوة ونشرها.

وكان جوابي عن هذه النقطة يتمثل في عدة أمور:

أولا: أن فعل الخير واجب من واجبات المسلم، وشعبة من شعب وظيفته، فهو مأمور بفعل الخير، كما أنه مأمور بالعبادة والجهاد، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ} (الحج:77-78).

ثانيا: أن الفقهاء قد أجمعوا على أن إزالة الضرر عن المسلم، من جوع وعري ومرض وغير ذلك؛ فرض كفاية على الأمة المسلمة، فإذا أهملت الأمة كلها هذه الفريضة الكفائية أثمت جميعا، وفي الحديث: " أطعموا الجائع، وفكوا العاني" وفي الحديث الآخر: "ليس منا من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع".

ثالثا: أن نشر الدعوة ليس بالكلام وحده، ولا بمجرد تأليف الكتب والرسائل؛ بل يدخل في ذلك الوسائل العملية، التي تحبب الإسلام ودعاته إلى الناس، وهذا ما يستعمله دعاة التنصير، من بناء المستشفيات والمدارس ودور الأيتام والأندية وغيرها، مما يتخذونه وسيلة لكسب قلوب الناس، وضمهم إلى عقيدتهم بعد ذلك.

رابعا: أن للدعوة أهدافا بعيدة مثل إقامة الدولة الإسلامية، وأهدافا قريبة مثل الإسهام الجزئي في إصلاح المجتمع، وهذه الأهداف لا تتعارض. مثل من يزرع النخيل والزيتون، فهو لا يثمر إلا بعد سنوات، ولكن الزارع الموفَّق هو الذي يستفيد من الأرض الفضاء بين الأشجار والنخيل، ليزرعها ببعض الخضراوات السريعة النمو والنافعة، فيستفيد من أرضه، ويستفيد من جهده، ويستفيد من وقته، ولا يقعد عاطلا ومعطلا أرضه حتى يثمر الزيتون أو يثمر النخيل بعد زمن طويل.

خامسا: أن في كل جماعة مستويات متفاوتة من الأفراد وقدراتهم المختلفة، بعضهم يبدع في المجال الفكري، وآخر يبدع في المجال الدعوي، وآخر لا يبدع إلا في المجال الاجتماعي، فلماذا لا توظف طاقات هذا النوع من الناس في خدمة المجتمع، وتخفيف المعاناة عن عباد الله، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن نفَّس عن مؤمن كربة من كربات الدنيا، نفَّس الله عنه كربة من كربات يوم القيامة.

هذا خلاصة ما رددت به على الإخوة التحريريين الذين جادلوني، وكان منهم الأستاذ أسعد بيوض التميمي خطيب المسجد الأقصى، وقد تخلى عن حزب التحرير بعد ذلك.. بالطبع لم يكن ردي بهذه الألفاظ ولكنها الأفكار الأساسية التي رددت بها عليهم، وكانت حجتي قوية بفضل الله تعالى وتوفيقه، لهذا لم يجدوا ما يقولونه إزاءها.

وانتعش الإخوان في الخليل واستبشروا، وعلق الأخ فوزي النتشة على هذا النقاش العاصف بقول الشاعر:

إذا جاء موسى وألقى العصا  **  فقد بطل السحر والساحر!

إلى نابلس وجنين

وبعد أن أديت مهمتي في الخليل، كانت وجهتي بعدها ـ وفق الخطة الموضوعة ـ إلى مدينة نابلس، وألقيت فيها محاضرة احتشد لها عدد كبير، ثم دعاني عالمها الفاضل الشيخ مشهور الضامن إلى بيته، وهيأ لنا في اليوم التالي غداء دعا إليه عددا من رجال البلدة وذوي الشأن فيها، ثم التقيت بالإخوة في نابلس لقاء خاصا.

ثم غادرت نابلس إلى جنين، والتقيت بالإخوان فيها، ورتبوا لي محاضرة في دار الإخوان بها، ومنها وليت وجهي شطر أولى القبلتين، القدس الشريف، فقد طال شوقي إلى المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، وكان ينبغي أن أبدأ به، ولكني أسير وفق الترتيب الذي وضعه الإخوان في عمان، فكانت زيارة القدس مسك الختام لمدن الضفة الغربية.

إلى القدس الشريف

سافرت إلى القدس، ونظمت لي محاضرة فيها شهدها جم غفير، وبت بها، وصليت في المسجد الأقصى، لأول مرة في حياتي، كما زرت مسجد قبة الصخرة، وهو تحفة فنية رائعة حقا، وصليت فيه. وزرت رئيس الهيئة العلمية الإسلامية في رحاب المسجد، الشيخ عبد الله غوشة، وسُرّ الرجل بلقائي.

كما زرت مسجد عمر بن الخطاب وصليت فيه ركعتين، ثم زرت كنيسة القيامة، وأهم معالم المدينة العربية الإسلامية، ورأيت السلك الشائك الحاجز بين القدسين الشرقية والغربية، ولكن على قرب المسافة بينهما، ما كان أعظم الفرق بينهما في اليقظة والحذر والإعداد والتخطيط للمستقبل؟

كان أهل القدس الشرقية يمارسون حياتهم العادية، يغدون ويروحون، ويبيعون ويشترون، وهم في غفلة عما يجري من حولهم، وما يدبر لهم من مكايد العدو الذي يحيط بهم إحاطة السوار بالمِعْصَم، وكان أهل القدس الغربية في عمل دائب، وسهر دائم، يواصلون الليل بالنهار، لبناء المستقبل على أنقاض فلسطين والفلسطينيين.

وكان اليهود المغتصبون للأرض يعملون لأهداف حددوها، في ضوء تخطيط واضح الطريق، بَيِّن المراحل، كانوا يعملون للحاضر مستشرفين المستقبل، وكنا ـ نحن العرب والمسلمين ـ مشغولين بتوافه الأمور عن كبارها، وبأعراضها عن جواهرها، حتى فوجئنا يوما باجتياحنا واغتصاب القدس منا، واحتلالها بجيوشهم، حتى غدونا لا نستطيع أن نقيم صلاتنا في مسجدنا الأقصى إلا بإذن منهم.

زيارة المخيمات (الكرامة عقبة جبر)

بعد ذلك رتب لي الإخوان زيارة للمخيمات الكبيرة التي تضم اللاجئين الذين فقدوا ديارهم، وأُخرجوا منها بغير حق، وقد زرت من قبل مخيم "الغروب" بجوار الخليل، والآن ننوي زيارة مخيمي عقبة جبر، والكرامة، ولا أذكر أيهما زرته أولا، وأيهما ختمت به، والأرجح أني ختمت بـ "الكرامة" وقد ولد لأحد الإخوة هناك مولود ذكر سموه "يوسف".

وقد لقيني مرة في إحدى رحلاتي الدعوية، وقال لي: أنا يوسف… الذي سميت على اسمك حين زرت مخيم الكرامة سنة 1952. ولقد لاحظت ما يعانيه الإخوة اللاجئون، في مأكلهم ومشربهم ومسكنهم وعلاجهم وتعليمهم ورعاية أطفالهم، في هذه المخيمات التي لا توفر الحد الأدنى للعيش الآدمي الكريم الذي يليق بالبشر في عصر يتشدق بحقوق الإنسان.

ولقد خرجت من زيارة هذه المخيمات حاملا أمرين: أولهما: هم ثقيل وقلق شديد لمعاناة هؤلاء الإخوة وعائلاتهم. والثاني: عدوى حُمَّى الملاريا، التي بدأت أشعر بها، ثم اشتدت علي بعد عودتي إلى عمّان، وأصابتني الرعشة الشديدة المصاحبة عادة للملاريا.

العودة إلى عمان ومستشفى د. ملحس

وكان لا بد من العودة إلى عمّان، بعد أن طالت الجولة، استعدادا للسفر إلى القاهرة، فقد أوشك العام الدراسي أن يبدأ، وهو العام النهائي لي في كلية أصول الدين، ولكن "الملاريا" حمي وطيسها، واشتدت حرارتها، وهي الحمى التي اشتكى منها أبو الطيب المتنبي حين قال:

وزفـرني كأن بها احتشاما  **  فـليس تزور إلا في الظلام

بذلت لها المفارش والحشايا  **  فعافتها وباتت في عظامي!

أحضر الإخوان لي بعض الأطباء ليفحصوني، ويصفوا ماذا يجب أن أتناول من الأدوية التي تبرد حرارة الحمى، ولكن لم يغن ذلك شيئا، فرأى الإخوة جزاهم الله خيرا أن يدخلوني مستشفى خاصا في أحد جبال عمان، اسمه "مستشفى الدكتور ملحس"، وبقيت به نحو أسبوع.

زيارة الشيخ النبهاني

بقيت في مستشفى ملحس، حتى أبللت (برأت) من مرضي، وقد عادني في المستشفى كثيرون، ولكن أهم من زارني شيخ يلبس جبة وعمامة، أقرب ما تكون إلى عمامة المشايخ المصريين، سألني عن رحلاتي إلى مدن الضفة الغربية والشرقية، وأجبته بأنها كانت طيبة ومفيدة، وأعتقد أنها أفادتني شخصيا، وقديما قالوا: السفر نصف العلم، وأسمعته بعض ما أحفظ في فوائد السفر من الشعر، وتناقشنا مناقشات خفيفة في بعض المسائل العلمية، بما يليق بإنسان على فراش المرض..

وفي نهاية الزيارة صافحني الشيخ حفظه الله ولا أذكر هل أنا الذي سألته عن اسمه أو هو الذي بادرني، وقال: الداعي تقي الدين النبهاني، ورحبت به وشكرته على اهتمامه وزيارته، واعتبرت ذلك فضلا منه، ولعل رجاله رفعوا إليه تقريرا عن هذا الشاب المصري الأزهري الذي غالبهم في مجادلاتهم، فأراد أن يتعرف على شخصي باللقاء المباشر، ولعلها مجرد مجاملة منه، وهي مشكورة على كل حال، وكانت هي المرة الوحيدة التي لقيت فيها الشيخ النبهاني، ولم يتح لي لقاؤه بعد.

وبعد ذلك خرجت من المستشفى مستعدا للعودة إلى مصر، ولم يكن أمامي إلا السفر بالطائرة، وكانت أول مرة أركب فيها الطائرة، وودعني إخواني وودعتهم، واستودعتهم الله الذي لا تضيع ودائعه، كما دعوا لي أن يزودني الله التقوى، ويهون عليَّ السفر، ويصحبني في الحِل والترحال.