في يوم 13 فبراير سنة 1949خرجنا من سجن القسم الأول بطنطا لنرى الشمس ساطعة بعد أن غابت عنا هذه الفترة الطويلة ولكن هذه الشمس سرعان ما أظلمت في وجوهنا حين طالعتنا الصحف التي حُجبت عنا هذه المدة، ووجدنا عناوينها الرئيسة تحمل هذا النبأ المفجع: "اغتيال حسن البنا" كما في جريدة الأهرام، أو "مصرع الشيخ البنا"، كما في جريدة المصري.
ضاقت الدنيا في أعيننا، وضاقت علينا الأرض بما رحبت، وضاقت علينا أنفسنا، وظننا ألا ملجأ من الله إلا إليه.. بهذا النبأ الذي كان صدمة هائلة لنا، وإن كنا نخافه ونتوقعه منذ أن اعتقل الإخوان، وتُرك قائدهم طليق السراح؛ ليكون صيدا سمينا لهم، ولا سيما أن الأستاذ رفض أن يختفي أو يذهب ضيفا لدى بعض القبائل العربية، أو تكون عليه حراسة مشددة.. رفض الرجل ذلك كله، مفوضا أمره وحراسته إلى الله؛ فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين.
عرفنا من الصحف أن الأستاذ استُدرج إلى جمعية "الشبان المسلمين"، ليلقى بعض الناس ضمن مساعي الوساطة التي كان يسعى إليها الأستاذ، وما إن غادر الدار حتى أُطلقت عليه رصاصات المجرم الأثيم، الذي استقل سيارة كانت تنتظره، الْتقط الأستاذ البنا -برغم إصابته- رقمها، وأملاه على رفيقه وصهره الأستاذ "عبد الكريم منصور" المحامي، وكانت هي المفتاح الذي جرّ المجرمين إلى المحاكمة فيما بعد.
كان يمكن أن يُسعف الأستاذ، وأن يوقف النزيف، وتنتزع الرصاصات من الجسد، بقدر الله ووفق سنته، ولكن وقع إهمال جسيم متعمد، فظل دم الرجل ينزف، ولا يقدم له الإسعاف السريع اللازم، حتى قضى نحبه، وتحققت له "الموتة الحسنة"، التي كان يدعو الله أن يحققها له، وقد فسرها في خطابه في طنطا: "أن يُفصل هذا الرأس عن هذا الجسد في سبيل الله"، وصدق الله إذ يقول: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 23).
لم يجد حسن البنا شهيد الظلم والطغيان من يشيع جنازته، بل من يحمل نعشه، حتى قيل: "إن الذي حمله النساء"، ولم يجد والده الصابر المحتسب العالم المحدث الجليل الشيخ "أحمد عبد الرحمن البنا" من يعزيه في ابنه الفقيد، الذي كان ملء السمع والبصر، فقد كان بيت الفقيد محاصرا برجال الأمن، وكان كل من يقترب منه أو يحوم حوله يُقبض عليه. رجل واحد -فيما نعلم- هو الذي ذهب للعزاء، وهو الزعيم القبطي المعروف "مكرم عبيد باشا".
وهكذا قتلوه أكثر من مرة؛ قتلوه بإطلاق الرصاص الآثم، وقتلوه بترك الإسعاف المتعمد، وقتلوه بمنع تشييعه والعزاء فيه، وذلك كله ليتضاعف أجره ومثوبته، ويعلو مقامه عند الله: جزى الله خيرا من إمام وباركت ** يد الله في ذاك الأديم الممزق
في حين كان الحزن مخيما على أبناء مصر، كان الناس هناك في الغرب، في أوربا وأمريكا خاصة يحتفلون بهذه المناسبة السعيدة عندهم؛ قتل حسن البنا، وغيابه عن الساحة، فقد كانوا هم أعرف الناس بقيمة الرجل، وقيمة دعوته، وعظم خطره عليهم، كما أعلمتهم أجهزتهم الراصدة المراقبة عن كثب.
فلا عجب أن شربوا أنخاب الخمر، وتبادلوا التهاني، وأظهروا السرور؛ وهو ما لفت نظر الكاتب الكبير الأستاذ "سيد قطب"، الذي كان في بعثة إلى أمريكا في ذلك الوقت، وتصادف وجوده معهم، ومشاهدة الفرحة في أعينهم، فسألهم عن السبب، فأخبروه باغتيال "حسن البنا"، وهذا ما شد انتباه الأديب الكبير الشاعر الناقد، سيد قطب إلى حسن البنا ودعوته، ونقله بعد ذلك من كاتب كبير إلى داعية كبير، وكتب فيما كتب عن "حسن البنا وعبقرية البناء".
لم يكن حسن البنا مجرد رئيس جماعة، ولو كان كذلك لأمكن بسهولة أن تستبدل الجماعة رئيسا برئيس، ولكن علاقته بأنصار دعوته علاقة الأستاذ بتلاميذه من الناحية العقلية، وعلاقة الشيخ بمريديه من الناحية الروحية، وعلاقة الأب بأبنائه من الناحية العاطفية، وعلاقة القائد بجنده من الناحية التنظيمية.
وكان كل من عاشر حسن البنا يحمل ذكريات عنه؛ مواقف يحكيها، أو كلمات يحفظها، أو نكتة يرويها، أو لفتة إنسانية يتحدث عنها، وهو الذي بذر البذرة، وتعهدها بالرعاية حتى نمَتْ وأورقت وأزهرت، وامتدت جذوعها في الأرض، وفروعها في السماء، وكان المرجو أن يمد الله في حياته حتى تؤتي أكلها بإذن ربها.
ولهذا كان فقده في هذا الوقت خسارة كبيرة على الجماعة، وخسارة كبيرة على الوطن، وخسارة كبيرة على الأمة، ولكن هذا قدرُ الله الذي لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، وقد بذر الرجل البذرة، ووضع الأساس، وارتفع البناء، وربى جيلا من الرجال قادرا على أن يحمل اللواء، ويمضي بالسفينة رغم تلاطم الأمواج، ولن يتخلى عن دعوته، وإن سقط القائد في الميدان.
ونحن أناس لا نرى القتل سبة ** إذا ما رأته عامرٌ وسلولُ
إذا مـات منا سيدٌ قـام سيد ** قئول لما قال الكرام فعولُ
كان حسن البنا من الأفراد القلائل الذين يمن بهم القدر على الأمم في فترات وهنها وهوانها، لتنهض من كبوة، وتصحو من غفوة، وتُبعث من همود، وتتحرك من جمود، وتقوم من قعود.
وكانت أمة الإسلام بعد سقوط خلافتها، وتمزق وحدتها، وضياع هويتها، في المرحلة التي عبر عنها الحديث الشريف بأنها "غثاء كغثاء السيل" رغم كثرة عددها، ولكنها كمّ بلا كيف.
والغثاء: ما يحمله السيل من حطب وخشب وعيدان وأغصان وأوراق... وغير ذلك من الأشياء، التي لا تجانس بينها، ولكن يجمع بينها الخفة والسطحية من ناحية، وأنها ليس لها هدف، ولا مصب معلوم، ولا مجرى مرسوم؛ فهي تذهب يمنة ويسرة كيفما اتفق، وكذلك الأمة في المرحلة "الغثائية" من حياتها لا تجانس بينها، ولا يجمعها غير السطحية والخفة، وفقدان الهدف الواحد، والطريق الواحد.
جاء حسن البنا وأمتنا الكبرى هكذا، فنفخ فيها من روحه لتحيا، وصدع فيها بأعلى صوته لتستيقظ، وسقى شجرتها بدمه لتنمو وتمتد، وقد جمع الله فيه من المواهب والفضائل ما تفرق في كثيرين؛ فهو العالم الداعية المربي السياسي المصلح المجمِّع المنظم، كما قيل: "كل الصيد في جوف الفرا".
لقد مات وهو ابن الثانية والأربعين، ولكن كما قال ابن عطاء الله في حِكمه: "رُبَّ عمر قصرت آماده واتسعت أمداده"، لم تواتِه الفرصة ليؤلف كتبا علمية كبيرة، ولكنه (ألف) رجالا كبارا، ملؤوا الدنيا بالكتب والعلم النافع، حسبه هؤلاء الرجال في أقطار شتى! وحسبه الدعوة العالمية التي جعلها تمتد شرقا وغربا، شمالا وجنوبا! وحسبه الذكر الحسن الذي أضاف إلى عمره أعمارا!.
سأل أحد الصحفيين حسن البنا -ضمن عدد من كبار الشخصيات: "من أنت؟" وكان جوابه: أنا سائح يبحث عن الحقيقة، وإنسان يفتش عن معنى الإنسانية في الناس بمصباح (ديوجين)، أنا مسلم أدرك سر وجوده، فنادى في الناس: {إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: 162، 163).
كان حسن البنا شخصية فذة أو قل: كان عدة شخصيات في رجل واحد ، فهو العالم والداعية والمربي والمصلح والمجاهد والسياسي، وقد وفقه الله تعالى ليقوم بدور كبير في زمن يسير وأن يخلف وراءه كتائب من الرجال تحمل رسالة الإسلام إلى الأجيال، وأشهد أن عيني لم تر مثل حسن البنا في شمول شخصيته وتعدد مواهبه والبركة في آثاره، وأني انتفعت به انتفاعا كبيرا برغم محدودية المرات التي لقيته أو استمعت إليه فيها.
وهذا لا يعني أني مقلد له في كل ما يقوله وإن كنت أحترم وجهة نظره التي قد أخالفها لأدلة واعتبارات عندي، مثل موقفه من الحزبية، وموقفه من المرأة، فقد كان أميل إلى التشدد، وكذلك موقفه من ترجمة القرآن، فقد كان من المانعين من ذلك مع الكثيرين في عصره، ومثل موقفه من الجن ودخوله جسم الإنسان، وعلاجه بالقرآن، فقد كان يؤمن بذلك ومارسه بالفعل، وأنا أرى أن ما يدعيه المدعون من ركوب الجني للإنسي، وتكلمه على لسانه، إنما هو ضرب من الأمراض النفسية والعصبية وازدواج الشخصية.
وقد أخبرني تلميذي وسكرتيري الخاص الشيخ عصام تليمة بموقف الإمام البنا من هذه القضية، وسألني: ماذا تقول في ذلك؟ قلت: أنا هنا أخالف شيخي وإمامي البنا، وأرى أن الإنسان أكرم على الله تعالى من أن يسلط عليه نوعا من الجن، بحيث يركبه ويتسلط عليه، ويتحكم فيه، وينطق على لسانه ، كيف وهو المخلوق الذي كرمه الله وجعله في الأرض خليفة، وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعا منه، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة.
وقد حدثنا القرآن أن الله تعالى سخر الجن لبعض بني الإنسان، مثل سليمان عليه السلام، ولم يخبرنا أنه تعالى سخر الإنسان لأحد من الجان.
وقد بين لنا القرآن مدى سلطان الجن على الإنس وحدوده، وذلك في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} (إبراهيم: 22)، وما ورد في القرآن من قوله تعالى: {الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (البقرة: 275) فالمس لا يعني ولا يُفهم منه الدخول في جسد الإنسان والتحكم فيه، والتكلم على لسانه، إنما هو مس معنوي عن طريق الوسوسة في الصدور، وإثارة الشكوك والشبهات والشهوات ، كما قال تعالى في قصة أيوب: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} (ص: 41).
وقد توسع بعض الناس في عصرنا في أمر علاقة الجن بالإنس، فأعلنوا في الصحف عن فتح "عيادات للعلاج بالقرآن" وهو أمر ما أنزل الله به من سلطان، ولا قام عليه في الدين برهان، ولم يفعله صحابي ولا تابعي ولا إمام، على أن حسن البنا لم يشتهر عنه ذلك، وكان عنده من هموم الدعوة ما يشغله عنه، وإنما هي مرة واحدة جاءت بمناسبتها.
لذا نحا الإخوان منحى موفقا، وذلك بعد وفاة الإمام البنا بمدة من الزمن عندما انتشر موضوع العلاج بالقرآن - بمنع أفراد الجماعة من مزاولة العلاج بالقرآن، لما يترتب على ذلك من مضار، فهو طريق محفوف بالمخاطر، وغالبا ما يشغل الداعية عن الدعوة، ويجعله عرضة للشائعات، واتهامه بالدجل، واتخاذ ذلك تكأة للهجوم على الإخوان واتهام أفرادها بالشعوذة والتجارة بالدين.
وكذلك أخالف الإمام البنا في موقفه من المرأة، ودعوته إلى الفصل (التام) بينها وبين الرجال، وإلى منعها من كل ولاية عامة، ويدخل في ذلك ترشيحها للمجالس النيابية، قهذا ما أخالفه فيه كما خالفه كثير من تلاميذه، ومنهم الأستاذ عبد الحليم أبو شقة الذي ناقش قضية الاختلاط بتوسع..
كما أفرد للعمل السياسي للمرأة: جزءا من أجزائه السته التي كتبها تحت عنوان "تحرير المرأة في عصر الرسالة " وهو جهد علمي غير مسبوق، موثق بالأدلة من القرآن والسنة الصحيحة وأقوال علماء الأمة، وقد كتب الشيخ الغزالي له مقدمة كما كتبت له أخرى.
وأحسب - والعلم عند الله - أن الأستاذ البنا لو امتد به العمر لغير كثيرا آرائه، إذ لم يكن رحمه الله جامدا ولا متعصبا.
ولقد قلت أبياتا خاطبت بها حسن البنا صدّرت بها ديواني "المسلمون قادمون" لا بأس أن أذكرها هنا:
لك يا إمـامي يا أعــزَّ معـلم ** يا حامل المصباحِ في العصرِ العمي
يا مـرشدَ الدنيـا لنهْجِ مـحمـد ** يا نفحة مـن جـيل دار الأرقـمِ
شيدت للإسـلام صرحـا لم يكن ** لـبناته غـير الـشباب الـمسلمِ
وكتبت للـدنيـا وثيقـة نصـرة ** وأبيت إلا أن توقِّـــع بالــدمِ
حسبوك مِـتَّ وأنت فينا حـاضـر ** مـا مـاتَ غير الـمستبد المجرم!
حسبوك غِبتَ وأنت فينـا شـاهـد ** نجـلو بنهجـك كـل درب مـعتـمِ
نَـمْ في جوارِ زعيمك الهادي، فمـا ** شــيدتَ يـا بنـَّاءُ لـم يتهـدمِ
سيظل حـبُّك في القلوب مسطَّـرا ** وسَناك في الألباب، واسمك في الفمِ
الرجل القرآني:
كتب كثيرون عن حسن البنا، في حياته، وبعد وفاته، بلغات شتى، وعلى مستويات مختلفة، ولكن أبلغ من كتب عنه هو ذلك الكاتب الأمريكي، الذي لقيه في حياته، وكتب عنه بعد موته مقالا مطولا سماه فيه "الرجل القرآني"!
ولا أجد تسمية أدل على شخصية حسن البنا ودعوته من هذه التسمية (الرجل القرآني) قد يمكن أن تسميه الرجل الرباني، أو الرجل المحمدي، أو الرجل الإسلامي، أو الرجل الشمولي، ولكن تعبير (الرجل القرآني) أدل على حسن البنا من غيره، فهو رجل قرآني المرجعية، قرآني الغاية، قرآني المنهج، قرآني الثقافة، قرآني الهوى. فالقرآن لحمته وسداه ومبدؤه ومنتهاه.
هذا المقال العجيب كتبه الصحفي الأمريكي: روبير جاكسون، وترجمه إلى العربية الكاتب الإسلامي المعروف: الأستاذ أنور الجندي، رحمه الله.
والمقال طويل وجدير بأن يقرأ، لما فيه من غوص في أعماق شخصية المرشد العام، ووصف لجوانب هذه الشخصية الفذة، ولكنا نجتزئ منه هذه الفقرات:
(في فبراير سنة 1946، كنت في زيارة للقاهرة.. وقد رأيت أن أقابل الرجل الذي يتبعه نصف مليون شخص، وكتب في التيويورك كرونيكل بالنص:
زرت هذا الأسبوع رجلا قد يصبح من أبرز الرجال في التاريخ المعاصر، وقد يختفي اسمه إذا كانت الحوادث أكبر منه ذلك هو الشيخ حسن البنا زعيم الإخوان.
هذا ما كتبته منذ خمس سنوات، وقد صدقتني الأحداث فيما ذهبت إليه، فقد ذهب الرجل مبكراً.. وكان أمل الشرق في صراعه مع المستعمر، وأنا أفهم يطمح إلي مصلح يضم صفوفه ويرد له كيانه، غير أنه في اليوم الذي بات فيه مثل هذا الأمل قاب قوسين أو أدني انتهت حياة الرجل علي وضع غير مألوف.. وبطريقة شاذة..
هكذا الشرق لا يستطيع أن يحتفظ طويلا بالكنز الذي يقع في يده. لقد لفت هذا الرجل نظري بصورته الفذة عندما كنت أزور القاهرة بعد أن التقيت بطائفة من زعماء مصر ورؤساء الأحزاب فيها.
كان هذا الرجل خلاب المظهر. دقيق العبارة. بالرغم من أنه لا يعرف لغة أجنبية.
لقد حاول أتباعه الذين كانوا يترجمون بيني وبينه أن يصوروا لي أهداف هذه الدعوة وأفاضوا في الحديث علي صورة لم تقنعني، وظل الرجل صامتا، حتى إذا بدت له الحيرة في وجهي قال لهم قولوا له: هل قرأت عن محمد؟ قلت: نعم. قال: هل عرفت ما دعا إليه وصنعه؟ قلت: نعم. قال هذا هو ما نريده.
وكان في هذه الكلمات القليلة ما أغناني عن الكثير مما حاول البعض من أنصار البنا أن يقولوه لي. لفت نظري إلي هذا الرجل سمته البسيط، ومظهر العادي وثقته التي لا حد لها بنفسه، وإيمانه العجيب بفكرته. كنت أتوقع أن يجيء اليوم الذي يسيطر فيه هذا الرجل علي الزعامة الشعبية لا في مصر وحدها، بل في الشرق كله، ولا تدهشك خطابة حسن البنا بقدر ما تدهشك إجابته عن الأسئلة التي كان بعضها يتصل بشخصيته وحياته وأسرته.
وقد سئل مرة بعد أن ترك عمله في الحكومة ورفض مرتب الجريدة الضخم الذي كان يبلغ مائة جنية.. مم يأكل.. فقال في بساطة: كان محمد يأكل من مال خديجة وأنا آكل من مال (أخ خديجة) يقصد صهره.. وكان أعجب ما في الرجل صبره علي الرحلات في الصعيد.. هذه الرحلات التي لا تبدأ إلا في فصل الصيف حيث تكون بلاد الوجه القبلي في حالة غليان.. وفي أحشائها ينتقل الرجل بالقطار والسيارة والدابة وفي القوارب وعلي الأقدام.
وهناك تراه، غاية في القوة واعتدال المزاج.. لا الشمس اللافحة ولا متاعب الرحلة.. تؤثر فيه ولا هو يضيق بها تراه منطلقا كالسهم، منصوب القامة يتحدث إلي من حوله، ويستمع، ويفصل في الأمور.
وقد أمدته هذه الرحلات في خمسة عشر عاما، زار خلالها أكثر من ألفي قرية، زار كل قرية بضع مرات، يفيض غزير من العلم والفهم للتاريخ القريب والبعيد وللآسر والعائلات والبيوتات وأحداثها وأمجادها وما ارتفع منها وما انخفض.. وألوانها السياسية وأثرها في قراها وبلادها ورضا الناس عنها أو بغضهم لها.. وما بين البلاد أفرادا وأحزاباً وهيئات وطوائف من خلافات أو حزازات..
وكنت إذا قلت له فلان.. الحسيني مثلا أو الحديدي أو الحمصاني قال لك.. إن هذا الاسم تحمله خمس أسر أو أربع إحداها في القاهرة والثانية في دمنهور والثالثة في الزقازيق والرابعة في.. فأيها تقصد؟ ولا شك أن هذا الجهد قد أتاح له أن يلتقي بعشرات الآلاف من الناس خصوما وأنصارا، شيوخاً وشبابا، مثقفين وعوام.. وإنه قد استمع إليهم وحدثهم.. وأفاد منهم خبرة ضخمة واسعة.. أضافها إلي علمه وثقافته..
وإنني علي ثقة من أن حسن البنا رجل لا ضريب له في هذا العصر، وأنه قد مر في تاريخ مصر، مرور الطيف العابر.. الذي لا يتكرر.. لقد كان حسن البنا قديرا علي فهم الأشخاص لا يفاجئك بالرأي المعارض، ولا يصدمك بما يخالف مذهبك ، وإنما يحتال عليك حتى يصل إلي قلبك ويتصل بك فيما يتفق معك عليه.. ويعذرك فيما يختلفان فيه.
كما كان له من صفات الزعماء صوته الذي تتمثل فيه القوة والعاطفة، وبيانه الذي يصل إلي نفوس الجماهير ولا تنبو عنه أذواق المثقفين، وتلك اللباقة والحنكة والمهارة في إدارة الحديث والإقناع.
لقد كانت شخصية حسن البنا جديدة علي الناس.. عجب لها من رآها واتصل بها.. كان فيه من الساسة دهاؤهم، ومن القادة قوتهم، ومن الرياضيين حماسهم، ومن الفلاسفة مقاييسهم، ومن الخطباء لباقتهم ومن الكتاب رصانتهم.
وكان كل جانب من هذه الجوانب يبرز كطابع خاص في الوقت المناسب، ولكل هذه الصفات التي تقرؤها في كتب شمائل الصحابة والتابعين، لم يكن مقدرا أن يعيش طويلا في الشرق.. وكان لابد أن يموت باكرا، فقد كان غريبا عن طبيعة المجتمع، يبدو كأنه الكلمة التي سبقت وقتها، أو لم يأت وقتها بعد.
ولم يكن الغرب ليقف مكتوف اليدين، أمام مثل هذا الرجل.. الذي أعلى كلمة الإسلام علي نحو جديد، وكشف لرجل الشارع حقيقة وجوده ومصيره وجمع الناس علي كلمة الله.. وخفت بدعوته ريح التغريب والجنس ونزعات القومية الضيقة.. واعتدلت لهجات الكتاب، وبدأ بعضهم يجري في ركب (الريح الإسلامية)..
وجملة القول في الرجل القرآني: إنه يفهم الإسلام فهما واضحا سهلا يسيرا كما جاء في حديثه معي، علي الطريقة التي فهم بها محمد صلي الله عليه وسلم الإسلام، إنه قريب في نظري من أبي حنيفة الذي أصر علي رفض القضاء، ومالك الذي أفتى في البيعة وابن حنبل الذي أريد علي هوى فلم يرد.
وأجد حسن البنا قد حرر نفسه من مغريات المجد الناقص ومفاتن النجاح المبتور ومثل هذا التحرر في نظر إمرسون هو غاية البطولة؛ ولذلك فلم يكن عجيبا أن يقضي الرجل علي هذه الصورة العجيبة فكان فيها كشأنه دائما، غير مسبوق.
كان الناس يرونه غريبا في محيط الزعماء، بطابعه وطبيعته ، فلما مات كان غريبا غاية الغرابة في موته ودفنه، فلم يصل عليه في المسجد غير والده وحملت جثمانه النساء، ولم يمش خلف موكبه أحد من هؤلاء الأتباع الذين كانوا يملئون الدنيا لسبب بسيط هو أنهم كانوا وراء الأسوار.
إنه كان يدهش الناس في كل لحظات حياته، فلابد أن يدهش الأجيال بختام حياته، إن الألوف المؤلفة قد سارت في ركب الذين صنع لهم الشرق بطولات زائفة، أفلا يكون حسن البنا قد رفض هذا التقليد الذي لا يتم علي غير النفاق.
إن هناك فارقا أزليا بين الذين خدعوا التاريخ والذين نصحوا لله ولرسوله.. إن هذا الختام العجيب سيظل مدي الأجيال يوقد في نفوس رجال الفكر النور والضياء، ويبعث في قلوب الذين آمنوا معه ما بعثه الحق في نفوس أهله حتى يمكنوا له.
إن الأمر الذي أسأل عنه فلا أجد له جوابا: هل هناك علاقة ما بين الإسلام كما كان يفهمه حسن البنا ويدعو إليه وبين نهايته؟ إن كثيرين يدعون إلي الإسلام ويحملون اسمه، فهل هناك خلاف جوهري بين ما كان يدعو إليه حسن البنا وما يدعو إليه هؤلاء؟
لأني لا أعرف الإجابة الصحيحة أدع ذلك للتاريخ). (انتهى من مقال: الرجل القرآني، لروبير جاكسون، ترجمة أنور الجندي، ط دار المختار الإسلامي)