حادثتان مهمتان

الأولى: هي الاستماع إلى الشيخ حسن البنا، ولذلك قصة أود أن أحكيها:

فقد كانت المناسبة هي الهجرة النبوية في أوائل محرم، وكانت الجمعيات المختلفة تتنافس في الاحتفال بها، وكان منها جمعية الإخوان المسلمين في طنطا. وفي ليلة من الليالي قال لي ابن عمتي: سنتركك تنام، ونذهب لسماع الشيخ حسن البنا في احتفال الهجرة.

قلت لابن عمتي: ولماذا لا أذهب معكم؟

قال: أنت صغير، ومثل هذه الاحتفالات يطول ويمتد!

قلت: ولكني حريص على الاستماع إلى الشيخ البنا، ولا أريد أن أُحرم منه. قال ابن عمتي لأصحابه من طلاب الثانوي الكبار من أبناء قريتنا: الولد مُصِرّ على المجيء لسماع الشيخ، فقالوا له: دعه يحضر، فلعله يسمع شيئا ينفعه في المستقبل.

وذهبت معهم إلى شعبة الإخوان قرب "ميدان الساعة" في طنطا، وتكلم كثيرون قبل الشيخ البنا، ومنهم شعراء وخطباء مؤثرون، ثم كانت كلمة الختام للشيخ البنا، الذي انتظره الناس بفارغ الصبر، كما ينتظر الظمآن الماء، والسقيم الشفاء.

وتحدث الشيخ عن وداع عام، واستقبال عام، وشبه السنة المنصرمة بكراسة الطالب الذي أساء استخدامها، وأمسى يريد الخلاص منها، والاستعاضة عنها بكراسة جديدة نظيفة يحرص على نظافتها وسلامتها، حتى إذا اطلع عليها المفتش رضي عنها.

أخذ الشيخ هذا المثل من مهنته بوصفه معلما، ثم تحدث عن الهجرة، وقال: إن الهجرة بوصفها قصة لخصها الله في آية من كتابه {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة:40).

قال الشيخ: ولكنا نتحدث عن الهجرة باعتبارها حدا فاصلا بين عهدين: عهد تكوين الفرد في مكة، وعهد إقامة المجتمع في المدينة، وتحدث بتفصيل مناسب عن خصائص كل منهما بما شفى وكفى، وأوفى إلى الغاية.

كنت منذ وعيت أستمع إلى حديث الهجرة كل عام من علماء قريتنا، وهو حديث مكرور لا يعدو الحديث عن قصة العنكبوت والحمام وما يجري مجرى ذلك. أما هذه الليلة فقد سمعت حديثا جديدا أصيلا، لا عهد لي بمثله. ولقد وعيته وهضمته وأكاد أحفظ كلامه كله لشدة وضوحه وتركيزه وبلاغته.

وعند عودتنا إلى المنزل سألني ابن عمتي وصحابه: ماذا فهمت من الشيخ البنا؟ فقلت لهم: لقد قال الرجل كذا وكذا وكذا، وسردت عليهم حديث الرجل مفصلا، فعجبوا من ذلك، وقالوا: ما شاء الله، لقد حفظ الولد حديث الشيخ ووعاه كأنما يقرؤه من كتاب.

وأصبحت منذ تلك الليلة حريصا كل الحرص على الاستماع إلى الشيخ البنا، كلما جاء إلى طنطا في مناسبة من المناسبات. وكنت قبل ذلك رأيت كشافة الإخوان المسلمين، يجوبون شوارع مدينة طنطا، حاملين مصحفا كبيرا، ورافعين أعلامهم التي تشتمل على مصحف يحوطه سيفان، كما يحمل كلمة "وأعدوا" إشارة إلى قوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (الأنفال:60).

وكانوا يهتفون بهتافات حارة مؤثرة تقول: الله غايتنا، والرسول زعيمنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا. لا إله إلا الله، محمد رسول الله، عليها نحيا، وعليها نموت، وفي سبيلها نجاهد، حتى نلقى الله. الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد".

رأيت هؤلاء الشباب في زيهم الكشفي، وهتافهم الحماسي، فتأثرت بهم، وأعجبت بتوثبهم ووهج عيونهم، واهتز قلبي لصيحاتهم المخلصة، كما استمعت بعد ذلك إلى شيخهم ومرشدهم، ولكني لم أنضم إليهم، ربما لأني لم أعرف الطريق إلى ذلك، ولم أجد من يدعوني ويلحقني بركب الجماعة، حتى جاء أوان ذلك في السنة الرابعة كما سيأتي حديثه.

وفاة والدتي.. واجه حياتك بنفسك

والحادث الثاني الذي حدث لي في السنة الأولى هو مرض والدتي ووفاتها، لقد أصيبت أمي بحمى شديدة ألزمتها الفراش في بيت جدي أو بيت خالي، ويبدو أنها أحست بدنو أجلها، فطلبت أن تراني، فأبلغت بذلك، وذهبت في نهاية إجازة الأسبوع إلى البلدة، ورأيتها وعانقتني طويلا، وهي على فراشها، ودعت لي من أعماقها، وهي تذرف دموعها، وكان لها دعوات تحفظها وتخصني بها دائما: ربنا يحبب فيك الرب في عرشه، والجندي في فرشه، ويجعل في وشك (وجهك) جوهرة، وفي حنكك (فمك) سكرة، ويحبب فيك الحصى في الأراضي، ويجعل لك في كل سكة سلامة. وفي الواقع كلما لاحظت حب الناس لي، وقولهم في كل مكان: نحبك في الله! أقول: هذا من بركات دعاء أمي.

ودّعت أمي ورجعت إلى طنطا، على أن أعود إليها في نهاية الأسبوع القادم، ولكن لم يشأ القدر أن تستكمل الأسبوع، فقد كان لقائي معها هو اللقاء الأخير، وفي ضحى يوم من الأيام، وأنا في درس النحو جاء من يدعوني إلى مكتب مراقب المعهد؛ لأن أحد الأقارب جاء من البلد، ليخبرني أن أمي قد توفيت إلى رحمة الله، واستأذنت من مدرس النحو الشيخ محمد شعت ـ رحمه الله ـ الذي كان يحبني جدا، وكثيرا ما كان يناديني: يا علامة! لما رأى هضمي لعلم النحو وتذوقي له. وقد ودعني الشيخ وهو يبكي، ويقول: لا بد أن تعود. قلت: إن شاء الله عائد.

ووجدت إبراهيم ابن عمي ينتظرني بباب المعهد، وركبنا وذهبنا إلى القرية، وأدركنا الناس قد صلوا الجنازة على أمي رحمها الله في مسجد سيدي عبد الله بن الحارث، وتوجهوا بجنازتها إلى المقبرة، وهي قريبة من المسجد، فأدركتها قبل أن تدفن.

كانت وفاة أمي صدمة كبيرة لي، فقد حرمت من أبي وأنا في الثانية من عمري، فوجدت في حنان أمي وحبها وحرارة عاطفتها ما عوضني بعض الشيء عن أبي، وإن كانت الأم لا تملأ مكان الأب بحال.

اليوم فقدت أمي بعد أبي، وعلي أن أواجه الحياة بنعمائها وبأسائها، بوردها وشوكها، وقد عوضني الله عن حنان أمي بحنان جدتي ـ أم أمي ـ وخالاتي الأربع، فكن لي أمهات بعد أمي. ولا سيما خالتي "أم عبده" التي كانت تعيش في طنطا وترعى شؤوني.

مرت أشهر العام الدراسي الأول بالمعهد، ودخلت الامتحان بقسميه التحريري والشفهي، وحصلت على أعلى درجة بين أبناء دفعتي، وكان ترتيبي الأول، فالحمد لله الذي وفقني، وما توفيقي إلا بالله.

وبعد قضاء الامتحان، عدت إلى القرية، لأمضي بها نحو ثلاثة أشهر هي إجازتنا الصيفية، ولم يكن لي فيها عمل، إلا قراءة بعض الكتب مثل "الإحياء" للغزالي، وبعض كتب الأدب القليلة التي أقتنيها. وبعد انتهاء الإجازة عدنا إلى طنطا لبدء العام الدراسي الثاني.

السنة الثانية.. مكتبة فك الأزمة ومكافأة ثلاثة جنيهات

بدأت العام الدراسي الثاني بالمعهد بشراء الكتب المقررة، وكانت أثمانها غالية نسبيا بالنظر إلى مثلي، ولكني كنت أحاول أن أشتري الكتب المستعملة، التي يبيعها الطلاب بثمن أرخص بعد أن ينتهوا من دراستها.

كما كنت أحاول أن أشتري بعض كتب الحواشي الصفراء، وهي رخيصة الثمن عادة، وفيها علم غزير، لا يوجد في الكتب المطبوعة على ورق أبيض فاخر. مثل حاشية السجاعي على قطر الندى، وحاشية الأمير على شذور الذهب، وحاشية الخضري على ابن عقيل وغيرها.

وفي هذه السنة أصبحت أملك أمر نفسي، فإن ابن عمتي قد قدم إلى "مدرسة الصيارفة" التي فتحت أبوابها لأبناء الأزهر، ممن أكملوا السنة الثالثة الثانوية، فأخذت منهم أعدادا كبيرة، وكانت مهنة الصيرفة قبل ذلك مقصورة على الأقباط، حتى إني نشأت في قريتنا ولا أعرف لها صرافا إلا الحاج جرجس، الذي ظل سنين عددا وهو صراف القرية.

وقد بدأت أنظم القراءة في غير الكتب المقررة، التي لم تعد تشبع نهمي أو تملأ فراغ وقتي وحدها، فكان عندي وسيلتان لذلك: وسيلة دار الكتب بطنطا، التي كدت أصبح من روادها الدائمين، لأقرأ فيها كتب الأديب الشهير مصطفى لطفي المنفلوطي، الذي كان أدبه أحب إلى قلوب الشباب وعقولهم من غيره، لسلاسته وتدفقه وعذوبته، وللموضوعات التي يطرقها، كما في كتابه الشهير "النظرات" بأجزائه الثلاثة. وكما في القصص التي ترجمها بأسلوبه الخاص، مثل العبرات وماجدولين وفي سبيل التاج والشاعر والفضيلة وغيرها.

كما كنت أقرأ لأديب طنطا مصطفى صادق الرافعي: وحي القلم، وأوراق الورد، والمساكين، وغيرها. وأقرأ أحيانا لطه حسين والعقاد وأحمد أمين والزيات وغيرهم من كتاب مجلتي "الرسالة" و"الثقافة" الشهيرتين في ذلك الوقت، وقد كانت في طنطا مكتبة جعلت ذلك مهمتها، وسمت نفسها اسما دالا على ذلك، وهي "مكتبة فك الأزمة" في شارع درب الأثر بطنطا.

وفي هذه السنة بدأت أخطو الخطوات الأولى في نظم الشعر، وأذكر أن أول أبيات نظمتها كان موضوعها "صفارة الإنذار"، فقد كان الزمن زمن حرب، وكانت صفارة الإنذار تعمل، ويسمع الناس أصواتها، فيطفئون الأنوار بالليل، ويحاولون الاختباء بالنهار.. ومما أذكره أني لم أقل بيتا مكسورا قط، رغم أني لم أدرس العروض إلا في السنة الأولى الثانوية. وقد كان ما نظمته في هذه السنة قليلا، ثم طفق يكثر ويتسع في السنة التي بعدها، ولا سيما في السنة الرابعة.

كانت الحياة قد بدأت تغلو قليلا قليلا؛ نظرا للحرب العالمية الثانية التي أعلنت منذ سنة 1939م، ونحن الآن في أواخر سنة 1941م. وبدأ الناس يشكون من زحف الغلاء سنة بعد أخرى. وكان هذا الغلاء الزاحف ببطء بالنسبة إلي امتحانا عسيرا، فما عندي من النفقة محدود، والعين بصيرة، واليد قصيرة، ولكن لله ألطاف وأسرار لا يعرفها إلا من عايشها، كما قال الشاعر:  لا يعرف الشوق إلا من يكابده    ولا الصبابة إلا من يعانيها

وقد قال ابن عطاء الله في حكمه: مَن ظن انفكاك لطفه عن قدره، فذلك لقصور نظره {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (يوسف:100)؛ ولهذا كان من اللطف الإلهي أن نودي علي: إن لك مكافأة في الإدارة فاذهب لقبضها، وكانت هذه المكافأة 3 (ثلاثة جنيهات مصرية) بالتمام والكمال، هي مكافأة "الأولية" في الترتيب. فكانت هذه نجدة من السماء، فقد كان هذا المبلغ في ذلك الوقت كبيرا ومجزيا، ويقضي به المرء أوطارا لا وطرا واحدا.

ولذا كان أول ما فكرت فيه أن كسوت نفسي بما يليق، فاشتريت ثلاثة أمتار ـ إلا ربعا ـ من الصوف الجيد، وفصلتها جلبابا يليق بالعمامة التي ألبسها، كما اشتريت بعض الملابس الأخرى داخلية وخارجية، وحسَّنت من فراشي وغطائي.

وظلت هذه الجنيهات الثلاثة مصدرا ثابتا لي، فلم تتخلف عني في سنة من السنوات، حتى بعض السنوات التي لم يكن ترتيبي بها الأول، مثل الشهادة الابتدائية، لم أُحرم منها؛ فقد كانت تعطى للثلاثة الأوائل.