لم يشأ لي القدر أن أولد وأنشأ في مدينة كالقاهرة كما نشأ أحمد أمين، أو كدمشق كما نشأ على الطنطاوي، لأتحدث عن مدينتي وخصائصها وروائعها، ولكني ولدت ونشأت في قرية متواضعة من قرى الريف المصري، بعيدة عن كل أسباب المدنية الحديثة، فلا ماء ولا كهرباء ولا شوارع مرصوفة، ولا أندية ولا مكتبات ولا متاحف، ولا غير ذلك، مما تزخر به المدن العريقة عادة.
بين مدينة طنطا عاصمة مديرية (محافظة) الغربية ومدينة المحلة الكبرى أشهر مراكز مديرية الغربية، تقع قريتنا (صفط تراب) على بعد نحو 21 كيلو متر من طنطا، ونحو 9 كيلو مترات من المحلة.
وكثيرا ما سألت نفسي ـ وسألني الناس كثيرا ـ عن معنى كلمة (صفط) والمفهوم أنها كلمة غير عربية، وهي من الكلمات الموروثة مما قبل الإسلام، لعلها من اللغة الهيروغليفية، أو اللغة القبطية، ولعل بعض الباحثين المهتمين باللغات يفيدنا في معنى (صفط) وأمثالها من الكلمات التي تذكر مضافة إلى كلمات أخرى، مثل كلمة (شبرا) مثل كلمة (شبرا مصر) (وشبرا خيت) وغيرها، ومثل كلمة (ميت) مثل (ميت غمر) و (ميت عقبة).
ومثل كلمة (صفط) وفي مصر عدد من القرى تسمى (صفطا) وتضاف إلى اسم آخر مثل (صفط العنب) و(صفط الملوك) و(صفط الحنة) و(صفط البصل) و(صفط جدام) وغيرها.
ويبدو أن كلمة (صفط)[1] كانت تنطق وتكتب قديما بـ (السين) لا بـ (الصاد) هكذا (سفط) وهذا ما ذكره ياقوت الحموي في (معجم البلدان) فذكر بلادا ثلاثة في مصر تسمى (سفطا): (سفط أبي جرجا) و(سفط العرفا) وكلتاهما في صعيد مصر، و(سفط القدور) في أسفل مصر، أي في الوجه البحري بتعبيرنا الحديث. و(سفط القدور) هذه هي قريتنا، بدليل أنها القرية التي دفن فيها الصحابي عبد الله بن الحارث، كما سيأتي الحديث، وهذه ليست مجرد دعوى أو شائعة من شوائع العوام، كما في كثير من القرى والبلدان، التي يدعون فيها وجود صحابة عندهم، ولا يوجد دليل على ذلك يعتمد عليه.
بل هي حقيقة علمية نص عليها المؤرخون والحفاظ من مؤرخي الصحابة رضي الله عنهم. ذكر الإمام أبو جعفر الطحاوي أن وفاته كانت بأسفل أرض مصر بالقرية المعروفة بسفط القدور.
ونقل الحافظ ابن حجر في التهذيب عن الإمام الطبري: أنه كان اسمه (العاصي) فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبد الله. وقال ابن منده: هو آخر من مات بمصر من الصحابة رضي الله عنهم.[2]
ولا أدري متى تغير اسمها من (سفط القدور) إلى (صفط تراب). وقد قرأت في بعض المراجع التي لا أذكر اسمها الآن: أنها كانت تسمى (صفط أبي تراب) ثم حذفت كلمة (أبي) واستقرت على هذا الاسم الأخير الذي عرفت به، وهو صفط تراب.
وقد ذكر صاحب القاموس أسماء سبع عشرة قرية بمصر اسمها سفط، وأضاف إليها الزبيدي شارحه في تاج العروس: أسماء ستة أخرى. وكان من السبع عشرة: سفط القدور قال الزبيدي: هي المعروفة بسفط عبد الله بالغربية، وبها توفي عبد الله بن جزء الزبيدي، وآخر من مات من الصحابة بمصر، وقبره ظاهر بها زرته مرارا رضي الله عنه. اهـ. وذكر القاموس من (السفوط) (سفط أبي تراب) وقال شارحه: بالسمنودية. ولا يوجد بسمنود ولا ما حولها بهذا الاسم غير قريتنا، فهي قريبة من سمنود نسبيا، وإن كان الأولى نسبتها إلى المحلة الكبرى. وفي اللغة العربية توجد كلمة (سفط) بالسين لا بالصاد، وبالفاء المفتوحة ومعناها: السلّة ونحوها مما يوضع فيه الطيب وأدوات النساء كالجوالق أو كالقفة.
تتميز قرية (صفط تراب) بأنها قرية عريقة قديمة. ومن دلائل عراقتها: وجود قبر الصحابي الجليل سيدنا عبد الله بن الحارث بن جزء بن عبد الله بن معد يكرب الزُبَيْدي، أبي الحارث، نزيل مصر، الذي روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث أخرجها له الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
وكان عبد الله بن الحارث من شباب الصحابة الفاتحين الذين قدموا إلى مصر، مع القائد عمرو بن العاص فاتح مصر في عهد أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وفتحُ مصر بالإسلام وللإسلام: قصة يجب أن تعرف، فليس يتصور أن يفتح جيش من أربعة آلاف شخص، أمدوا بعد ذلك بأربعة آلاف مثلهم: أن يفتحوا بلدا احتله الرومان واستعمروه لعدة قرون، لولا أن الشعب المصري نفسه، كان مرحبا من أعماقه بالفاتحين الجدد، الذين نظر إليهم نظرة المنقذ من ظلم الرومان الذين كانوا يوافقونهم في دين النصرانية، وإن خالفوهم في المذهب.
على كل حال، لم يفتح الإسلام ـ في الواقع ـ مصر بالسيف، إنما فتحها بإقامة العدل ونشر مبادئ الحق والخير. على أن السيف قد يفتح أرضا، ولكنه لا يفتح قلبا، إنما تفتح القلوب بالدعوة والحكمة، والحوار بالتي هي أحسن، وبالأسوة الحسنة. هذه جملة استطرادية، اقتضاها الموقف بمناسبة الحديث عن الصحابي الفاتح عبد الله بن الحارث ساكن صفط تراب.
بعد انتهاء الفتح والصدام مع جيش (المقوقس) حاكم مصر من قبل الإمبراطورية الرومانية البيزنطية، ورحيل الرومان عن مصر وهدوء الأحوال، رجع من رجع من الصحابة الفاتحين مثل عمرو بن العاص، والزبير بن العوام، وعبادة بن الصامت وغيرهم إلى جزيرة العرب، وبقي عدد آخرون من الصحابة وتلاميذهم في مصر، وتفرقوا في مدنها وقراها.
وكان من حظ قريتنا أن يستوطنها ويستقر بها هذا الصحابي الشاب، عبد الله بن الحارث الزبيدي، وأن يظل في هذه القرية ويتزوج بها وينجب حتى وافاه أجله، ومات بها، ودفن بها سنة 86هـ، وقبره معروف بها.
هذا وقد كان لي أبيات قلتها في مديح سيدي عبد الله بن الحارث، الذي كان لقريتنا (صفط تراب) الحظوة به دون سواها، وهي أبيات لم تنشر من قبل، وهذه مناسبة لأسجلها هنا، وأنا أعطي صورة عن القرية. قلت:
بعـبد اللـه أشـرقت الـروابي
صحابيّ الرسول، جزيت خيرا
شرفت بصحبة الـمختار دهـرا
وتسمـع منه قـول الحق صفوا
وجئت لـمصر تحـمل خير دين
ورحب شعب مصر بكم، وأصغى
دعـوتم مصر بالـحسنى فـلبّت
بسيف الـحب والـعدل انتصرتم
وأمست مـصر للإسلام حـصنا
وأنقذتم مــن الـرومان شعـبا
وأسلم أهـل صفط عـلى يديكـم
وعشت بهـا، ومـت بهـا، هنيئا
وحـق لـصفطنـا بك أن تسمى
وبوركت السهول مـع الـهضاب
عـن الإسلام، يا نعم الـصحابي
تلـقَّى مـن مـناهـله الـعِذاب
وتشهد فعـلـه وبلا حـجـاب
مع ابن العاص في شرخ الشباب
لـدعـوتكم، وفـتَّح كـل باب
نداء اللـه، لا بشـبا الـحـراب
ولـيس ببطش ذي ظـفر وناب
ودرعا للـسـان وللـكـتاب
غـدا لهمـو كـأبقار الـحِلاب
ودانَـوْكم بـصهـر واقـتراب
لَها بك مـن جـوار مـستطاب
بصفط الـتبر لا صفط الـتراب!
ولا بد لي قبل أن أتحدث عن سيرتي ومسيرتي: أن ألقي شعاعا من ضوء على البيئة التي ولدت فيها، ونشأت بها، وخطوت في ربوعها ومرابعها خطواتي الأولى.
سأحاول أن أعطي القارئ الكريم وخصوصا في البلاد العربية والإسلامية: صورة بينة الملامح، واضحة التقاسيم عن قريتي، في جوانبها الدينية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. كما ألقي بعدها شعاعا على أسرتي التي ربيت في ظلها، حتى تتكامل الصورة أمام القارئ الكريم.
.............................
(1) ذكر شارح القاموس في فصل الصاد باب الطاء أن (صفط) لغة في (سفط) كما ذكره الحافظ في التبصير، وقال كهذا ينطقها أهل مصر.
(2) انظر ترجمته في (الإصابة) ج2 الترجمة (4598) وأسد الغابة (3/137) وتهذيب الكمال ج14 ترجمة (3212) وتهذيب التهذيب (5/178) وغيرها.