شعار الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

27 محرم 1430هـ

24 يناير 2009م

الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومَن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، (أما بعد):

فإن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، قياما لله بشهادة الحقِّ، {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2] وأداء للأمانة في تبصير الأمة بواجبها، وعملا بالنصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، في هذه المرحلة الدقيقة والحاسمة التي تمر بها أمتنا العربية والإسلامية، بعد أن نصر الله المقاومة في غزة، وأوقف العدوان الغاشم، وانسحب العدو الظالم، ليبين للأمة الحقائق التالية:

أولا: التحية والتقدير للصمود الأسطوري لأهلنا في غزة التي ضربت روائع الأمثلة في الصبر والمصابرة، وقدمت أكثر من ألف ومئتي شهيد، وأكثر من خمسة آلاف جريح، أكثرهم من المستضعفين من الشيوخ والنساء والأطفال، الذين لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلا، والتي استخدمت إسرائيل فيها الأسلحة المحظورة دوليا، واستعملت أساليب وحشية، كهدم البيوت على رؤوس أصحابها، والمساجد على المصلين فيها، والمدارس على التلاميذ. تحية لهؤلاء الأبطال الذين لم يجزعوا ولم يسخطوا ولم يتزعزعوا {فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146].

ثانيا: التحية والإجلال لإخواننا من رجال المقاومة الأبطال، وفي مقدمتهم حماس، الذين استطاعوا بعددهم المحدود، وبأسلحتهم المتواضعة، أن يقاوموا جيش إسرائيل المكون من ثلاثين ألف جندي، وتصدوا له وجها لوجه، ولم يرهبهم القذف من الجو، والضرب من البحر، والزحف من البر، بل كبدوا العدو خسائر لم يكن يتوقعها، واتخذ الله منهم شهداء، ولكن دماءهم لن تضيع هدرا. ولم يستطع العدو أن يضرب منصة صواريخ واحدة، أو يثخن في المقاتلين، أو يسيطر على أي منطقة في غزة، برغم دباباته وطائراته وزوارقه الحربية، وأسلحته المتطورة الحديثة التي لم تستخدم قبل ذلك قط. والتي أمدته بها أمريكا. لقد وضع هؤلاء المجاهدون نصب أعينهم قول الله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} [الأحزاب:23،22]. لقد أراد العدو أن يكسر شوكة حماس، ولكنها ازدادت قوة، وأن يخمد جذوتها، ولكنها ازدادت اشتعالا.

لقد انتصرت المقاومة وكان لا بد أن تنتصر، بفضل الإيمان والثبات وتلاحم كل الفصائل، والتفاف الشعب حولهم، ودعاء الأمة لهم، ووقوفها من خلفهم، وانهزم جيش الصهيونية العدواني، وكان لا بد أن ينهزم، وإن حاول أولمرت أن يغطي فشله الملموس بدعاوى كاذبة. ونؤكد هنا أن العاقبة للمتقين، والنصر للمؤمنين، والهلاك للظالمين {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227].

ثالثا: التحية والثناء والدعاء لشعوب الأمة العربية والإسلامية، وجماهيرها العريضة في المشرق والمغرب، من اندونيسيا إلى موريتانيا، والتي تجاوبت مع المحنة، وعاشت المعركة، واستجابت لنداء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وخرجت إلى الشوارع تعبر عن غضبها على الصهيونية المتوحشة، وعلى العدوان الإجرامي الغاشم، منددة بالتحيز الأمريكي، والتواطؤ الأوربي، والوهن الإسلامي، والعجز العربي: وهن وعجز الأنظمة الحاكمة، لا الشعوب الغاضبة.

لقد أثبتت هذه المحنة وجود الأمة الإسلامية، ووحدة الأمة الإسلامية، وحيوية الأمة الإسلامية، وأنها إذا استُغضبت غضبت، وإذا استثيرت ثارت، وإذا صممت أقدمت، وأن الخير لا يزال في هذه الأمة، ولكن الضعف في القيادة السياسية.

رابعا: الإشادة والتنويه بمواقف كل الأحرار والشرفاء في أنحاء العالم، في الغرب والشرق، حتى في أمريكا نفسها، الذين سيروا مسيرات كبرى، تستنكر العدوان بوحشيته وأنيابه المفترسة، لم يحركهم إلا الإيمان بكرامة الإنسان، واحترام حياة البشر، وحقوق المستضعفين، منددين بالمستكبرين في الأرض، الذين لم يراعوا حرمة شيخ كبير، ولا طفل صغير، ولا امرأة ضعيفة، ولا مسجد للمصلين، ولا مدرسة للمتعلمين، ولا مستشفى للمرضى والجرحى والمصابين. فلهم منا أجزل الشكر، وأجمل التحية والتقدير.

خامسا: مباركة الاتحاد لكلِّ المساعي المخلصة التي بُذلت لجمع شمل الزعماء؛ لتصفية خلافاتهم، وتوحيد كلمتهم للوقوف ضد العدوان الإجرامي، الذي وقع على أهلنا في غزة، ويثمِّن في هذا السياق:

أ ـ قمة غزة التي دعت إليها دولة قطر، والقرارات الشجاعة التي أسفرت عنها، والتي تمثلت في دعم صمود المقاومة، وتجميد العلاقات الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني، وإنشاء صندوق إعمار غزة الذي تبنته دولة قطر وأسهمت فيه بربع مليار دولار، والتأكيد على فك الحصار، وفتح جميع المعابر بشكل دائم ومستمر.

ب ـ قمة الكويت التي احتضنت هذا الحشد الكبير من القادة، ويخص بالذكر خطاب خادم الحرمين الشريفين لما تضمنه من معانٍ كبيرة، ورغبة صادقة في لم الشمل ورأب الصدع بين الأشقاء العرب، وصراحته في تحميل جميع القادة مسؤولية الانقسام لا يتسثنى أحدا، وتأكيده على أن هذه الفُرقة كانت عونًا للعدوان الإسرائيلي الغادر على تحقيق أهدافه الإقليمية على حساب وحدتنا وعزتنا وآمالنا، وتذكيره الإخوة الفلسطينيين بضرورة توحيد صفهم، وأن تفرقهم أخطر عليهم من عدوان إسرائيل، وتصريحه بأن مبادرة السلام العربية لن تظل مطروحة إلى الأبد، وأن الخيار بين الحرب والسلام لن يكون مفتوحا في كل وقت، ودعمه السخي لإعمار غزة بمبلغ مليار دولار.

إن الاتحاد - وهو يقدر تلك الجهود التي بذلت ـ يُذكِّر القادة والزعماء العرب بما يلي:

1 – أن أمتنا تملك قدرات هائلة وإمكانات مادية ومعنوية مذخورة من شأنها أن تقيل الأمة من عثرتها إذا أُحسن توظيفُها، وأن شعوبها مستعدة للبذل والتضحية بالنفس والمال إذا فتحت لها الأبواب، ولم تجدْ من يصدُّها ويقيدْ حركتَها، وعلى القادة تقع المسئوليةُ الأولى في تمهيد السبل وفتح المغاليق.

2 – أن القرارات التي تمخضت عنها قمة الكويت تستلزم استكمال ما بعد وقف العدوان والانسحاب، من فكٍّ للحصار الظالم بكل مضامينه ومشتملاته، وفتح المعابر جميعا بلا استثناء، لاسيما معبر رفح بشكل دائم غير مشروط، واتخاذ الخطوات العملية الكفيلة بتحقيق هذه الأهداف، وإلا كانت القرارات صيحة في وادٍ أو نفخة في رماد.

3 ـ التشديد على إيصال المساعدات لأهل غزة مباشرة عن طريق المؤسسات المعتمدة والموثوق بها، التي سبق لها أن عملت في هذا الميدان في كل بلد، أوتكوين لجنة تجمع ممثلين عن فصائل المقاومة، وعن الحكومة المنتخبة، وعن الجامعة العربية، تتولى الإشراف على إعادة البناء، وهي مسؤولة عن قبض الأموال وإنفاقها.

4 ـ ضرورة مواصلة السعي بكل الوسائل القانونية والإعلامية لدى الهيئات الحقوقية والمنظمات الدولية، لمحاكمة قادة الكيان الصهيوني، الذين أسرفوا في قتل المدنيين، ودمروا منازلهم فوق رؤوسهم، والذين استخدموا الأسلحة المحرمة دوليا، محاكمتهم بوصفهم مجرمي حرب، وبتهمة الإبادة العنصرية، المتفق على تجريمها في القوانين والمواثيق العالمية، ومطالبتهم بالتعويض عن كل الخسائر الناجمة عن عدوانهم.

5 ـ ضرورة التصدي بكل الوسائل لكل المحاولات التي تعمل على خنق المقاومة ومنع الإمدادات عنها، والتأكيد على حقها في الجهاد المشروع الذي يعتبر فرض عين عليهم في حكم الشريعة الإسلامية. ودعم صمودها واستمرارها؛ إذ هي عنوان شرف الأمة وعزتها، وأن أي محاولة لإضعافها عبر تسويات مشبوهة يعني كسرا لإرادة الأمة، وفرض شروط العدو الصهيوني عليها. واعتبار حصولها على السلاح لمقاومة المحتل والدفاع عن نفسها: فريضة شرعية، وضرورة إنسانية، وحقا تضمنه القوانين الدولية.

6 ـ يرحب الاتحاد بكل جهد يبذل للمصالحة بين السلطة وحماس، والعمل لوحدة كل الفصائل الفلسطينية، على ما أمر الله به بقوله {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9] ومعنى ذلك: أن يكون الإصلاح على أساس من احتضانٍ غير منحاز، قائم على احترام إرادة الشعب الفلسطيني، والالتزام بثوابت القضية الفلسطينية. تشارك فيه الجامعة العربية وعدة دول معروفة بالحياد.

7 ـ السعي الحثيث لمواجهة الكيان الصهيوني المتجبر، المصر على بغيه، وعدم الركون إلى وعوده التي لا يحترمها ولا يفي بها، وأول ما يجب في ذلك: إلغاء المبادرة العربية للسلام.

8 ـ ألا ينفصل القادة عن الشعوب، ولا يغفلوا نبض الشارع وطموحاته، وأن يتساموا فوق السفاسف والخلافات الصغيرة، ليكونوا على مستوى التحديات الجسام، والمهام العظام، والانحياز لضمير الأمة، وخيار الشعوب، واتخاذ المواقف التي ترضي الله سبحانه، وتحفظ للأمة شرفها وعزتها.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ مَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}. [محمد:7].

{إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160].

يوسف القرضاوي

رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين