كتب سعادة الأستاذ عبد اللطيف عبد الله المحمود رئيس تحرير جريدة الشرق مقالا بعنوان: (فتاوى شرعية أم مواد صحفية) يوم الخميس 10/4/2008م ولنا على المقال عدة ملاحظات يحسن التنبيه عليها، وهي:

الأولى: ذكر الأستاذ المحمود أنه تلقى من مكتب الشيخ القرضاوي فتوى عن توسعة المسعى بين الصفا والمروة، وفتوى أخرى عن حكم التعامل مع الأعداء في الأمور التجارية والاقتصادية، والواقع أن مكتب فضيلة الشيخ القرضاوي لم يرسل للصحيفة شيئا لا عن توسعة المسعى، ولا عن حكم التعامل مع الأعداء في الأمور التجارية، لا لأن الشيخ يتخذ موقفا من صحيفة الشرق أو غيرها من الصحف، ولكن لأن من سأل الشيخ أجابه، ومن استفتاه أفتاه.

أما الفتوى الأولى فكانت إجابة عن سؤال تقدمت به قناة العربية وقناة mbc الفضائيتان، وألحتا في طلب الإجابة عليه، ومن قبلهما مجلة الدعوة السعودية، ورغم حالة الشيخ الصحية في هذه الفترة، أجاب فضيلته عن سؤال القناتين لأهمية الموضوع لعموم الأمة، وتم بث الجواب على شاشة الأولى عدة مرات، وسيتم بثه على الثانية لاحقا، وقد حضر المقابلة مندوب موقع إسلام أون لاين وقام بنشر فتوى الشيخ على الموقع، ولم تنشر في موقع الشيخ إلا بعدها بأيام.

وأما الفتوى الثانية فقد سبق نشرها في كتاب الشيخ فتاوى معاصرة الجزء الأول (صـ713) المطبوع في أوائل التسعينيات، فمن الذي أخرج هذه الفتوى من بطون الكتب ليرسلها إليكم!!

الثانية: استغرب رئيس التحرير قيام فضيلة الشيخ بإصدار فتوى توسعة المسعى في الوقت الذي لم يسمع فيه عن أي معارضة لقيام السلطات بتوسعة الصفا والمروة. والحكم على الشيء فرع عن تصوره كما يقول المناطقة، وعدم العلم بالشيء لا ينفي وجوده، وكونه لم يسمع - وهو صحفي قديم وإعلامي كبير ورئيس تحرير - عن أي معارضة لقيام السلطات بتوسعة المسعى فلعل شواغل شغلته عن ذلك، لكن المعارضة موجودة، حتى إن مجلس كبار علماء السعودية برئاسة المفتي العام، قرر بالأغلبية في جلسته المنعقدة بتاريخ 22/2/1427هـ: (أن العمارة الحالية للمسعى شاملة لجميع أرضه، ومن ثم فإنه لا يجوز توسعتها، ويمكن عند الحاجة حل المشكلة رأسيا بإضافة بناء فوق المسعى) - مرفق نص الفتوى للإطلاع - وقد وقع على هذه الفتوى بالموافقة خمسة عشر عالما وتحفظ عالمان ورأى ثالث أن الموضوع بحاجة إلى مزيد بحث، وأفتى الشيخ صالح اللحيدان وبعض أعضاء الهيئة: أنه لا يجوز السعي في التوسعة الجديدة. فكيف نصدق إذن أن لا معارضة تذكر في جواز توسعة المسعى، ولذا سعت وسائل الإعلام المختلفة بالسعودية سعيا حثيثا إلى معرفة رأي الشيخ ونشره على أوسع نطاق.

الثالثة: أن الشيخ لم يقتصر في فتواه على توسعة المسعى بين الصفا والمروة، بل دعا إلى كل ما ييسر على الحجاج والمعتمرين أداء مناسكهم، ومنه توسعة المطاف بنقل مقام إبراهيم كما نقل من قبل.

الرابعة: أن من حق كل رئيس تحرير أن يقرر ما ينشر في صحيفته، ولكن ما ليس من حقه: أن ينصب نفسه حكما على ما يكتبه المتخصصون من علماء الشرع، أو أن يدعي أن ما أعرض عن نشره ليس فيه جديد يتطلب النشر.

الخامسة: يرى الأستاذ: أن الفتاوى تعرضت لقضايا مسلم بها لا لبس فيها وأمور قتلت بحثا ولا داعي لنشرها على نطاق واسع، فهي لا تتجاوز حاجة السائل وحده، فما هي القضية المسلم بها المقتولة بحثا التي تقتصر على حاجة السائل في كلا الأمرين: توسعة الصفا والمروة، الذي اختلف فيه كبار علماء السعودية السابق ذكرهم، والذي يتعلق بخامس أركان الإسلام، ويهم كل مسلم في الأمة الإسلامية جميعا. أم قضية المشروبات التي تحتوي على نسبة ضئيلة من الكحول؟ ولو كانت مسلما بها ولا لبس فيها وقتلت بحثا ولا تتجاوز حاجة السائل نفسه، فلماذا ثارت البلبلة المدعاة إذن، وهل تثير القضايا المسلم بها بلبلة في مجالس الناس؟ وقد صرح أمس المدير العام للهيئة العامة القطرية للمواصفات والمقاييس: أن الفتوى جاءت لتجيب عن حاجة ملحة للهيئة جراء الاتصالات والاستفسارات التي كانت ترد عليها بسبب السماح بتلك النسبة من الكحول المتشكلة طبيعيًا بسبب التخمر، ومدى شرعية ذلك.

إن منهج الشيخ القرضاوي الذي عرف به أبدا، ألا يتعرض للقضايا المقتولة بحثا، بل القضايا التي يحتاج إليها المجتمع.

السادسة: أن الشيخ القرضاوي وضع ضابطا لحكم الجواز: كون النسبة ضئيلة لا تؤثر - خاصة إذا كانت بفعل التخمر - وهذه قاعدة شرعية عامة في النجاسات وفي غيرها، يؤيد هذا حديث: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث"، أما التحديد المذكور (0.05%) فهو بناء على الهيئة العامة القطرية للمواصفات والمقاييس، حيث تسمح بالنسبة المذكورة كحد أقصى باعتبارها نسبة طبيعية تتشكل بفعل التخمر.

السابعة: أما كون الفتوى تفتح الباب لمن تسول لهم أنفسهم شرب ما يحتوي على نسب من الكحول، فهؤلاء لا يحتاجون إلى فتوى مفت ولا إلى رأي فقيه، فهم يعلمون أنهم عاصون ولحدود الله متجاوزون، وفتوى الشيخ القرضاوي لم تحل تناول قطرة واحدة من مسكر لأي مسلم كان، ولو كانت خشية التحريف تمنع المفتي من بيان حكم الله ما بيَّن عالم ولا تحدث فقيه، ولا أرسلت الرسل ولا نزلت الكتب، فقد حرفت كتب الله السابقة وإثمها على من حرفها.

الثامنة: أن مكتب الشيخ القرضاوي لا دخل له في صياغة الفتاوى، وهذا من ميزات الشيخ، فهو يخط فتواه بقلمه، ويراجعها مرة بعد مرة، ثم يقوم المكتب بطباعتها، ثم بإيصال الجواب للسائل صحفيا كان أو غير صحفي.

التاسعة: رغم أنه لا حرج على داعية أن ينشر دعوته على أوسع نطاق، فإن مسألة الجري بفتاوى الشيخ إلى وسائل الإعلام ليست صحيحة، بل وسائل الإعلام صحفا ومجلات وإذاعات وقنوات، محلية وعالمية، عربية وأجنبية، هي التي تتسابق للحصول على كلمات الشيخ وآرائه وفتاواه، ومن ثم تقوم بنشرها على صفحاتها الأولى كما فعلت جريدة العرب، معتبرة ذلك سبقا صحفيا تتفوق به على منافسيها، ولا يكاد يمر يوم إلا وتصل للشيخ طلبات مقابلات ولقاءات وحوارات من وسائل إعلام مختلفة، يعتذر الشيخ عن معظمها لضيق وقته، وكثرة مشاغله، وعدم حرصه على تصدر الصفحات، ومن يعرف الشيخ عن قرب يعلم ذلك عنه علم اليقين، وهذا كله يعفي مكتب الشيخ من الجري المنسوب إليه.

العاشرة: أن العالم أو الفقيه أكثر الناس معرفة من غيره بما يحتاجه الناس من أمور دينهم، ودوره أن يبين لهم أحكام الإسلام، ويجيب عن تساؤلاتهم إذا سألوا، فأي الفتاوى المذكورة كان ضرر نشرها على العامة أكبر من نفعها، وأيها تستحق أن تحبس في بطون الكتب ولا يطلع عليها إلا آحاد من الناس، وهل يملك الشيخ القرضاوي إلا أن يسأل فيجيب، ويستفتى فيفتي؟ وقد أخذ الله على العلماء ميثاقا: {لتبيننه للناس ولا تكتمونه} [آل عمران:187]، وقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة".

فيا سعادة الأستاذ عبد اللطيف، الفتاوى التي ضررها على العامة أكثر من نفعها، هي الفتاوى التي يحابي فيها العالم السلطان أو يتبع فيها أهواء العامة، لا فتاوى الراسخين في العلم الحافظين لحدود الله.

تلك عشرة كاملة، والسلام.

مكتب فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي