بسم الله الرحمن الرحيم،  الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة، البشير النذير، والسراج المُنير، سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدين ... أما بعد،

 

أيها الإخوة العلماء أعضاء الاتحاد، أيها الإخوة الضيوف من خارج تركيا، أيها الإخوة الضيوف من داخل تركيا، أيتها الأخوات الفضليات. أُحييكم بتحية الإسلام، تحية من عند الله مباركة طيبة، فسلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

وأُرحب بكم في هذه الجمعية العامة، التي تنعقد بعد عامين من اجتماعنا التأسيسي في دبلن، الذي اتفقنا فيه على تأسيس هذا الاتحاد المبارك، الذي نرجو أن يكون قد أُسِّس على تقوى من الله ورضوان.

 

ومن فضل الله تعالى علينا أن ينعقد اجتماعنا هذه المرة داخل العالم الإسلامي، وفي بلد كان عاصمة الدولة الإسلامية التي قادت الأمة الإسلامية قرونًا، وحمتها من الاستعمار الغربي أربعة قرون.

وإنا لنرجو من وراء هذا الاجتماع خيرًا لهذا الاتحاد خاصة، ولأمتنا عامة.

أيها الإخوة والأخوات:

أعتقد أن اجتماعنا هذا أكثر تمثيلاً لمناطق الأمة المختلفة من اجتماعنا السابق، وقد كان تمثيل إفريقيا في شرقها وغربها ووسطها ضعيفًا، وها هو اليوم أفضل.

كما أن تمثيل المرأة في هذه الجمعية أقوى من سابقتها. وأملنا أن نرتقي من الحسن إلى الأحسن دائما. أمنية شاء الله لها أن تتحقق:

فيا أيها الإخوة من علماء الأمة:

كانت أمنية تُراود عقلي، وحلمًا تتطلَّع إليه نفسي، منذ أواسط الثمانينيات في القرن الماضي، ظهر عندي أول ما ظهر في صورة اتِّحاد للكتاب والمفكرين الإسلاميين، وأعلنتُ هذه الأمنية في ندوة (قضايا المستقبل الإسلامي) التي عقدت في الجزائر في سنة 1990م، وضمَّت عددًا من صفوة المفكرين الإسلاميين والموالين للاتجاه الإسلامي.

واستجاب الحضور لهذا النداء، وبدأ بعض الإخوة يعمل لإنشاء الإطار القانوني لهذا الاتحاد المنشود، ومنهم الأخ الكبير أ. د. توفيق الشَّاوي. حفظه الله.

ثم ما لبث أن تغيَّر حال الجزائر بالمحنة التي أصابتها في أوائل التسعينيات، وشُغِلْتُ عن هذا الأمر إلى حين، وسكت معي أيضا المتحمسون له.

ولكن ظلَّ الأمل مستيقظًا في نفسي، لم تخمد شعلته، وكنت أتحدث عنه مع كثير ممَّن حولي، فكان بعضهم يقول: إنها أمنية بعيدة المنال، والوقت لا يساعد على تحقيقها، ولكن لا مانع من تمنِّي البعيد، وإن لم يكن تحقيقه مرجوًا، كما قال الشاعر العربي قديما:

أُعلِّل بالمنى قلبي لعلِّــي أُروِّح بالأماني الهمَّ عنِّي

وأعلم أن وصلَك لا يرجَّى ولكن لا أقلَّ من التمنـِّي

وقال بعض الأصدقاء المخلصين: الفكرة جيدة، ولكن مخاطرها كثيرة وأعداؤها بالمرصاد، ولن يتركوك تقيم هذا البناء الشامخ!.

قلتُ: أما المخاطر، فإنها لا تخيف الرجال الذين باعوا أنفسهم لله، وهل تستطيع قوة في الأرض أن تنقص من عمرك لحظة، أو تنقص من رزقك لقمة؟ إن أصحاب الإيمان لا يهابون المخاطر لأن لهم إحدى الحسنيين لا محالة.

وقد كنا نحفظ في صبانا من شعر صفي الدين الحلي:

لا يمتطي المجد مَن لم يركب الخطرا ولا ينال العلا مَن قدَّم الحـذرا

لا بدَّ للشهـد من نحل يُمَـنِّعـه لا يجتني النفع مَن لم يحمل الضررا

قال: ستحاربكم القوى الأجنبية، وستقف في سبيلكم الحكومات المحلية، وستستعين عليكم بإخوانكم ممَّن يسمونهم (علماء السلطان)، ولن يسمحوا لكم أن تعقدوا مؤتمركم في أي بلد إسلامي.

قلتُ: إننا لا ندعو إلى صدام مع القوى الأجنبية، ولا مع الحكومات المحلية، بل ندعو إلى تجميع قوى الأمة كلها للبناء لا الهدم، وللجمع لا للتفريق، ندعو إلى المصالحة العامة بين القوى المتصارعة داخل الأمة، مُعلمين الجميع أن الخير في التسامح لا في التعصُّب، وفي الحب لا البغض، وفي الحوار لا في الصدام. وإذا ضاقت بلاد الإسلام، فأرض الله واسعة.

ثم قلتُ لصاحبي: أما أنا فأملي كبير جدا، أن يقوم هذا الاتحاد قريبًا إن شاء الله. وبواعث أملي تتمثل في أمور:

أولا: أننا لا ندعو إلى مُحْدَث أو بدعة، بل ندعو إلى ما أمر به القرآن والسنة، وهو الاتِّحاد: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران:103]، (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) [المائدة:2]، "يد الله مع الجماعة، "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا".

ثانيا: أن العالم كله يتوحَّد ويتقارب، فلماذا يظل المسلمون وحدهم يختلفون ويتباعدون؟ وكيف نطمع أن يتحد المسلمون ويأتلفوا، وعلماؤهم لا تربطهم رابطة، ولا يضمُّ شملهم كِيان؟.

ثالثا: أن النصارى أمست لهم كِيانات عالمية قوية تجمع بينهم؛ فالكاثوليك في أنحاء العالم يجمعهم الفاتيكان والبابا... والبروتستانت يجمعهم مجلس الكنائس العالمي... والأرثوذكس لهم قياداتهم ومراجعهم... فلماذا يظل المسلمون وحدهم ولا كِيان يجمع شتاتهم؟.

رابعا: أن حال الدول والأقطار الإسلامية اليوم تستوجب من العلماء: أن تكون لهم مواقفهم المُعلنة للأمة، بل غدت الأمة نفسها كلما وقعت واقعة وحلت كارثة: تقول الجماهير والشعوب: أين العلماء؟ أين دور العلماء الذين أخذ الله عليهم الميثاق أن يُبيِّنوا ولا يكتموا؟.

خامسا: أن الصحوة الإسلامية المعاصرة التي أيقظت العقول والأفكار، وأيقظت القلوب والمشاعر، وأيقظت العزائم والهمم، ودفعت إلى السلوك والالتزام، وجدَّدت الغَيْرَة والدعوة، هذه الصحوة قد هيأت الأسباب للعلماء ليقوموا بدورهم، وحينما يبدءون انطلاقتهم سيجدون الملايين من أبناء الأمة يشدُّون أزرهم، ويسندون ظهرهم.

قوة العلماء

أيها الإخوة أعضاء الاتحاد:

إن العالِم - وإن كان فردا- يُمثِّل قوة في ذاته، قوة بعلمه، فإن العلم قوة لصاحبه، يشدُّ عضده في مقاومة الجهل والرذيلة والفساد.

وقوة بإيمانه، فقوة الإيمان تُزحزح الجبال، وتصنع ما يشبه المعجزات. وقوة بتأييد الشعب له، ووقوف الجماهير من خلفه.

ولقد رأينا أفرادًا من العلماء قادوا نهضات، وأحيَوا أُمما، وجدَّدوا رسالات، بما كان في صدورهم من علم، وما أثمر علمهم من عمل، وما صاحب عملهم من إخلاص، وما دعم هذا الإخلاص من صدق الإيمان، الذي جعلهم في رسوخ الجبال، وسطوع النجوم، كما قال الحكيم: فرد ذو همة يُحيي أمة. وقال الراجز:

والناسُ ألفٌ منهمو كواحدٍ وواحدٌ كالألفِ إن أمرٌ عَنَا

إن العالِم المُعتز بعلمه ودينه ورسالته يواجه الدنيا بقلب لا يعرف الخوف إلا من الله، ولا الطمع إلا في فضل الله، ولا الخنوع إلا لعظمة الله، يقول ما قال الإمام الشافعي:

أنا إن عشتُ لستُ أعدم قوتًا وإذا متُ لستُ أعدم قبـرًا

همَّتي همَّة الملوك ونفسـي نفسُ حرٍّ ترى المذلة كفرًا

والإمام أحمد الذي ضرب المثل في الصبر على السجن والأذى والتعذيب، ليتنازل عن رأيه، وهو شامخ كالطود، يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق. ولم يزل صابرًا مصابرًا حتى انكشفت المحنة، وزالت الفتنة، وانفرجت الغمة.

والإمام عز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء الذي أصرَّ على أن يبيع أمراء المماليك، ويأخذ ثمنهم ليدفعه إلى بيت المال، والذي وقف في حرب التتار، وفي معركة عين جالوت، موقفا أعزَّ الله به المؤمنين، وكان من أسباب النصر على عدوهم.

وشيخ الإسلام ابن تيمية، الذي شارك بنفسه في الجهاد ضدَّ التتار، والذي حارب الزيغ في العقائد، والبدع في العبادات، والفساد في الحُكَّام.

وفي عصرنا رأينا العلماء يقودون حركات التحرير، وحركات النهوض في الأمة، ابتداء من الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية، ومحمد المهدي في السودان، والأمير عبد القادر في الجزائر، والسنوسي في ليبيا، والأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، وعبد الحميد بن باديس، وحسن البنا، والسباعي، وعز الدين القسَّام، وابن الحسيني، والمودودي، والندوي وغيرهم، ممَّن قضى نحبه وممَّن ينتظر، وما بدلوا تبديلا.

هذا دَوْر العلماء الربانين المجاهدين أفرادًا، فكيف إذا اتَّحد العلماء، أي إذا اتَّحدت هذه القوى المُفردة وصارت كِيانًا واحدًا، إن الرسول الكريم صوَّر قوتها بقوله: "إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" وشبك بين أصابعه.

أيها الإخوة أعضاء الاتحاد:

إن العلماء هم ورثة الأنبياء، ورِثوا عنهم علم النبوة، ووظيفتهم في هداية الخَلق إلى الحق، والأخذ بأيدي الناس إلى الله، وحشدهم صفوفًا صفوفًا في ساحة الربانية، ومساعدتهم على تزكية أنفسهم، ومحاربة شهواتهم، وتطهير قلوبهم من رذائل النفاق، وخصال الكفار: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) [البقرة:27].

العلماء هم أطباء المجتمعات إذا مرضت، والأمم إذا أصابها الوَهْن، فلا يجوز للأطباء أن يتخلوا عن مرضاهم، ويعيشوا لأنفسهم.

وقد جاء في المأثور عن سلفنا: صنفان من الأمة إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء. وقد رفعه بعضهم على أنه حديث، وما هو بحديث، ولكن معناه صحيح.

بل إن فساد العالِم أشدُّ خطرًا من فساد الحاكم؛ لأن الحاكم إذا فسد لجأ الناس إلى العالِم، ليعلِّمهم ما جهلوا، ويقوِّم سلوكهم إذا مالوا. ولكن إذا فسد العالِم لم يبقَ للناس ما يرجعون إليه، ولهذا قال الشاعر قديمًا:

يا أيها العلماء يا مِلحَ البلـد ما يُصلح المِلحَ إذا المِلحُ فسد؟

ويقول الآخر:

بالمِلح يُصلح ما يُخشى تغيُّره فكيف بالمِلح إن حلَّت به الغِيَر؟

وظهور اتحادنا يعني: أن العلماء قد قرَّروا ألا يتخلُّوا عن مُهمتهم في قيادة الأمة إلى الهُدى ودين الحق، وأن يبصِّروها بالواجب عليها، وأن يَذُودوا عنها كل ما يؤذيها ويعوِّق طريقها إلى البناء والتقدُّم والاتحاد، في ظل الإسلام، وتحت راية القرآن.

الإسلام في قفص الاتهام

وزاد الحاجة إلى إقامة الاتحاد: ما يتعرَّض له الإسلام اليوم وأمته من مِحن ومظالم، وفي مقدمتها: أن الإسلام أصبح موضوعًا في قفص الاتهام، والذي وضعه في هذا أمريكا ومن دار في فلكها من دول الغرب.

فالإسلام متَّهم بالعنف، والإسلام متَّهم بالإرهاب، والإسلام متَّهم باضطهاد الأقليات، والإسلام متَّهم بظلم المرأة، والإسلام متَّهم بكبت الحريات، والإسلام متَّهم برَفْض الديمقراطية.

والإسلام متَّهم بكثير من خصال السوء، وعلى الإسلام أن يدافع عن نفسه، أو يوكِّل مَن يدافع عنه ليُبرِّئ ساحته!! وأنتم -أيها العلماء- الوحيدون الموكَّلون من الله تعالى للدفاع عن دينه، فقد قال تعالى: (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) [الأنعام:89].

وقال: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [لأعراف:181].

وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين، حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون".

أنتم -أيها العلماء- وكلاء الله تعالى للدفاع عن دينه وعن نبيه وعن قرآنه، وعن حضارته، وعن أمته المُعتدَى عليها.

الاتحاد وقضايا الأمة

أيها الإخوة العلماء:

لقد كان اتحادكم حاضرًا في كل قضايا الأمة الكبيرة، يرصدها ويراقبها، ويجتهد أن يقول فيها كلمة تعبِّر عن ضمير الأمة، وعن موقف الإسلام الحق، لا يخاف في الله لومة لائم، وكيف وقد جعل شعاره قوله تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ) [الأحزاب:39].

ومع هذا يَزِنُ الأمور بحكمة، ويواجه المواقف عن بيِّنة، ولا يرسل الكلام على عواهنه، فللِّين موضعه، وللشِّدة موضعها.

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مُضرٌ كوضع السيف في موضع الندى

لقد كان مع قضية فلسطين دائمًا وأبدًا، لا يُغفلها في أي بيان من بيانات مجلس أمنائه، فهي قضية الأمة الأولى، ومأساتها الكبرى، وعلى الأمة أن تقوم بواجبها نحوها، كما هو حكم الشريعة الإسلامية: إذا احتُلَّتْ أرض إسلامية من قِبَل الكفار، وعجز أهلها عن تحريرها واستردادها، انتقلت فرضية الجهاد إلى مَن يليهم، ثم مََن يليهم حتى يشمل الأمة كافة. فكيف إذا كانت هذه الأرض هي مَسْرَى رسول الله، وأرض المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله؟.

ولقد اضطرتنا سوء الأوضاع في أرض النبوات! أرض الإسراء والمعراج، ولا سيما بعد فوز حركة حماس، وتآمر العالم عليها، مع ما نرى ونلمس من الخلاف الفلسطيني، والعجز العربي، والوَهْن الإسلامي، والخذلان الأوربي، والغياب العالمي، والتجبُّر الصهيوني، والتفرُّد الأمريكي... اضطرنا هذا كله إلى أن نعقد مؤتمرًا بالدوحة عاصمة قطر، سميناه: ملتقى علماء المسلمين لنصرة شعب فلسطين، دعونا إليه حوالي أربعين عالمًا من فقهاء المسلمين، مع مُمثِّلين للفصائل الفلسطينية: حماس، والجهاد، والجبهة الشعبية، والجبهة الشعبية القيادة العامة، ليلتقوا مع العلماء وجهًا لوجه، ويتفقوا على كلمة سواء.

وكنا حريصين أشدَّ الحرص على أن تُشارك منظمة (فتح) في الملتقى، وكلَّفنا الأخ خالد مشعل بالاتصال بهم، وحاولت أنا شخصيًا الاتصال بعدد من قادتهم، ولكنهم جميعًا اعتذروا لظروف عندهم.

وقد بقينا نحو ثلاثة أيام في دراسة وحوار بين العلماء والفصائل، وانتهينا بإصدار بيان ألقاه الأمين العام للاتحاد، وضعنا فيه النقاط على الحروف، ودعونا الجميع -باسم الإسلام- إلى أن يَدَعُوا الفُرقة إلى الاتحاد، وأن يجعلوا الوطن فوق المنظمات والهيئات، وأن يواجهوا الموقف الخطير بجبهة واحدة مُتراصَّة، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) [الصف:4].

كما أكَّدنا الفتوى التي أصدرها رئيس الاتحاد، وأكدها مجلس أمنائه، بوجوب تقديم العون المادي العاجل للإخوة في فلسطين: من الزكاة، وهم يستحقونها بأكثر من وجه، ويجوز تعجيلها لتفريج كربتهم، ومن الصدقات التطوعية، ومن ريع الأوقاف، ومن وصايا الأموات، حتى من الأموال التي شابها الشوائب، فهي حرام على كاسبها، حلال لفلسطين.

ومثل قضية فلسطين: قضية العراق التي أمست تُمثل جرحًا آخر غائرًا في جسم الأمة، ينزف دمًا وصديدًا، وغدونا نُمسي ونُصبح على دماء تُسفك، وأرواح تُزهق، وحرمات تُنتهك، كل ذلك بسب الاحتلال الأمريكي الذي دخل العراق لعلل واهية، وأكاذيب مُلفَّقة، فقد أثبت الواقع: أنه لا يوجد شيء ممَّا سَمَّوه أسلحة الدمار الشامل، ولم يعثر لها على أثر.

كان المقصود هو تدمير قوة الشعب العراقي، العسكرية والاقتصادية والحضارية، حتى أن متاحفه وآثاره عُرِّضت عمدًا للسلب والنهب والتخريب. وذلك ليُبقي (إسرائيل) وحدها هي القوة الوحيدة المُسيطرة في المنطقة، إضافة إلى الاستيلاء على ثروة هذا الشعب النفطية.

وأخطر ما أصاب الشعب العراقي هو تمزيق وَحدته، التي عاشها زمنا متطاولاً، فإذا هم يكيدون كيدهم، لإشعال نار فتنة مذهبية طائفية لا تُبقي ولا تَذر، وقد بدت نُذُرها بالبصرة وغيرها، ولا يدري إلا الله إلامَ تصير عواقبها.

وقد ندَّد الاتحاد ورئيسه ومجلس أمنائه بهذه الفتنة الخطيرة، ودعا إلى المُسارعة بإطفائها، وتفويت الفرصة على أعداء الأمة، وأن إهمالها ينذر بحرب أهلية مُدمرة لا يستفيد منها سني ولا شيعي، بل المستفيد الوحيد منها هو أمريكا وربيبتها إسرائيل.

وقد دعوت أكثر من مرة: إخواننا من آيات الله العظمى، والمراجع الدينية الشيعية أن تقول كلمتها، وتصدر فتاواها الصريحة في تحريم دم المسلم على المسلم، وإن لم أر الاستجابة الواضحة لذلك إلا من قليل منهم.

ولقد كان اتحادكم يتابع ما يجري في العراق الشقيقة، وخصوصًا كلما حدث حادث ذو بال، كحادث مرقدي الإمامين العسكرين، وحوادث النجف وكربلاء، وأحداث إحراق المساجد، وقتل الأئمة وخطفهم. وقد أصدر الاتحاد فتوى مطولة في قضية الخطف، ولا سيما خطف المدنيين. وقد استنكرنا باستمرار خطف الذين لا يحاربون، ولا يساعدون المحاربين.

ولقد كان الاتحاد ورئيسه ملاذ الوزراء والسفراء من البلاد التي خُطف منها بعض مواطنيها في العراق، وكانوا يلجئون إلى رئيس الاتحاد، يلتمسون منه المساعدة في فكِّ أَسْر هؤلاء المُختطَفين.

وقد لجأ إليَّ سفير إندونيسيا، وسفير اليابان، وسفير نيبال، وسفير إيطاليا، وسفير فرنسا، وغيرهم.

بل حرص وزير خارجية فرنسا ميشيل برنيه على أن يلقاني في القاهرة، وكان مستعدًا أن يزورني في بيتي لولا الاعتبارات الأمنية، فلقيني في أحد الفنادق، وبقي معي حوالي ساعة، صارحته فيها بموقفنا من سياسة فرنسا، وأننا -إلى حدٍّ كبير- مع فرنسا في سياستها الخارجية، التي تحاول أن تتحرَّر فيها من تبعية أمريكا، ولكننا نتحفظ على سياستها الداخلية بخصوص المسلمين فيها، والتضييق عليهم فيما هو من شئون دينهم، كقضية الحجاب.

وقد وعدته بإرسال نداء من أجل المخطوفين الفرنسيين، وتحدثت إلى قناة الجزيرة في ذلك، وانتهى الأمر بالإفراج عنهما.

وقد أرسل لي الوزير رسالة شكر وتقدير.

كما زارني وزير الخارجية الإيطالي في بيتي في قطر، للسبب نفسه، وانتهى الأمر بالإفراج عن المخطوفين، وبإرسال رسالة شكر إلى رئيس الاتحاد.

وفي قضية دارفور التي نشأت في السودان بعد أن حلَّ مشكلة الجنوب، لتُدخلَه في مأزق جديد، وفي مشكلة تجعل المسلمين يواجه بعضهم بعضًا بإثارة نعرات قَبَلِية، ونزعات عصبية، يبرأ منها الإسلام، وأهل دارفور هم حفَّاظ القرآن، ومعلمو أبناء السودان، فهم عرب بحكم لسانهم، ومن تكلَّم العربية فهو عربي.

وقد سارع الاتحاد بإرسال وفد من رئيسه والأمين العام (د. العوَّا) والمستشار فيصل مولوي ود. علي القرة داغي، عضوي المكتب التنفيذي، وبقي الوفد هناك عدة أيام لقي فيها عددًا من القيادات المُمثلة للاتجاهات المختلفة في الخرطوم، واستمع إليهم وناقشهم، ثم ذهب إلى مدينة (الفاشر) عاصمة دارفور، ولقي عددًا من أهل المدينة ممَّن تمكن أن يلتقي بهم؛ إذ المقاتلون من الفريقين يصعب على الوفد أن يلتقي بهم.

وزار الوفد المخيمات التي يعيش فيها اللاجئون، والتي تقوم الجمعيات الغربية بالدور الأكبر لإعانتهم، ولم نجد إلا عددًا محدودًا من العرب والمسلمين، وقد التقى الوفد بعدد من اللاجئين أنفسهم، وتحدث معهم.

وبعد ذلك أصدر الوفد تقريره المفصل عن القضية، متضمنًا توصياته، ومقترحاته لحلِّ المشكلة.

وكان للاتحاد فضل المبادرة بإرسال أول وفد على مستوى عالٍ للإسهام في إصلاح ذات البين.

وإن كانت الأمور جرت على غير ما كنا نحب، وقد قال الشاعر:

وعليَّ أن أسعى وليس عليَّ إدراك النجـاح

الرسوم المسيئة إلى الرسول

وكان من المواقف التي أثبت الاتحاد فيها وجوده: الموقف من الرسوم الكاريكاتيرية التي نشرتها الصحيفة الدانماركية (يولاندز بوسطن)، وكان فيها إساءة بالغة مستفِزَّة، إلى نبي الأمة وحبيبها وأسوتها ومعلمها صلى الله عليه وسلم، ولم يكن هناك داعٍ ولا مُبرِّر لنشر هذه الرسوم، ولكن الصحيفة أصرَّت على الدعوة إليها، ونشرته مُتحدِّية المسلمين على أرضها، والمسلمين في أنحاء العالم، وأَبَتْ أن تعتذر، وأَبَى رئيس وزرائها أن يقابل أكثر من عشرين سفيرًا لبلاد إسلامية طلبوا مقابلته، فلم يرضَ أن يقول لهم كلمة اعتذار واحدة.

وأكثر من ذلك: أن الصحيفة علَّقت على هذه الرسوم وعلى لسان رئيس تحريرها تعليقًا اعتبر فيه تعظيم المسلمين نبيهم ضربًا من الهُراء الكامن وراء جنون العظمة، ودعا إلى كشف ما أسماه (التاريخ المظلم) لنبي الإسلام، وتقديمه إلى الرأي العام في صورته الحقيقية التي عبَّرت عنها الرسوم المنشورة!.

لقد أصدر الاتحاد أكثر من بيان مستنكرًا هذه الإساءة المُتعمَّدة، والمُهينة لأمة الإسلام، ودعا الأمة أن تُظهِر غضبها واستنكارها لهذا الحدث، بغير تهوُّر ولا اعتداء على أشخاص، ولا أملاك، وخصوصًا الكنائس. وركَّز على المقاطعة للبضائع الدانماركية، فالدانمارك هي التي سنَّت السُّنَّة السيئة -وإن تبعها آخرون- فعليها وِزرها ووِزر من اتَّبعها.

وطلب الاتحاد أن يكون يوم (جمعة) حدَّده، ليكون يوم الغضب لرسول الله، فاستجاب أبناء الأمة في المشارق والمغارب، لنداء الاتحاد.

وتُوِّج هذا النشاط بمؤتمر البحرين الذي اشترك فيه الاتحاد مع مؤسسة الإسلام اليوم، والندوة العالمية للشباب الإسلامي، وجمعية الأصالة في البحرين، واللجنة العليا لنُصرة خاتم الأنبياء، وكان مؤتمرًا عالميًا كبيرًا، أُسندت رئاسته إلى رئيس الاتحاد، وأمانته العامة إلى الأخ العالِم الداعية الشيخ سلمان العودة، وحضره ممثلون من قارات الدنيا، وصدر عنه توصيات وقرارات مهمة، منها:

إنشاء (المنظمة العالمية لنُصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم) لتكون هي الإطار الجامع والمُنظم لاستمرار المؤتمر وتواصل أعماله. ويتبع المنظمة بصفة أولية أربعة مكاتب هي: مكتب النصرة الاقتصادية، والقانونية والتنسيق والاتصالات، والإعلام.

إنشاء (الصندوق العالمي لنُصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم) التابع للمنظمة، لتمويل مشروعاتها وأنشطتها.

يستنكر المؤتمر الإساءة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عموما؛ بأي صورة ومن أي جهة وفي أي بلد، كما يُدين المؤتمر ردود الأفعال المخطئة التي تمثلت في حرق بعض دور العبادة والمنشآت لخروجها عن هدي الإسلام.

يوصي المؤتمر وزارات التربية والتعليم في العالم الإسلامي بوضع منهج للسيرة النبوية الشريفة يدرَّس في مراحل التعليم المختلفة، لغرس محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قلوب الطلاب، والتربية على اتِّباعه والتأسي به من خلال تعريفهم بسيرته العطرة.

 

الاتحاد ووَحدة الأمة

أيها الإخوة من علماء الأمة:

إننا نؤمن بأن الإسلام يقوم على دعامتين رئيستين:

الأولى: توحيد الله عز وجل، الذي هو جوهر الإسلام، والذي دعا رسل الله جميعا إليه أقوامهم، فكان النداء الأول في كل رسالة: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف:59].

وقد فصَّلت سورة التوحيد -سورة الأنعام- مقومات هذا التوحيد، وهي: ألا نبغي غير الله ربًا، ولا نتخذ غير الله وليًا، ولا نبتغي غير الله حكمًا.

وهذا التوحيد هو أساس تحرير البشر من العبودبة للطبيعة، أو للحيوانات، أو للأفلاك، أو للحجر، أو للبشر. وهذا هو الأساس الحقيقي لغرس مبادئ الحرية والإخاء والمساواة بين بني البشر. ولهذا كان نبينا يختم رسائله إلى أهل الكتاب بقوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران:64].

والدعامة الثانية: توحيد الأمة، فقد وحَّدت بينها: العقيدة، والعبادة، والأخلاق، والآداب، والتشريعات، والقبلة الواحدة؛ فهي تؤمن برب واحد، ورسول واحد، وكتاب واحد، ومنهج واحد هو صراط الله المستقيم، الذي تجتمع عليه إذا افترقت، وتتوحَّد تحت رايته إذا اختلفت، كما قال تعالى: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام:153].

إنها أمة الإسلام، أمة القرآن، أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وهي أمة (مَجْعُولَة) أي لم تنشأ من نفسها، إنما جعلها جاعل، وقصد إلى إيجادها قاصد، هو الله عز وجل: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة:143].

وهي الأمة المُفضَّلة على الأمم، لا بسبب جنسها ولا بسبب إقليمها، ولا بغير ذلك من الأسباب المادية، بل فضَّلها الله تعالى بسبب رسالتها وعقيدتها، بأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، وإيمانها بالله، كما قال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) [آل عمران:110].

وهي الأمة التي قال الله تعالى عنها: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء:92]، وقال: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [المؤمنون:52]، وكأنما تشير الآيتان الكريمتان إلى أن العبادة لا تتمُّ، والتقوى لا تكتمل إلى بوَحدة الأمة.