د. عمرو عبد الكريم

ثلاثة أيام مباركة طيبة قضيناها في قطر في صحبة شيخنا العلامة القرضاوي، ثلاثة أيام عامرة بالعلم والعمل الصالح نسأل الله قبولها وأن تثقل موازين حسناتنا يوم القيامة. كان مؤتمرا حاشدا ذلك الملتقى الذي جمع تلاميذ الشيخ وأصحابه، وكنت أذوب خجلا حينما يقول الشيخ راشد الغنوشي - وهو من هو علما وبذلا وجهادا وتضحية – نحمد الله أن حظينا بشرف التلمذة على الإمام القرضاوي.

كان الملتقى عبارة عن تجمع علمي يقوده الدكتور عصام البشير الأمين العام للمركز العالمي للوسطية بالكويت ورئيس اللجنة المنظمة لملتقى الإمام القرضاوي مع التلاميذ والأصحاب. ملتقى أمّه شباب وشيوخ ورجال ونساء من قارات الدنيا الست، من كل حدب وصوب جاءوا حبا وتقديرا للعلامة القرضاوي وهم من شهور يعدون أبحاثا تناقش فكر الشيخ ومظاهر جهوده التجديدية في مختلف علوم الشريعة وأثره البالغ على الصحوة الإسلامية في مختلف أرجاء الدنيا: من مصر حضر- مع حفظ الألقاب- نصر عارف، أبو العلا ماضي، هبة رؤوف ومن فلسطين كان بشير موسى نافع ومنير شفيق، ومن السعودية علي بادحدح، ومن المغرب أبو زيد الإدريسي، خديجة مفيد، بسيمة حقاوي، ومن الجزائر وسيلة خلفي، محند صايب ومن لبنان الشيخ فيصل مولوي، ومن ليبيا حمزة أبو فارس ومن تونس راشد الغنوشي، ومن اليمن د. عبدالوهاب الديلمي ومن الكويت خالد المذكور ومن الإمارات سعيد حارب الشيخ نظام يعقوبي ، ومن البحرين خالد السعد ومن سوريا عبد الستار أبوغدة ومن أندونيسيا محمد نور هداية ومن ألمانيا بتينا جريف ومن بريطانيا سالم الشيخي ومن كندا جمال بدوي ومن باكستان عبد الغفار عزيز ومن الهند الشيخ سلمان الندوي ومن فرنسا عبد المجيد النجار، ولو استقصيت أسماء الحضور ومن شاركوا بأبحاث لما كفت أضعاف المساحة المخصصة لتلك المقالة، رغم أن الملتقى يكاد يكون مغلقا على تلك الصفوة المختارة من تلاميذ الشيخ وأصحابه الذين عاشوا معه سنوات طويلة.

مزيـد من التواصل

وكان هدف الملتقى كما يقول الدكتور عصام البشير: مزيـد من التواصل الشخصي والعلمي بين الشيخ الإمام وتلاميذه حَمَلة الفكر الوسطي عبر العالم؛ لتعميق الاستفادة من منهج الوسطية الذي يدعو إليه الشيخ ويتبناه منذ عقود، والذي يمثل مشروعاً حضاريًّا وتجربـة علمية فكريـة، لها سماتها المتميزة.وعلى مدار ثلاثة أيام كان الشيخ القرضاوي حاضراً كل جلسات المؤتمر ومعقباً على كل أوراقه وأبحاثه، جهدا أرهقنا نحن الشباب وكثيراً ما كنت أشفق على الشيخ ولكنها بركة العمر والعافية حفظها في الصغر فحفظها الله عليه في الكبر – نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحد والله حسيبه-.

في افتتاح المؤتمر بكيت بكاء مكلوما تأثرا بكلمة الشيخ، كنت أبكي على استحياء، مخافة أن يراني أحد ثم اكتشفت أن أغلب من في القاعة بكوا حينما تحشرج صوت الشيخ بالبكاء وهو يقول:"أخشى أن تذهب المدائح بثلثي أجري ولا يبقى لي إلا الثلث". وذلك حينما ذكر الحديث إن الغازية إذا غزت ذهب النصر بثلثي أجرها، ويقول أخشى أن تذهب هذه المدائح بثلثي أجري والثلث الباقي ليس خالصا فكيف حالي إذا.

وبتواضع العلماء، يقول: إن التكريمات والمدائح والثناءات التي سمعتها لا تخدعني عن حقيقة نفسي التي أعرفها أكثر من غيري:" أنا أعرف نفسي بضعفها وتفريطها وتقصيرها أكثر من معرفة غيري لها".والشيخ دائما ما يردد حكمة ابن عطاء الله السكندري: الناس يمدحونك بما يظنونه فيك، فكن أنت ذامّا لنفسك لما تعلمه منها ... أجهل الناس من يترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس وأكمل: إن الله سترني بستره الجميل ومن فضل الله أنه يستر على عباده ولم يجعل لمعاصيهم رائحة يشمها الناس".

ورفض الشيخ القرضاوي تسميته "بالإمام" كما وصفه معظم المتحدثين وقال:" أنا والله لست قائدا ولا إماما أنا جندي من جنود الإسلام، وتلميذ وسأظل تلميذا أطلب العلم حتى آخر لحظة في عمري".

وأكد الشيخ على نعم الله عليه وقال: "أعيش في نعم لا تعد ولا تحصى منذ ولدتني أمي وحتى اليوم، لو سجدت على الجمر وصمت الدهر وقمت الليل والنهار ما وفيت ربي نصف معشار ما هو مطلوب منى في حق الله عز وجل"، وعبر الشيخ عن سعادته بمن احتفوا به من تلاميذه وطلب من إخوانه وتلاميذه ومحبيه أن يسامحوه فيما قصر فيه تجاههم أو فيما بدر منه من إساءة نحوهم وقال : "سامحتكم فيما بدر منكم في حقي فسامحوني فيما بدر منى في حقكم"، وختم العلامة القرضاوي كلمته راجيا من تلاميذه وأصحابه الدعاء له بحسن الخاتمة متمنيا أن يختم الله له بالشهادة في سبيل الله وأن يفارق الدنيا شهيدا.

العلامة القرضاوي ملء الدنيا وشغل الناس، علما وعملا، قولا واجتهادا، بذلا وعطاء نسأل الله أن يجعله في ميزان حسناته وأن يتقبل جهده وجهاده ويختم لها بالشهادة على يد أعداء الله كما أوصانا وطلب منا. كان المسيطر على عقلي طوال جلسات المؤتمر أن هذه الأمة ولادة لا تفتأ تقدم العلماء والمجددين والمصلحين على مدار تاريخها الطويل، وأن أمة بمثل هذه السمات قد تغفو وقد يغلبها النعاس لكنها أبدا لن تموت، ورغم ما تمر به الأمة الإسلامية من لحظات حالكة السواد في تاريخها إلا أن أشد ساعات الليل سوادا هي تلك الساعات التي تسبق بزوغ الفجر، فسعى الله أن يأذن بشروق شمس تلك الأمة من جديد، وأن يبزغ فجرها بعد أن طال الليل عليها، ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا.

لم نتعلق نحن تلاميذ العلامة القرضاوي بشخصه - رغم عظم حبنا له وأنه أغلى علينا من أنفسنا ومن أولادنا ومن الناس أجمعين - لكننا تعلقنا المنهج الذي يحمله ويزود عن حياضه ويدع له ويتمثله فكر وسلوكا، عملا وقولا. ذلك المنهج الذي يحمله وراث النبوة، مصداقا لقول الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله فينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين. فتعلقت قلوبنا بالشيخ حبا له وإكبارا لما يحمله من علم ولما يمثله من منهج وسطي، هو الصراط المستقيم وحبل الله المتين، نموذجا إسلاميا خالصا قابل للتكرار والحياة، يحل مشكلات الناس وييسر عليهم التزامهم شرع الله، فيتفيئوا ظلاله من هجير كلا التطرفين: التطرف الديني والتطرف اللاديني "العلماني" ، هذا المنهج الوسطي الذي يمثله العلامة القرضاوي هو أحوج ما تكون له أمتنا.

حافظة المحدث ودقة الفقيه

وعلى مدار أربعة عشر عاما هي عمر علاقتي المباشرة بشيخنا الكريم وقربي منه منذ أن قدم لي أول كتبي عام 1994 – وأنعم به من شرف - ويتملكني إحساس أن الشيخ يوسف نسيج وحده، وانه ليس مجرد عالم جمع الله له مختلف العلوم، أو كما يقول عنه الدكتور محمد عمارة أنه: جمع بين حافظة المحدث ودقة الفقيه. ولكنها" اللوعة" تلك الكلمة التي قالها للشيخ أحد المتصوفة الجزائريين الكبار وهذه اللوعة أمر اختص الله به الندرة من عباده.

كان بحثي عن جهود الشيخ القرضاوي في مواجهة تيارات العنف وكيف حمت تلك الجهود المباركة ألاف مؤلفة من الشباب أن يصطلوا بنار العنف التي شهدتها أغلب دول ومجتمعات العالم الإسلامي، وكيف أنه بعد أكثر من ربع قرن يعود من مارس العنف وهز استقرار مجتمعاته إلى علم الشيخ وفتاويه، وينقل من كتبه بعد أن كان يقاطعها وينصح الشباب ألا يقرؤها.

كنت في بحثي حريصا أن أثبت أن الشيخ يفرق بين العنف المذموم وهو حمل السلاح بوجه نظم لم نر منها كفرا بواحا عندنا فيه من الله برها وبين المقاومة المشروعة وهي مقاومة المحتل الغاصب، وأن العمليات الاستشهادية هي أعلى أنواع الجهاد في سبيل الله وكان في نفس الجلسة التي ألقيت فيها بحثي الأخ المجاهد خالد مشعل، وأكد على أن تلك التفرقة التي نادى بها الشيخ وقررها في فتاويه وكتبه كانت خير إسناد للفلسطينيين في جهادهم ضد العدو الصهيوني الغاصب.اللهم بارك في عمر شيخنا العلامة القرضاوي وتقبل جهد وجهاده واقبل اللهم دعواته لنا.

..........

* عن موقع المصريون، 23-7-2007