خطب الشيخ القرضاوي.. الجزء السابع
بسم الله الرحمن الرحيم
تصدير
الحمد لله كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما شاء ربنا من شيء بعد، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة للعالمين، والنعمة المسداة للمؤمنين، سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد ...
فهذا هو الجزء السابع من ديوان خطبي، وهو يتميز بخصوصيتين عن غيره من الأجزاء الماضية:
أولاهما: أن معظم خطبه من «القديم» أي ليس من خطب مسجد عمر بن الخطاب بالدوحة، ولا غيره من مساجد قطر، بل هي خطب قديمة جٌلها ألقي في مسجد «آل طه» بالمحلة الكبرى، الذي بدأ الخطابة فيه وأنا طالب بكلية أصول الدين بالأزهر الشريف؛ وكان ذلك سنة 1951، وظللت أعتلي منبره حتى صيف سنة 1954م، حين تخطفتنا «كلاب الصيد» وألقت بنا في السجن الحربي، ولم أعد بعدها إلى هذا المسجد.
كنت ألقي خطبتي ارتجالًا، كما هي عادتي منذ اعتليت المنبر، وأنا ابن سبعة عشر عامًا في قريتي وإلى اليوم، ولم يكن «التسجيل» قد عرف واشتهر في ذلك الوقت، فلا مطمع في أن توجد هذه الخطب مسجلة عن طريق الأجهزة المعروفة.
ولكن الله رزقني بـ «مسجل بشري» ممتاز، يسجل هذه الخطب بطريقته الخاصة، ويقدمها لي مكتوبة بعد ذلك، ذلكم هو الأخ الحبيب الأديب الشاعر الداعية الموفق، ابن المحلة، وابن الأزهر، وابن الدعوة: الأستاذ: محمد أحمد حوطر، الذي كان طالبًا في المعهد الديني الأزهري الثانوي بطنطا في ذلك الوقت، وكان قد آلى على نفسه أن يسجل هذه الخطب ويحفظها للمسلمين عامة، وللدعاة خاصة، حتى لا تضيع بعد إلقائها.
وكانت طريقته أن يحضر «كشكولًا» وعدة أقلام من الرصاص، يبريها له زميل مرافق، وهو يكتب أول الآية، ولا يكملها، وكذلك الأحاديث، ونصوص الحكم والأشعار وغيرها، وهو يكتب بسرعة عجيبة، وبخط لا يستطيع غيره أن يقرأه، بل هو لا يستطيع أن يقرأه إذا تركها لليوم التالي، ولذلك يجتهد أن «يبيضها» في نفس اليوم، وهو يذكر الكلمات والعبارات.
كان قد تكون من ذلك مجموعة من الخطب، اقترح علي بعض الأخوة أن أصدرها في ديوان سميته «نفحات الجمعة» ولكن الظروف الأمنية لم تسمح بصدوره. وكنت أحسب أن هذه الخطب كلها قد ضاعت فيما ضاع من أدبي وشعري وكتاباتي، في أتون المحن المتلاحقة التي أصابت الإخوان المسلمين في مصر.
ولكن شاء الله تعالى أن تظهر أشياء كانت خافية عني، تائهة في تلال الأوراق المختلفة التي أُعاني من البحث فيها، وذلك حين انتقالي من مسكن إلى آخر بالدوحة. فقد عثر سكرتيري العلمي بالدوحة الأخ الشيخ أكرم عبد الستار كساب، وهو يفتش مع بعض مساعديه في أضابيري وأوراقي القديم، على مجموعة من الخطب القديمة، مكتوبة بخط الأخ الحبيب محمد حوطر، أتم الله عليه العافية، وعجل له الشفاء من مرضه الذي أقعده منذ سنوات.
وأضيف إلى هذه الخطب المكتوبة بخط حوطر - خطبة أخرى، مكتوبة بخطي أذيعت من جامع الزمالك بالقاهرة، الذي كنت أخطب فيه، أواخر (سنة 1956م وسنة 1957) بعد العدوان الثلاثي على مصر، وكانت إذاعة القاهرة تذيع الخطبة من مسجد الزمالك كل عدة أشهر، وتطلب مني أن أكتبها، وأرسلها إليهم قبل أن تذاع، حتى يقرؤوها ويقرّوها. فوجد هذه الخطبة من خطب الزمالك، وهي عن جهاد الجزائر أيام حرب التحرير الجزائرية المباركة، وقد أريتها للأخوة في الجزائر عندما زرتهم قريبًا في «ملتقى الإمام البشير الإبراهيمي» فسروا بها كثيرًا، وقالوا: كأنك كنت تعايش الجهاد الجزائري لحظة بلحظة، واستأذنوني في أن ينشروها.
ولقد قرأ الأخ أكرم وإخوانه هذه الخطب القديمة وأعجبوا بها أيما إعجاب، وقالوا: من يقرأ تلك الخطب منذ خمسين سنة أو أكثر لا يجدها تختلف كثيرًا عن خطب اليوم، النهج هو النهج، والروح هي الروح، والأسلوب هو الأسلوب، وإن كانت خطب اليوم تمتاز بأفق أوسع، وعلم أغزر، وفكر أنضج، بحكم تراكم المعرفة والخبرة، وعمق التجربة، كما لوحظ أن الخطب القديمة كثيرًا ما يغلب عليها حماس الشباب، ورأوا أن تضاف إلى الخطب المنشورة في الأجزاء السابقة لما لها من دلالة تاريخية.
والخصوصية الثانية لهذه المجموعة: أنها لم تحظ بإعداد الأخ الفاضل الدكتور خالد السعد الذي تولى إعداد خطب الأجزاء الماضية، جزاه الله خيرًا، ولكن قام مقامه في هذا الجزء: ابننا المهذب، وتلميذنا النجيب، وأخونا الكريم: أكرم عبد الستار كساب، الذي علق على هذه المجموعة، ورقم آياتها، وخرج أحاديثها، وأعدها للنشر. فشكر الله له، وجزاه عني وعن المسلمين خيرًا.
ولا سيما أني في تلك المرحلة من حياتي؛ لم أكن متمكنًا من معرفة الحديث ونقده، من حيث التصحيح والتضعيف، وإنما اكتسبت هذه الخبرة بعد؛ ولذا وجد في هذه الخطب الحديث الضعيف والواهي، وكان جل اعتمادي على كتابين: «الترغيب والترهيب» للمنذري، قبل أن أنظر فيه بعد ذلك، وأحذف منه المنكر والواهي والضعيف، وأنتقي منه الصحيح والحسن، وأصدرت ذلك في «المنتقى من الترغيب والترهيب».
والكتاب الثاني، هو: أحاديث كتاب «الإحياء» للغزالي، قبل أن أنتبه إلى تخريج الحافظ العراقي لهذه الأحاديث لهذه الأحاديث انتباهًا كافيًا.
وقد أكملنا هذا الجزء، باختيار ثمانية خطب من الخطب الحديثة، ليكتمل العدد عشرين، وقد التزمنا منذ بداية نشر الخطب: أن يكون كل جزء يشتمل على عشرين خطبة.
وبهذا تميز هذا الجزء بالجمع بين يوسف القرضاوي ابن العشرين، ويوسف القرضاوي ابن السبعين.
أسأل الله تعالى أن ينفع بهذه الخطب قائلها، ومسجلها بقلمه، ومعدّها للنشر، وطابعها، وناشرها، وقارئها، وكل من أعان على الانتفاع بها، ووفق الجميع لما يحب ويرضى.
والحمد لله الذي هدانا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
الدوحة في: 16 جمادي الأولى 1426هـ
23 يونيو 2005م
الفقير إلى الله
يوسف القرضاوي