دروس في التفسير.. تفسير جزء عَمَّ
بسم الله الرحمن الرحيم
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا } (الكهف:1-5) .
وأزكى صلوات الله وتسليماته على من كان مرجعه القرآن، ونوره القرآن، وخلقه القرآن، محمد سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله الطييبن، ورضي الله عن صحابته أجمعين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(أما بعد)
فقد أكرمني الله تعالى -وهو أكرم الأكرمين- بصحبة كتابه منذ طفولتي المبكرة. فقد أتممت حفظه وتجويده، وأنا دون العاشرة، ومنذ ذلك الوقت، وأنا قرينه وملازمه، في كل مراحل حياتي: طفولتي وشبابي، ويفاعتي وكهولتي وشيخوختي، وكان هو مصدري الأول في توجهاتي وتوجيهاتي، ودروسي وخطبي، ومحاضراتي وكتبي ورسائلي، وبرامجي الإذاعية والتلفازية. منذ بدأت رحلتي في الدعوة إلى الله تعالى، وأنا طالب بالقسم الابتدائي بالأزهر الشريف: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت: 33) .
وقد حفظنا من أحاديث رسولنا الكريم، ما رواه عنه عثمان بن عفان: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه". رواه البخاري، وما روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله أهلين من الناس!" قالوا: من هم يا رسول الله ؟ قال: "أهل القرآن هم أهل الله وخاصته ". رواه أحمد وابن ماجه والحاكم.
وليس أحب إلى مثلي أن يكون من أهل القرآن، أهل الله وخاصته، وأن يكون القرآن شفيعًا له يوم القيامة. كما قال عليه الصلاة والسلام، فيما رواه عنه أبو أمامة الباهلي قال: " اقرءوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه" رواه مسلم.
وقد عُنيت بدراسة التفسير في المرحلة الثانوية، والمرحلة الجامعية بكلية أصول الدين، وكنت أحصل في الغالب على أعلى الدرجات، وكنت أدخل المسابقات التي تعقدها الكلية للطلاب في فترة الصيف، وفي الغالب كانت في جزء من القرآن، من تفسير المنار للعلامة رشيد رضا، وفي سنة كان في المنطق وموسوعاته، وقد كنت بحمد الله أول الفائزين في هذه المسابقات. لقد حفظت القرآن في كُتَّاب الشيخ حامد أبو زويل، أحد الكتاتيب الأربعة في قريتنا الكبيرة "صفط تراب".
وكان الشيخ حامد قارئا متقنا لكتاب الله، عفيف النفس، لا يذهب إلى المقابر مع بقية القراء كل يوم خميس، وكان محفظًا جيدًا، ومعلمًا حازمًا، وكان يدعو لي أن أكون عالما كبيرا، وكان أهلي وأقاربي، وأهل بلدتي بصفة عامة يعتبرونني "ابن القرآن" كما كنت أعتبر نفسي الابن الأول للقرآن. كنت أحسن حفظه، وأحسن تلاوته، فكان الناس من صغري يحبون تلاوتي، ومنذ انتسبت إلى الأزهر الشريف بالمعهد الديني في طنطا، وكان عمري أربعة عشر عاما. بدأ الناس يصرون على أن أصلي بهم إماما في بعض الصلوات، وخصوصا في فجر شهر رمضان، ولا سيما فجر الجمعة. وقد كنت أختم فيها سورة السجدة في الركعتين، وكانت تغلبني دموعي فابكي، ويبكي الناس من خلفي.
وقد كتبت في وقت مبكِّر في كتابي "ثقافية الداعية" ما يتَّصل بالقرآن الكريم وخصائصه ، وما يتعلَّق بثقافة المفسِّر، وأشرت إلى كثير من الضوابط المهمة في فهم كتاب الله عزَّ وجل وتدبُّره، وحذَّرت من عدد من الأخطاء، وتقصيرا في فهم كتاب الله تعالى، ثم توسَّعت بذكر هذه الضوابط والمحاذير، في الفهم والتأويل لكتاب الله سبحانه، في كتابي : "المرجعيّة العليا للقرآن والسنة"، ثم أفردتُ كتاباً كبيراً مهماً في بابه وهو: "كيف نتعامل مع القرآن الكريم".
وأنا منذ أكثر من سبعين عاماً ، أصاحبُ كتابَ الله تبارك وتعالى، فما من درس من دروسي، ولا محاضرة من محاضراتي، ولا خطبة من خطبي، ولا كتاب من كتبي، ولا برنامج من برامجي، إلا ويرتكز على كتاب الله عزَّ وجل، وفي الفتاوى التي حرَّرتها بأجزائها الأربعة الكبار عدد من الموضوعات القرآنية المهمة التي تتصل بعلوم القرآن والتفسير.
وقد عُنيت بالتفسير القرآني بكل أنواعه وبكل ألوانه: التَّحليلي لكتاب الله عزَّ وجل، والتفسير الموضوعي، وقد صدر لي في التفسير الموضوعي كتابان هما: "الصبر في القرآن" و "العقل والعلم في القرآن"، وعندي مخطَّط لمئات الموضوعات القرآنية.
وكان محور خطبي في السنوات الأخيرة في مسجد عمر بن الخطاب بالدوحة، حول موضوعات القرآن الكريم ، فتحدثتُ في عدد من الخطب عن "الإيمان في القرآن"، ووقفت عند عدد من "أسماء الله عزَّ وجل الحسنى" وصفاته العلى، وعن "المال في القرآن"، و "الآباء والأبناء في القرآن"، و"الحكم والسياسة في القرآن"، و"المرأة في القرآن"، وما أزال أتابع الخطب حول هذه الموضوعات القرآنية.
ولا عجب بعد ذلك أن يجد القارئ في كتبي جميعًا آيات القرآن الكريم، تنتشر في كل صفحة من صفحاته، أستقي منها في تأصيل المفاهيم، وتحرير المصطلحات، وتحديد الأحكام، وتجديد الأفهام، وتنوير العقول، وتطهير القلوب، وإصلح الأسر والمجتمعات، وأربطها بالواقع والحياة.
ومنذ قدمت إلى قطر في أوائل الستينيات من القرن العشرين، كنتُ أصلِّي إماماً في صلاة التراويح في شهر رمضان، وأقف في الصلاة في درس كلّ ليلة على تدبر بعض الآيات التي تلوتها أو تلاها القارئ بعد انقطاعي -جزئيا أو كليا- عن الإمامة، وكانت هذه الدورس القرآنية، تسجل باستمرار فرديًا أو رسميًا.
وقد قام بعض الإخوة العاملين في مكتبي بمحاولة استقصاء ما أمكنهم من الدروس القرآنيَّة المسجَّلة، وقاموا بتفريغها ، وستصدر بعون الله سبحانه .
وكنتُ عقدت دروساً لتفسير سورة يوسف عندما كنت معارا من قطر إلى الجزائر ، مديرا للبحث العلمي في جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة، ومعاونا لوزير "الشئون الدينية" في العاصمة، ولم يتيسَّر لي نشرها، وضاعت مني أصولها المسجَّلة، ولعلَّ الله سبحانه ييسِّر لها باحثًا جادًّا يجتهد أن يقف عليها، ويفرغها وينشرها.
كما أقمتُ دروساً في تفسير كتاب الله عزَّ وجل في جامع الشيوخ بقطر ، فسَّرت فيها سورة الرعد، وقام الأخ محمود عوض بنشرها، ثم أعدتُ النظر فيها، واستدركتُ ما وقع فيها من نقص وأخطاء، وصدرت الطبعة الثانية في مكتبة وهبة، ثم تابعت تلك الدروس المسجديَّة القرآنيَّه، وفسَّرت فيها سورتي الحِجْر وإبراهيم، وقد قام بالعناية بهما، ومراجعتهما الأخ الكريم الأستاذ مجد مكي، ويسَّر الله صدور هذين الكتابين قريباً في مكتبة وهبة.
ولقد كان من أكبر أمنياتي التي أرجو الله أن يحقِّقها لي، أن أتوجَّه لكتابة تفسير مختصر للقرآن الكريم، وعَزَمت على ذلك، وأعلنت عن هذا الأمل المتجدد، ودعوتُ الله أن يحقِّقه لي، ليكون على حاشية مصحف قطر بخط الخطاط المتقن عبيدة البنكي السوري.
وبدأت بتفسير سورة الفاتحة، وسورة النبأ، ولكنِّي وجدتُ أن التزامي بحواشي صفحات المصحف يُقيِّدني، ويحول دون كتابة كثير من المعاني التي أرغب في بيانها، فخرجت عن هذه الخطَّة إلى الكتابة المسترسلة على طريقتي ومنهجي، وقد وفَّقني الله تعالى لإتمام تفسير هذا الجزء الأخير من كتاب الله سبحانه، كتبته بقلمي، في أوقات غير منتظمة، وبارك الله في وقتي مع كثرة الصوارف والهموم المتواصلة، والأسفار المتلاحقة، وقد بدأت كذلك في تفسير جزء تبارك، وأنهيت كتابة عدد من السور، أسأل الله سبحانه أن يبارك في الوقت والعمر لإنجاز ما أؤمِّله من تفسير كتاب الله سبحانه.
وهذا الجزء (عمَّ) من الأجزاء التي تكثُر قراءة آياتها في الصلوات، ويحفظه أكثر أبناء المسلمين ، وفيه تقرير لحقائق العقيدة ومكارم الأخلاق، وأصول الدعوة، ومجادلة المشركين. وقد أفرده في التأليف عدد من العلماء القدامى والمعاصرين، أشهرهم الإمام محمد عبده، ولكلِّ مفسر منهجه وطريقته، وأسلوبه وقراؤه.
وقد قدَّمت لكلِّ سورة بذكر أهم مقاصدها، جاعلا أول اهتمامي أن أفسر القرآن بالقرآن، جامعا بين العقل والنقل، وبين الرواية والدراية، وهذا هو منهجي في التفسير، وهو ما سَبَق أن بيَّنته في كتبي الأولى في "ثقافة الداعية"، وفي مقدمتي التي كتبتها لتفسير "سورة الرعد"، وما فصَّلته في كتابي: "كيف نتعامل مع القرآن".
وهذا الكتاب الذي أقدِّمه اليوم في "تفسير جزء عمَّ" زادٌ نافع مبارك -إن شاء الله- للداعية والمحاضر والمدرس والخطيب.
وأسجِّل شكري في هذه المقدِّمة للإخوة العاملين في مكتبي العلمي بالدوحة، وفي مركز القرضاوي للوسطية الإسلامية والتجديد، على ما قاموا به من خدمة الكتاب، جزاهم الله تعالى عني خيرا.
وأسأل الله سبحانه أن يبارك فيما بقي من أعمارنا، ويعمرها بالعمل والإخلاص في خدمة كتاب الله سبحانه، وإخراج ما يوفق الله إليه من تفسير، وأن يتقبَّل مني هذا العمل وينفع به .
{ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة: 127) ، {وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 128)
الفقير إلى الله تعالى
يوسف القرضاوي
الدوحة 9 شعبان 1434هـ
18 يونيو 2013م