في فقه الأقليات المسلمة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والصلاة والسلام على الهادي إلى صراط الله المستقيم، سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد..
فقد طلبت إليّ الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي أن أكتب بحثًا حول المشكلات الفقهية للأقليات المسلمة في الغرب؛ ليُقدَم إلى مؤتمر إسلامي عالمي تعقده الرابطة في مكة المكرمة. وتعني بالمشكلات الفقهية: المشكلات التي تتطلب حلًا وعلاجًا من الفقه الإسلامي في ضوء الشريعة الإسلامية.
ولا ريب أن هناك مشكلات يعاني منها المسلمون في كل مكان، وفي داخل "دار الإسلام" نفسها، أي في قلب المجتمعات الإسلامية في العالم الإسلامي. بعضها مشكلات فردية، وبعضها مشكلات أسرية، وبعضها مشكلات اجتماعية، وبعضها مشكلات اقتصادية. فلا غرابة أن تشكو الأقليات المسلمة في بلاد الغرب ونحوها، مما تشكو منه الأكثريات الإسلامية في بلاد الإسلام نفسها.
وهذه المشكلات العامة التي تشمل المسلمين في كل مكان، لا حديث لنا عنها في هذه الدراسة، ولكن حديثنا هنا يتركز حول المشكلات التي تختص بها الأقليات المسلمة لظروفها الخاصة، أو أنها تكون عندها أكثر حدة، وأعظم إلحاحًا منها في الديار الإسلامية؛ وهو ما جعل المسلمين في تلك الديار منذ بدءوا يعودون إلى ذاتهم، ويحسون بهويتهم، يعقدون الندوات والحلقات للبحث عن حلول لمشكلات حياتهم المتصلة بالدين، في ضوء الشريعة الإسلامية.
ومنذ عشر سنوات عقدت ندوتان في فرنسا، نظمهما وأشرف عليهما اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، ودعا إليهما عددا من العلماء المهتمين بالأقليات الإسلامية ومشكلاتهم الفقهية والعملية. وكان موضوع الندوتين محددا في هذه المشكلات التي تواجه الأقليات التي تعيش في الغرب بصفة عامة، وفي فرنسا بصفة خاصة، مثل الأقليات في بلاد الغرب.. والحصول على جنسية هذه البلاد.. والزواج من أوربية غير مسلمة للحصول على الإقامة.. والزواج بامرأة أخرى عرفًا على خلاف القانون، وتطليق المرأة قانونًا، وهو متزوج بها فعلًا، للحصول على معونة المطلقة.. وأخذ الرجل معونة البطالة من الدولة، مع أنه يعمل ولكن لا يُبلِّغ عن عمله.. إلخ هذه الأشياء.
وقد صدر عن هذه الندوة عدد من الفتاوى والقرارت المهمة، بعد أن نوقشت مناقشة مستفيضة. وإن كان من المؤسف أنها -فيما يبدو- لم تُنشر حتى اليوم؛ وهو ما بعث أيضًا المهتمين بالشئون الإسلامية في تلك البلاد، مثل: "اتحاد المنظمات الإسلامية في أوربا" للدعوة إلى إنشاء "مجلس أوربي للإفتاء والبحوث" تكون مهمته البحث والعناية بــ"فقه الأقليات" وما تعانيه من مشكلات تحتاج إلى حلول في ضوء الشريعة الإسلامية، ومن خلال فقه إسلامي معاصر، يراعي الزمان والمكان والعرف والحال.
ولقد عقد المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث ست دورات له، وبحث في عدة موضوعات أو مشكلات عرضت عليه، وقدمت فيها الدراسات والبحوث، وناقشها أعضاؤه مناقشات حرة مستفيضة، ثم أصدر في أكثرها فتاوى أو قرارت، بعضها بالإجماع، وبعضها بالأغلبية، كما هو شأن المجامع العلمية، وكما هو شأن القضايا الاجتهادية، التي يتعسر -وربما يتعذر- أن يتفق فيها البشر، وهم يختلفون فيما بينهم، من ناحية الميل إلى الظواهر، أو الميل إلى المقاصد، ومن ناحية الميل إلى التشديد، أو الميل إلى التيسير.
ولا حرج على الناس أن يختلفوا في ذلك، فقد اختلف من هو خير منهم، وهم الصحابة -رضي الله عنهم- وتابعوهم بإحسان، ولكنهم اختلفت آراؤهم، ولم تختلف قلوبهم، ووسع بعضهم بعضًا، وصلى بعضهم وراء بعض. كما عقد الإخوة في أمريكا في شهر نوفمبر من عام 1999م مؤتمرًا لعلماء الشريعة هناك، سعدت بالمشاركة فيه، وعُرض فيه عدد من القضايا، أصدر فيها فتاوى مهمة.
وكل هذا يدل على أن المسلمين -وإن كانوا أقلية في بعض البلاد- شرعوا يؤكدون هويتهم، ويعبرون عنها بالقول والعمل، ولا سيما العمل الجماعي المؤسسي، وهو مما يبشر بخير، ويعد بغد أفضل إن شاء الله؛ وهو ما يتفق مع المبشرات الكبيرة والكثيرة من القرآن، ومن السنة، ومن التاريخ، ومن الواقع، ومن سنن الله تعالى {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون} (التوبة:32-33).
ولا غرو أن رحبت بالكتابة في هذا الموضوع لإيماني بأهميته؛ ولأني في الواقع مشغول به منذ فترة طويلة، أي منذ بدأت الزيارة لأوربا وأمريكا وبلاد الشرق الأقصى، منذ أكثر من ربع قرن، وبدأت تنهال علي الأسئلة في المؤتمرات والندوات واللقاءات التي كنت أشارك فيها، أو عقب المحاضرات التي كنت ألقيها؛ وهذا فتح عيني على المشكلات التي يعانيها المسلمون الذين يعيشون خارج المجتمعات الإسلامية، في صورة أقليات هنا وهناك.
ولقد تجلى اهتمامي بهذه القضية الحيوية في صور شتى، وبأساليب متنوعة:
تجلَّى ذلك أول ما تجلى في كتابي "الحلال والحرام في الإسلام"، فلقد كلفتني به مشيخة الأزهر؛ استجابة لطلبات المسلمين في بلاد الغرب، ضمن ثلاثين موضوعًا طلبوا الكتابة فيها بلغة تناسبهم، وتراعي ظروفهم، كما تجلى ذلك في كتابي "فتاوى معاصرة" بأجزائه الثلاثة.
وتجلى ذلك في برامجي الدينية في "القنوات الفضائية"، ولا سيما برنامج "الشريعة والحياة" الذي يُبَث من قناة "الجزيرة" في قطر، وغدت له شهرة واسعة، ومشاهدون كثيرون في أنحاء العالم، ويذاع مساء كل أحد، وكذلك برنامج "المنتدى" الذي سُمَّى أخيرًا "المنبر" في قناة "أبو ظبي الفضائية" ويذاع مساء كل سبت.
كما تجلى ذلك في "صفحات القرضاوي على الإنترنت" الذي تشرف عليه شركة "آفاق" الإعلامية في دولة قطر، ثم على الموقع الإسلامي العالمي المتميز ISLAM ONLINE"إسلام أون لاين" الذي يتجاوب مع الأقليات الإسلامية في الغرب والشرق.
وأخيرًا تجلى ذلك في "المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث" الذي شرفني الإخوة المؤسسون والأعضاء برئاسته، ووظيفته الأساسية هي تفقيه الأقليات المسلمة في أوربا وترشيدها، والإجابة عن تساؤلاتها، والعمل على إيجاد حلول لمشكلاتها الدينية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية وقواعدها.
وقد أصدر المجلس مجموعة طيبة من الفتاوى في موضوعات مهمة، وأجاب عن أسئلة كثيرة مطروحة في الساحة الأوربية الإسلامية، كانت تنتظر جواباً من زمن.
ولكن هذا النشاط العلمي المتعدد حول الأقليات، كان يحتاج إلى "تأصيل شرعي" يرد الفروع إلى أصولها، والجزئيات إلى كلياتها، ويؤسس القواعد اللازمة لوضع "منهجية علمية" لهذا الفقه، تضبط مساره، وتنظم حركته، وفق مبادئ الشريعة ومقاصدها، الضابطة والحاكمة لفروع المعاملات المختلفة.
لهذا كان طلب رابطة العالم الإسلامي فرصة لإيضاح هذه المنهجية، ومحاولة وضع إطار علمي لها، عسى أن يقبله أهل العلم والفكر، أو ينضجوه بالمزيد من الدراسة والمناقشة، ولعل هذه الدراسة الأولية تفتح الباب لمن يعمقها ويوسع آفاقها، ويزيدها نماء وضياء، أو يبدي عليها ملاحظات نافعة وبناءة، فليس في العلم كبير، وفوق كل ذي علم عليم.
أسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يجعل لنا منه نورًا نمشي به في الظلمات، وفرقانًا نحكم به في المتشابهات، وأن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الفقير إلى عفو ربه
يوسف القرضاوي
الدوحة في: ربيع الآخر 1422هـ - يونيو 2001م