مستقبل الأصولية الإسلامية
مقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسل الله، وعلى خاتمهم محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، أما بعد:
فقد طلبت إليّ جريدة «الشرق الأوسط» المعروفة أن أشارك بالكتابة في ملف فتحته منذ أول رمضان سنة (1417هـ) حول «مصير الأصولية» ويعنون بها: «الأصولية الإسلامية».
وكنت مترددًا في قبول ذلك، ولكن بعض الإخوة الذين قرؤوا مقالات الملف فزعوا منها، ومن كثير مما كُتب فيها، وألحوا عليّ أن أسهم فيها، حتى يحدث التوازن المطلوب، وحتى لا يغيب «تيار الوسطية» عن هذه الساحة.
ولهذا لم أجد بدًّا من الاستجابة لهم، فبعثت إلى الجريدة بهذه الصحائف، التي أضعها الآن بي يدي القارئ الكريم، لتصدر في سلسلة «رسائل ترشيد الصحوة» عسى أن تسهم في تصحيح الأفهام، ومطاردة الأوهام، ودفع الشبهات، ورد الأباطيل والمفتريات، عن الإسلام ودعوته وصحوته أمته، وما أغزرها، وأوفرها اليوم!
وقد بعث إليّ من زيورخ في سويسرا الصديق البحاثة الأستاذ ثابت عيد، يعتب علي عتبًا شديدًا: أني جاريت القوم «الغربيين» في إطلاق كلمة «الأصولية» على ظاهرة الإحياء الإسلامي المعاصرة، مع ما لهذا المدلول عندهم من مدلول بغيض، فالأصولي يعني «إرهابي - مجرم - متخلف»...إلخ.
وقد ذكرت في بحثي أني أفضل التعبير عن الظاهرة الإسلامية بالاسم الحبيب إليّ، الأثير لديّ، وهو «الصحوة» التي ألفت كتبًا عدة، وألقيت محاضرات أكثر، لترشيدها وتسديدها، والانتقال بها من مرحلة المراهقة إلى مرحلة الرشد، ولكني استخدمت هذه الكلمة لأسباب ذكرتها في أصل البحث، والصحوة أصدق تعبيرًا عن الواقع.
هذا وقد رددت على الأخ الكريم ثابت عيد برسالة جاء فيها:
وأنا -بلا ريب- أحترم وجهة نظرك، وأقدرها حق قدرها، وقد أشرت في كلمتي إلى أصل نشأة المصطلح عند أهله، ولكني استخدمته بمفهوم آخر، غير مفهوم القوم، ونحن الذين نحدد مفهوم الأصولية التي نؤمن بها وندعو إليها.
وهذه طريقة في الجدل مع الخصوم، استخدمها الناس من قديم: عندما يضفي خصومك على فكرتك اسمًا منفرًا، أو عنوانًا مبغضًا لدى الناس، فتأخذه أنت وتقول: نعم، أنا أقبله، ولا يضرني تسميتكم لي بهذا الاسم والعنوان، وأول من أشار إلى ذلك الإمام الشافعي فيما يُروى عنه أنه قال: إن كان فرضًا حبُّ آل محمد ** فليشهد الثقلان أني رافضي!
وهو ما قاله الإمام ابن القيم وقد اتُهم بالتجسيم:
فإن كان تجسيمًا ثبوت صفاته ** وتنزيهها عن كل تأويل مفتر!
فإني -بحمد الله ربي- مُجَسِّم ** هلموا شهودًا، واملأوا كل محضر!
يؤكد ذلك أن كلمة «الأصولية» في تراثنا كلمة محببة، ونحن من زمن ندعو الناس إلى «العودة إلى الأصول»، فهي تعني الارتباط بالجذور والأعماق، في مقابل من يدعوننا إلى «اللحاق بالغرب»، بل أنا أعتقد أن كلمة «الأصول» في كل لغة، ولدى كل دين سماوي: محببة ومحمودة، حتى في الدين المسيحي، فمن ذا الذي يكره العودة إلى الأصول؟ ولكن إطلاقها على ذلك الصنف من المسيحيين المتعصبين الجهلاء المتخلفين الإرهابيين... إلخ. إطلاق خاطئ من أساسه، فهؤلاء ليسوا أصوليين بمنطق المسيحية ذاتها، أما الداعون إلى الإسلام - بشموله وتوازنه وعمقه ويسره - فهم الأصوليون حقًّا.
ومنذ سنوات ألفت «أرجوزة» ساخرة عنوانها «الأصوليون» كانت سلاحًا في المعركة مع خصوم الإسلام ورسالته الحضارية، ولي أيضًا قصيدة عنوانها «أصولي» قلت فيها:
أصولي، أصولي ** أجل أنا، لا وصولي؟
أصولي، فلي أصلي ** ولي نسبي الحنيفيُّ!
وأصل أصولي القرآن ** دستوري الإلهي!
وسُنَّة أحمد المختار ** لي زاد ولي ري!
وقانوني شرع الله ** لا الشرع الفرنسي!
إلى آخر تلك القصيدة.
على أية حال، يجب أن نذكر القاعدة التي قررها علماؤنا من قديم: أنه لا مشاحة الاصطلاح، ونحن نؤمن أن العبرة بالمسميات والمضامين، لا بالأسماء والعناوين؛ المهم أن تتحدد المفاهيم والمصطلحات بوضوح، وأن تزول عنها غشاوة الغبش والإبهام، وسوء الفهم.
ولا بد أن يعرف خصومنا ومحاورونا في الغرب: أننا لا نعني بـ «الأصولية» إذا قبلنا إطلاقها على «الصحوة المعاصرة» أو على تيار «تيار الإحياء والتجديد الإسلامي» ما يعنون به من مفاهيم، وما يلزمها من لوازم، حتى لا يلتبس الحق بالباطل، ويختلط الحابل بالنابل.
وتركيزنا أبدًا إنما هو على تيار «الوسطية الإسلامية» القائم على التيسير والتبشير، وعلى الجمع بين الأصالة والتجديد، والموازنة بين ثوابت الشرع، ومتغيرات العصر، دون تعصب لرأي قديم، ولا عبودية لفكر جديد.
وختامًا أقول ما قال سيدنا شعيب عليه السلام: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود:88).
يوسف القرضاوي
الدوحة: 7 شوال 1417هـ
15/2/1997م