أعداء الحل الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد وكفى، وسلام على رسله الذين اصطفى، وعلى خاتمهم محمد المجتبى، وعلى آله وصحبه مصابيح الهدى، وكل من بهم اقتدى فاهتدى. أما بعد...
فهذا هو الجزء الرابع والأخير من سلسلة «حتمية الحل الإسلامي» الذي صدر الجزء الأول منها سنة 1971. ثم صدر الجزء الثاني «الحل الإسلامي فريضة وضرورة» سنة 1974والجزء الثالث «بيانات الحل الإسلامي وشبهات المتغيربين والعلمانين »سنة 1987، فتأخر كثيرًا، وصدر هذا الجزء «أعداء الحل الإسلامي» سنة 2000 في ختام القرن العشرين. أي بعد ثلاثة عشر عامًا من صدور الجزء الثالث.
والعجيب في هذا الأمر أني حين عدت إلى ملفاتي وأضابيري - وما أكثرها - وجدت الكتاب عندي شبه مكتمل إلا من فصل واحد، وهو ما يتعلق بـ «الصهيونية» ومواد هذا الموضوع عندي، بعضها في الرأس، وبعضها في الطرس، وقد كتبت عن الصهيونية وعدوانها على فلسطين والمقدسات الإسلامية أكثر من كتاب، مثل «درس النكبة الثانية» بعد هزيمة 1967م و«القدس قضية كل مسلم» منذ سنتين وفصولًا مختلفة في عدد من الكتب، ومقالات متنوعة في عدد من الصحف.
وكان المفترض أن يصدر هذا الجزء الرابع مع الجزء الثالث الخاص بالرد على الشبهات حول الحل الإسلامي، أو عقبه مباشرة، ولكن مما ابتليت به - وبعض الابتلاء نعمة - أن هناك مواضيع آنية تطلب مني لسبب أو لآخر، وتفرض نفسها عليّ، فأدع ما كنت غارقًا فيه إلى موضوع جديد، يستحوذ على ذهني وجهدي فترة من الزمن، حتى أفرغ منه.
ثم هناك أمر آخر يؤثر على سيري في الكتابة، وهو «السفر» فقد أعيش أحيانًا في موضوع ما، أشحذ له عقلي، وأشهر له قلمي، وأفرغ له وقتي، وهنا تتوارد الخواطر، وتتداعى المعاني، وتسترجع المعلومات، وتتهيأ المراجع، وأبدأ على بركة الله في الكتابة، وأقطع شوطًا جيدًا أغبط نفسي به، وأحمد ربي عليه، ثم لا يلبث أن يأتيني سفر قد يطول قليلًا، فينقطع حبل فكري، وينقلني إلى جو آخر، وقضايا أخرى، فإذا عدتُ من سفري، لم أجد المناخ النفسي والعقلي الذي عشت فيه من قبل، وأحتاج إلى جهد ومعاناة ووقت، حتى أستعيد ما كنت عليه من تهيؤ وتحفز، وقد أشغل عن الموضوع السابق بموضوع آخر ولَّدَتْهُ هذه السفرية، ولا أدري هل يُبتلى إخواني من الكُتاب والمصنفين بمثل ما أنا مبتلى به، أو هي بليتي وحدي؟ أسأل الله العون من عنده.
على كل حال، لقد فرحت بالمادة التي وجدتها عندي لهذا الجزء، وكأنها ركاز أو لقطة وجدتها، ومن عجائب الأقدار أن بعضها كتب مما يقرب من نحو ثلاثين سنة، وبعضها كتب بخطوط إخوة وزملاء فضلاء لي في المعهد الديني الثانوي في قطر عندما كنت مديرًا له، كانوا يساعدونني بتبييض ما أكتبه بخطي الردئ والسريع، ليكتبوه بخطوطهم الجميلة، وأكثرهم قد انتقل إلى رحمة الله وأنتهز هذه الفرصة لأذكرهم وأشكرهم، وأدعو لمن لقى ربه منهم بالمغفرة والرحمة والرضوان من الله تعالى، ولمن كان حيًا بالحفظ والرعاية والتوفيق.
ومن هؤلاء الإخوة الأكابر: الشيخ/عليوة مصطفى عليوة العالم الشاعر وكيل المعهد الديني رحمه الله، والشيخ/محمد على الموافي العالم اللغوي الذي رقِّى من المعهد الديني إلى توجيه اللغة العربية بوزارة التربية، وقدر له أن يصاب في حادث سيارة، انتهى بوفاته رحمه الله، والأخ الداعية الشيخ/مصباح محمد عبده، الصديق الوفي الذي وافاه الأجل في الدوحة رحمه الله، والأخ العالم الداعية الشيخ/علي محمد جماز، الذي تولى إدارة المعهد بعدي، ثم عمل معي مدرسًا بكلية الشريعة رحمه الله، والمعلِّم المتميز الأستاذ/رشدي عبد الغني المصري، الذي نقل إلى توجيه اللغة العربية، ثم أحيل إلى التقاعد، وسافر إلى مصر، فإن كان حيًا فإني أسأل الله أن يحفظه ويرعاه، وإن كان ميتًا فأدعوا الله له بالمغفرة والرحمة وأن يخلفه في أهله وولده بخير، والأستاذ/أحمد محمد الصديق، الأديب الشاعر المعروف حفظه الله وسدد خطاه.
ولقد وجدت بعض المعلومات قد أصبحت قديمة فاجتهدت أن أحدثها ما استطعت، وربما أبقيت على بعضها، فليعذرني القارئ الكريم.
وقد أبقيت على بعض المادة الموجودة عمدًا، لأنها تمثل مرحلة لا ينبغي أن ننساها، كما في الحديث عن «الشيوعية» أو «الماركسية» فقد كتبت ما كتبت عنها يوم كانت الشيوعية تحكم الاتحاد السوفيتي، وعددًا من أقطار أوربا الشرقية، وبعض البلدان الإسلامية، مثل اليمن الجنوبي، وألبانيا، وكان لها أنصارها من «دعاة الماركسية» أو اليسار في كل مكان في العالم، ومنه بلادنا العربية والإسلامية.
ولقد تغير الوضع الآن، وانهار الاتحاد السوفيتي، وسقط حكم الشيوعية في روسيا نفسها، البلد الأم للشيوعية، وفي أوربا الشرقية، ومنها بلاد إسلامية، مثل «البوسنة والهرسك» وكذلك «كوسوفا» وسقطت الشيوعية أيضًا في اليمن الجنوبي وألبانيا، وانتهت إلى غير أمل في العودة.
ولكن بقيت الشيوعية في بلد كبير كالصين، وبقى حكم الشيوعيين في الجمهوريات الإسلامية التي كانت جزءًا من الاتحاد السوفيتي، فقد اتفق الغرب والشرق على إبقاء الحكم الشيوعي فيها، خشية أن تكون الصحوة الإسلامية هي الوارثة، وبقى كثير من الماركسيين القدماء يدافعون بجَلَد عن الماركسية الساقطة في بلادها، ويزعمون ببجاحة أن هذا السقوط إنما كان للتطبيق، وليس للنظرية.
على أن الشيوعيين ما زالوا يكوّنون حزبًا قويًا داخل روسيا، ولا يبعد أن تأتي الفرصة يومًا لهذا الحزب ليثب على الحكم، ويمتلك أزمة السلطة بيديه، وقد عاد بعض الأحزاب الشيوعية في أوروبا للحكم مرة أخرى بعد سقوطه، من أجل هذا؛ أبقيت على فصل «الشيوعية» بوصفها عدوًا دائمًا لرسالة الإسلام، وللحل الإسلامي.
ومثل ذلك فصل «الاستعمار» فقد يتوهم بعض الناس: أن الاستعمار قد ولى عهده، وحمل متاعه، ورحل إلى غير رجعة، والواقع أن الاستعمار باقٍ بصورة وأخرى، ولكنه غيَّر أساليبه السالفة، وغير شكله القديم، ولم يعد يحتاج إلى احتلال الأرض، والتحكم المباشر، بل بات يحكم من وراء ستار، بالنصائح الملزمة، والرغبات التي هي في حقيقتها أوامر، والإشارات التي لها حكم العبارات، والتلويحات التي لها قوة التصريحات، وربما أكثر منها.
هذا هو ما يجري عليه الاستعمار الجديد، الاستعمار الإمبريالي الأمريكي المتجبر، المستكبر في الأرض بغير حق، الذي يقول ما قال قوم عاد: من أشد منا قوة؟ أو ما قال فرعون: أنا ربكم الأعلى!
ولقد قلنا: إن الاستعمار يغير لونه كالحرباء، ويغير جلده كالثعبان، ويغير وجهه كالممثل القدير، ويغيّر اسمه كالمزوّر المحتال، ولكنه هو هو، وإن غيّر صورته، وبدّل اسمه وعنوانه، ومن أسمائه الجديدة الشهيرة والمروجة اليوم «العولمة» بمعناها السياسي، ومعناها الاقتصادين، ومعناها الثقافي.
على أن هذا الاستعمار قد يستخدم القوة العسكرية عندما يريد، كما رأينا ونرى إلى اليوم من ضرب ليبيا، وضرب السودان، وضرب أفغانستان، وضرب العراق، وفرض الحصار عليه، وتجويع شعبه، وإماته أطفاله، لعدم خضوع هؤلاء للاستعمار الجديد، والتمرد على أوامره، وليس لمجرد عمله الأحمق الظالم باحتلال الكويت، فقد كان وراء إغرائه باحتلالها.
بل نرى الأمريكان ينشئون لهم مرتكزات عسكرية في عدد من البلدان، يخزنون فيها معداتهم، ويشيديون فيها منشآتهم، ويضعون عليها بعض جنودهم، كما في بعض بلاد الخليج، وإن كان هذا في الظاهر برضا حكام هذه البلدان واتفاقهم، والواقع يقول: إنه منطق القوة والجبروت والاستكبار هو الذي فرض عليهم أن يعلنوا القبول، لأنهم لا يملكون أمام الفرعون المتأله أن يقولوا: لا.
وأرجو أخيرًا أن يكون هذا الجزء متممًا للأجزاء الثلاثة الأخرى، ومكملًا للحقيقة التي أردت كشف القناع عنها للقارئ المسلم، حتى تتضح له الصورة بكل جوانبها.
فيعرف أولًا: ماذا جنت الحلول المستوردة، من الغرب أو الشرق على أمتنا؟.
ويعرف ثانيًا: أن الحل الإسلامي فريضة وضرورة: فريضة يوجبها الدين، وضرورة يحتمها الواقع، ويعرف معالم هذا الحل وشروطه وخصائصه وآثاره.
ويعلم ثالثًا: الشبهات التي يثيرها من يثيرها حول الحل الإسلامي من العلمانيين والمتغربين، وأن لدى الإسلام من البينات ما يفندها ويرد عليها بالحجج القاطعة.
ويعلم رابعًا وأخيرًا: من هم خصوم الحل الإسلامي وأعداؤه الذين يقفون في وجهه، ويزرعون العقبات في طريقه، ويجتهدون في التشويش عليه، وتشويه صورته، والتشكيك في صلاحيته.
وقد عرفنا في هذا الجزء هؤلاء الأعداء الأساسيين، وهم: الاستعمار، والصهيونية، والشيوعية، والحكام المنافقون وعبيد الفكر الغربي، والمترفون والمتحللون. وقد تحدثنا عن كل عدو من هؤلاء في فصل خاص. وعرفنا لماذا يعادون الحل الإسلامي، والمنهج الإسلامي، ونحن نوقن أنه لا بديل عن هذا الحل، فهو الحل الأول، والحل الأخير، على أن نحسن فهمه، ونحسن تطبيقه، ونعدّ الأمة لحمل رسالته.
فالحل الإسلامي ليس عصًا سحرية، وليس يعمل من خلال خوارق سماوية، إنما يعمل من خلال إرادة الأمة وقدرتها على العمل والإنفاق، والبذل والعطاء، واستعدادها لأن تغير ما بأنفسها حتى يغير الله ما بها، وفق القانون الإلهي الذي سجله القرآن الكريم: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد:11).
والحمد لله أولًا وآخرًا.
يوسف القرضاوي
الدوحة ذو الحجة 1420 هـ
الموافق مارس «آذار» 2000 م