السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأزكى صلوات الله وتسليماته على رحمة الله للعالمين، وحجته على الناس أجمعين، سيدنا وإمامنا، وأسوتنا وحبيبنا ومُعَلِّمنَا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن سار على دربه، إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا هو الجزء الرابع من هذه السلسلة المباركة إن شاء الله «نحو وحدة فكرية للعاملين للإسلام» وموضوعه: «السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها» ويتضمن الحديث حول الأصل الخامس من «الأصول العشرين» للإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله.
وهو الأصل الذي تحدث فيه بإيجاز شديد عن السياسة الشرعية المنوطة بالإمام «الخليفة أو رئيس الدولة» أو نائبه، وعن رأيه في أمور السياسة والإدارة والحكم، ومدى اعتباره، وفي أي المجالات يعمل به «وقد حدده فيما لا نص فيه، وفيما يحتمل عدة أوجه، وفي المصالح المرسلة»، وما شرط ذلك؟ وهل يقبل هذا الرأي التغير بتغير الأوضاع والظروف أو هو جامد لا يلين ولا يتحرك؟ وما موقف الإمام من الشورى؟
وهل يعمل بهذا الرأي في العبادات والمعاملات على حد سواء أو أن بينهما فرقًا في النظر إلى المقاصد والعلل أو عدم النظر إليها؟
يقول الإمام رضي الله عنه:
«ورأي الإمام أو نائبه، فيما لا نص فيه، وفيما يحتمل وجوهًا عدة، وفي المصالح المرسلة - معمول به، ما لم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بتغير الظروف والعرف والعادات، والأصل في العبادات: التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وفي العاديات: الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد».
وقد وسعنا القول حول هذه الأمور التي أشار إليها الأستاذ البنا، وناقشنا في سياقها قضايا مهمة وعلى جانب من الخطورة في عصرنا، تتعلق بالسياسة الشرعية، مثل بيان الرأي النبوي وتغيره، ورأي الخلفاء الراشدين وتغيره، ومدى إلزامية رأيهم في السياسة الشرعية لمن بعدهم.
كما تحدثنا عن المصلحة المرسلة وشروطها وضوابطها، والمصلحة الملغاة، والمصلحة المعتبرة، وكذلك عن الشورى ومدى إلزامها لولي الأمر.
ولم ننسَ بيان الأسس والمرتكزات التي يقوم عليها فقه السياسة الشرعية، وهي:
فقه المقاصد... وفقه الواقع، وفقه الموازنات... وفقه الأولويات... وفقه التغيير.
ولا ريب أن موضوع السياسة الشرعية مهم وخطير، والفقهاء من عهد ابن القيم وما قبله، ما بين جامد حجّر ما وسع الله في شريعته، وغلّق الأبواب على ولاة الأمر، فاستحدثوا قوانين سياسية بمعزل عن الشريعة، ومرخِّص بالغ في البحبحة لهم، حتى اجترءوا على حدود الله وحقوق الناس.
والمنهج الوسط هو المطلوب دائمًا، فهو لا يغلو ولا يقصر، ولا يطغى ولا يُخسِر في الميزان، ونحن أحوج ما نكون إلى هذا المنهج الوسطي في عصرنا، وخصوصًا في هذا الموضوع الذي قد كثر فيه اللغط، واختلط فيه الصواب بالغلط، وتنازعت في الإفتاء فيه مدارس متباينة في أهدافها وفي مناهجها: ما بين «متسيبين» لا يريدون أن يتقيدوا بشيء، ولا أن تضبطهم ضوابط، ولا أن تحكمهم أصول وقواعد، زاعمين أنهم إنما يحكِّمون روح الدين، ومقاصد الشرع، وهم أبعد الناس عن مقاصد الشرع، وروح الدين.
وما بين «حرفيين» جامدين يعيشون في الماضي وحده، ويجترّون القديم، ولا يعايشون العصر، ولا يحسون بما تمور به الحياة من أفكار، ولا ما يجري في العالم من حولهم من أحداث، وما يجدُّ كل يوم من جديد، لا يكاد يلاحقه الناس، فهؤلاء في غفلة عن مقاصد الشرع، وعن مشاكل العصر.
وما بين «وسطيين» يحاولون أن يجمعوا بين الحسنيين؛ بين فقه الشرع وفقه الواقع، بين استلهام القديم والانتفاع بالجديد، بين الاستهداء بالتراث واستشراف المستقبل، بين النظر إلى المقاصد الكلية وإلى النصوص الجزئية، وفهم هذه في ضوء تلك، فهم يجتهدون ألا يطغوا في الميزان، وأن يقيموا الوزن بالقسط ولا يخسروا الميزان. وأنا أرجو أن أكون من هؤلاء.
وشأن هؤلاء شأن أهل الوسط دائمًا، لا يُرضون أيًّا من الطرفين، ولا يعجبون واحدًا من الفريقين السابقين.
ولكن هؤلاء هم الذين يناط بهم الأمل، وينعقد عليهم الرجاء في إنقاذ الأمة، والرقي بها، وفق منهج الإسلام عقيدة وشريعة، ومثلًا وحضارة، موازنين بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر، متخذين من التراث نورًا يهدي، لا قيدًا يعُوق، جامعين بين القديم النافع والجديد الصالح.
هذا ما حاولنا أن نسلط عليه الضوء في هذا البحث، وأن نرد بتفصيل على الذين أرادوا أن يعطلوا النصوص باسم المقاصد، والذين اتخذوا من بعض اجتهادات الفاروق عمر رضي الله عنه تكأة لهم، وقد راج ذلك وشاع للأسف عند الكثيرين.
وقد بينا بالحجج الدامغة وبالبينات القاطعة أن ابن الخطاب لم يعطل نصًّا صريحًا يومًا، وحاشاه، بل كان من أشد الناس احترامًا لمحكمات النصوص ونزولًا على حكمها.
وقد أطلنا القول في قضية «تعارض النصوص والمصالح» والقواعد التي تحكمها، والتفريق بين النصوص القطعية والظنية، وتحدثنا عن رأي الفقيه الحنبلي المعروف نجم الدين الطوفي، وما اشتهر عنه من القول بتعطيل النص باسم المصلحة، حتى شاع أنه يقول بتعطيل النص القطعي بالمصلحة، والرجل بريء من ذلك، كما بيناه من صريح كلامه.
كما قصدنا إلى الحديث عن أسس ومرتكزات فقه السياسة الشرعية، كما أشرنا إلى ذلك، وهي ما حددناه في: فقه المقاصد، وفقه الواقع، وفقه الموازنات، وفقه الأولويات، وفقه التغيير، وقد ألقيت شعاعًا على كل منها بما يناسب المقام.
وبهذا تبين لنا - ولكل دارس منصف - أن السياسة الشرعية ليست جمودًا ولا انغلاقًا، بل هي متحركة بحركة الحياة، متطورة بتطور المجتمع، متجددة بتجدد الفكر، وهي تتسع للاجتهاد والتجديد في الفروع والجزئيات والظنيات في ضوء الأصول والكليات والقطعيات، فهي تفهم المتغيرات في إطار الثوابت، والظنيات في دائرة القطعيات.
كما تتسع هذه السياسة الشرعية للإبداع والابتكار في مجال الوسائل والأساليب والآليات التي تتسم بالتغير والقيم الكبرى، التي تتسم بالثبات، ولا حرج علينا أن نقتبس مما عند الآخرين من علم وتكنولوجيا ووسائل وكيفيات، ونحو ذلك مما لا يحمل الطابع العقائدي المميز لأصحابه، والحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق الناس بها.
أرجو ألا يزعج عنوان «السياسة الشرعية» جماعات الماركسيين والعلمانيين والمتغربين عامة، الذين يقلقهم أي ربط للدين أو للشرع بالسياسة، ويثيرون الحملات باستمرار حول ما سموه: «الإسلام السياسي» أو «تسييس الدين» والحق أنهم يرفضون الدين موجهًا للحياة، سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو أخلاقية، يريدون أن يعزلوا الله تعالى عن خلقه، فلا يأمرهم، ولا ينهاهم.
ولكن ما حيلتنا إذا كان هذا المصطلح من وضع علمائنا القدامي، وليس من اختراعنا - نحن دعاة الإسلام الشامل، الذي يسمونه «الإسلام السياسي»؟!!
كما أرجو أن تكون هذه الصحائف خطوة في الطريق الصحيح إلى سياسة شرعية قويمة، تقوم على التوسعة والتيسير، لا على التضييق والتعسير، وعلى الالتزام والانضباط، لا على التسيب والانفراط، تحقق المصالح، وتدرأ المفاسد، وترعى المقاصد والأولويات، وتحقق ذاتية الأمة ووسطيتها وبذلك يعلو دين الله، وتستقيم دنيا الناس.
{رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ} (آل عمران:8).
الدوحة الفقير إليه تعالى
شوال 1418هـ يوسف القرضاوي
فبراير 1998م