المحنة في واقع الحركة الإسلامية المعاصرة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله العلي الكبير، الذي {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ لَهُ ٱلۡمُلۡكُ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (التغابن:1)، والصلاة والسلام على خاتم رسله، البشير النذير، والسراج المنير، سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا ومعلمنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بسنته، وقام بنشر دعوته، وجاهد جهاده إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه محاضرة ألقيتها في أمريكا الشمالية، في إحدى مدنها، وفي المؤتمر السنوي لرابطة الشباب المسلم العربي «ألمايا» كما يعبرون عنها اختصارًا.
وكنت منذ أواسط أو أوائل السبعينات من القرن العشرين حريصًا على زيارة المسلمين في أمريكا، وخصوصًا «اتِّحاد الطلبة المسلمين» الذي يرمزون له (M.S.A)، والذي أمست له فروع في كل أنحاء أمريكا، شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، والذي أنشأ عدة مؤسسات كبيرة انبثقت عنه، وأصبح لها وجودها المستقل، وأثرها في الحياة والمجتمع، منها: جمعية الأطباء المسلمين، وجمعية العلماء والمهندسين المسلمين، وجمعية علماء الاجتماع المسلمين، وهيئة الوقف الإسلامي، وغيرها.
وكان اتحاد الطلبة المسلمين كاسمه، يضم العرب وغير العرب ممن يقيمون في أمريكا، ويدرسون بها، من الباكستانيين والهنود والبنغاليين والماليزيين والأندوسيين، وغيرهم من أبناء آسيا وأفريقيا، تجمعهم العقيدة الإسلامية، والإخوة الإسلامية، كما يجمعهم هم الدعوة إلى الإسلام، وجمع المسلمين عليه، وتصحيح أفهامهم له، وحمايتهم من الضياع في خضم هذا المجتمع إذا ترك الطالب المسلم وحده، أو مع صحبة سوء.
وكان بجوار هذا الاتحاد أو من فروعه وثماره: بعض الطلبة المسلمين الذين آثروا أن ينشئوا كيانًا صغيرًا بجوار الكيان الكبير، وهو اتِّحاد الطلبة المسلمين؛ لأن لسان مؤتمرات الاتِّحاد وندواته هو اللغة الإنجليزية، وكثير من هؤلاء الشباب قدموا من بلدانهم جديدًا، ولم يتقنوا اللغة بعد، فلا يستفيدون كثيرًا من مؤتمرات الاتحاد.
فأسس الطلبة الكويتيون في أول الأمر رابطة لهم سمّوها «رابطة الشباب المسلم الكويتي»، ثم رأى الطلبة العرب أن هناك خليجيين كثيريين من غير الكويت، فاقترح أن تُسمَّى رابطة الشباب المسلم الخليجي، واعترض عليهم آخرون بأن هناك طلبة مسلمين عرب من غير الخليج، فالواجب أن يشمل هؤلاء جميعًا؛ ولذا أطلقوا على هذه المؤسسة الجديدة اسم: «رابطة الشباب المسلم العربي» على أن يكون جزءًا من الاتحاد الأم «اتحاد الطلبة المسلمين».
وكانت هذه الرابطة تعقد مؤتمراتها في الشتاء غالبًا، وتدعو كبار العلماء والدعاة إليها، وكلهم من العرب، أو ممن يتقنون العربية من العجم، وقد دُعيت إليها مرات عدة، وألقيت جملة من المحاضرات، منها هذه المحاضرة: «المحنة في واقع الحركة الإسلامية».
و«المحنة» كلمة معروفة في المحيط الإسلامي، ولا تحتاج إلى «تعريف فني» لها، وهي تعني الامتحان والاختبار والابتلاء لأهل الإيمان، ودعاة الحق بالأذى والشدائد، في أنفسهم وأهليهم وأبدانهم وأموالهم؛ ليختبر الله إيمانهم، وصبرهم، فهو يعاملهم معاملة المختبر، وهو أعلم بهم؛ ليجزيهم على عملهم الذي صدر منهم، لا على ما علمه منهم، كما قال تعالى: {وَلَنَبۡلُوَنَّكُمۡ حَتَّىٰ نَعۡلَمَ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰبِرِينَ وَنَبۡلُوَاْ أَخۡبَارَكُمۡ} (محمد:31)، وقال تعالى: {أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمۡ وَيَعۡلَمَ ٱلصَّٰبِرِينَ} (آل عمران:142).
ولقد اصطفي الله رسله عليه السلام من خيرة خلقه، وأمدهم بوحيه، وعلَّمهم ما لم يكونوا يعلمون؛ ليبلغوا رسالته للناس، مبشرين ومنذرين، ومع هذا لم يعصمهم من الابتلاء بالمحن والشدائد، ولا من الأذى والعذاب صنوفًا وألوانًا من قومهم، ليصقل معادنهم، ويبتلي ما في صدورهم، ويمحص ما في قلوبهم؛ فما منهم إلا أوذي، وخصوصًا أولي العزم منهم، الذين قال الله لرسوله في شأنهم: {فَٱصۡبِرۡ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلۡعَزۡمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ} (الأحقاف:35).
انظر إلى شيخهم نوح عليه السلام، الذي لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، ليبلغهم رسالة ربه، وينصح لهم، ويبشرهم وينذرهم، فلم يستجب له إلا أفراد معدودون، حتى امرأته لم تؤمن به، وحتى أحد أبنائه كفر به: {وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيل} (هود:40) كما قال القرآن؛ أكثر من ثلاثين جيلًا -إذا اعتبرنا الجيل ثلاثين سنة- مرت عليه، وكل جيل أسوأ مما قبله، وهو عليه السلام لم يقصر في دعوته، ولم يتوانَ عن التبليغ، بل نوع الأساليب، ونوع الترغيب والترهيب، ونوع الزمان والبيان من إسرار وإعلان، فلم ينفتح له قلب، ولم تسمع له أذن، كما حكى عن نفسه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوۡتُ قَوۡمِي لَيۡلٗا وَنَهَارٗا * فَلَمۡ يَزِدۡهُمۡ دُعَآءِيٓ إِلَّا فِرَارٗا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوۡتُهُمۡ لِتَغۡفِرَ لَهُمۡ جَعَلُوٓاْ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَٱسۡتَغۡشَوۡاْ ثِيَابَهُمۡ وَأَصَرُّواْ وَٱسۡتَكۡبَرُواْ ٱسۡتِكۡبَارٗا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوۡتُهُمۡ جِهَارٗا * ثُمَّ إِنِّيٓ أَعۡلَنتُ لَهُمۡ وَأَسۡرَرۡتُ لَهُمۡ إِسۡرَارٗا} (نوح:5-9)؛ فلا عجب أن توجه إلى ربه بدعوته بعد (950) سنة فقال: {رَّبِّ لَا تَذَرۡ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ دَيَّارًا26 إِنَّكَ إِن تَذَرۡهُمۡ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوٓاْ إِلَّا فَاجِرٗا كَفَّارٗا} (نوح:26-27).
ولخصت سورة القمر موقف نوح وقومه، الذي انتهى بالطوفان الذي طهر الأرض من شرهم، بقوله تعالى: {كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحٖ فَكَذَّبُواْ عَبۡدَنَا وَقَالُواْ مَجۡنُونٞ وَٱزۡدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُۥٓ أَنِّي مَغۡلُوبٞ فَٱنتَصِرۡ * فَفَتَحۡنَآ أَبۡوَٰبَ ٱلسَّمَآءِ بِمَآءٖ مُّنۡهَمِرٖ * وَفَجَّرۡنَا ٱلۡأَرۡضَ عُيُونٗا فَٱلۡتَقَى ٱلۡمَآءُ عَلَىٰٓ أَمۡرٖ قَدۡ قُدِرَ * وَحَمَلۡنَٰهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلۡوَٰحٖ وَدُسُرٖ 13 تَجۡرِي بِأَعۡيُنِنَا جَزَآءٗ لِّمَن كَانَ كُفِرَ} (القمر:9-14).
وبعد نوح لقي رسل الله عليه السلام من أقوامهم من التكذيب والاتهام والإيذاء، ما انتهى بانتصار الله تعالى لرسله، وإنزال عقوبته على الذين كذبوهم وآذوهم. كما قال تعالى: {وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوۡمِهِمۡ فَجَآءُوهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَٱنتَقَمۡنَا مِنَ ٱلَّذِينَ أَجۡرَمُواْۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (الروم:47)، وها نحن نرى إبراهيم عليه السلام يُحاج قومه من عبدة الأصنام، فحججهم، ويبطل شبهاتهم بحججه الدامغة، وكان من حججه العملية: أن حطم أوثانهم بفأسه، وجعلها جذاذًا إلا كبيرًا لهم، لعلهم إليه يرجعون.
فلما عرفوا القصة، وجاءوا بإبراهيم ليحققوا معه بتهمة تحطيم آلهتهم، فسألوه: {ءَأَنتَ فَعَلۡتَ هَٰذَا بَِٔالِهَتِنَا يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُ * قَالَ بَلۡ فَعَلَهُۥ كَبِيرُهُمۡ هَٰذَا فَسَۡٔلُوهُمۡ إِن كَانُواْ يَنطِقُونَ} (الأنبياء:62-63)، فلما لم يجدوا لهم حجة قالوا: {حَرِّقُوهُ وَٱنصُرُوٓاْ ءَالِهَتَكُمۡ إِن كُنتُمۡ فَٰعِلِين} (الأنبياء:68)، وأوقدوا نارًا عظيمة ليحرقوه بها، وقذفوا به وسط هذه النار، فلم تحرق النار إبراهيم، بل قال الله لها: {يَٰنَارُ كُونِي بَرۡدٗا وَسَلَٰمًا عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ} (الأنبياء:69)، ونجَّاه الله من النار، ورد كيد القوم في نحرهم.
وبعد إبراهيم أبي الأنبياء جاء أولي العزم من الرسل: موسى عليه السلام، الذي أرسله الله إلى فرعون وقارون وهامان، فقالوا: ساحر كذاب.. وفرعون يمثل الملكية الطاغية المتألهة في الأرض، وقارون يُمثل الرأسمالية المستكبرة الكانزة لمال الله عن عباد الله، قائلًا: {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِيٓ} (القصص:78)، وهامان يمثل الواسطة المتسلقة التي تعيش في خدمة الملك والمال على حساب الشعب.
وقد قال فرعون: {ذَرُونِيٓ أَقۡتُلۡ مُوسَىٰ وَلۡيَدۡعُ رَبَّهُۥٓۖ إِنِّيٓ أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمۡ أَوۡ أَن يُظۡهِرَ فِي ٱلۡأَرۡضِ ٱلۡفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَىٰٓ إِنِّي عُذۡتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٖ لَّا يُؤۡمِنُ بِيَوۡمِ ٱلۡحِسَابِ * وَقَالَ رَجُلٞ مُّؤۡمِنٞ مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَكۡتُمُ إِيمَٰنَهُۥٓ أَتَقۡتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدۡ جَآءَكُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ مِن رَّبِّكُمۡ} (غافر:26-28)، {وَقَالَ ٱلۡمَلَأُ مِن قَوۡمِ فِرۡعَوۡنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوۡمَهُۥ لِيُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبۡنَآءَهُمۡ وَنَسۡتَحۡيِۦ نِسَآءَهُمۡ وَإِنَّا فَوۡقَهُمۡ قَٰهِرُونَ * قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِ ٱسۡتَعِينُواْ بِٱللَّهِ وَٱصۡبِرُوٓاْۖ إِنَّ ٱلۡأَرۡضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ * قَالُوٓاْ أُوذِينَا مِن قَبۡلِ أَن تَأۡتِيَنَا وَمِنۢ بَعۡدِ مَا جِئۡتَنَاۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يُهۡلِكَ عَدُوَّكُمۡ وَيَسۡتَخۡلِفَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرَ كَيۡفَ تَعۡمَلُونَ} (الأعراف:127- 129).
وحين نصر الله موسى ومَن معه من بني إسرائيل على فرعون وملائهم، وأطبق عليهم البحر، فكانوا من المغرقين: لقي موسى من أذى قومه وتمردهم ما لقي، حتى قالوا له: {فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَآ إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لَآ أَمۡلِكُ إِلَّا نَفۡسِي وَأَخِيۖ فَٱفۡرُقۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَٰسِقِينَ} (المائدة:24-25) يعني بهؤلاء القوم الفاسقين: قومه الذين نجَّاهم الله من فرعون على يديه. مع هذا ناله من أذاهم الكثير... حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم حين تطاول عليه بعض الخارجين عن الأدب وحسن الخلق قال: «يرحم الله أخي موسى، لقد أُوذي بأكثر من هذا فصبر!».
وجاء بعد موسى من أولي العزم المسيح عيسى ابن مريم، رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، أرسله الله إلى بني إسرائيل مصدقًا لما بين يديه من التوراة، ومبشرًا برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، ولقي من بني إسرائيل وأحبارهم ما لقي من الكيد والأذى والتكذيب والاتهام له ولأمه، وكان يقول لهم: يا أولاد الأفاعي! وكادوا له عند الرومان، وتآمروا على صلبه، وسجَّل ذلك القرآن عليهم: {وَبِكُفۡرِهِمۡ وَقَوۡلِهِمۡ عَلَىٰ مَرۡيَمَ بُهۡتَٰنًا عَظِيمٗا * وَقَوۡلِهِمۡ إِنَّا قَتَلۡنَا ٱلۡمَسِيحَ عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمۡۚ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّٖ مِّنۡهُۚ مَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍ إِلَّا ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَۢا * بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيۡهِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا} (النساء:156- 158).
وختم أولو العزم -بل ختم النبيون جميعًا- بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم الذي خصَّه الله بدعوة عالمية خالدة شاملة، فبُعث للناس أجمعين، أرسله الله بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ووفق سنن الله كان لا بد أن يُحارَب ويُحارِب، وكانت معاركه مع خصومه على كل مستوى، على الصعيد الأدبي، وعلى الصعيد الاقتصادي، وعلى الصعيد العسكري، لقد أوذي وأصحابه حتى استشهد منهم مَن استشهد تحت العذاب، وحوصروا حتى أكلوا أوراقَ الشجر، وأخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حقٍّ إلا أن يقولوا: ربنا الله، وقاتلوا وقتلوا، حتى لم يبقَ بيت إلا قدم شهداء.
ونزل القرآن المكي يواسيهم: {الٓمٓ * أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ * وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ} (العنكبوت:1-3)، كما نزل القرآن المدني يواسيهم، وقد رمتهم العرب عن قوسٍ واحدةٍ، وأمسوا ينامون في السلاح خشية مباغتة الأعداء بالهجوم عليهم، قال تعالى: {أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَأۡتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلِكُمۖ مَّسَّتۡهُمُ ٱلۡبَأۡسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلۡزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَآ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ} (البقرة:214) .
وبعد محمدٍ صلى الله عليه وسلم تعرض كل مَن تمسك بالحق ودافع عنه إلى الأذى، بل إلى القتل... حتى إن ثلاثة من الخلفاء الراشدين المهديين ماتوا مقتولين شهداء عند ربهم! عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، والحسين السبط رضي الله عنه مات شهيدًا مقتولًا مظلومًا.
وكل صاحب رسالة بعد ذلك من العلماء والربانيين والأئمة الصادقين، أوذي من أجل رسالته ما أوذي، فلم يهن لهم عزم، ولم تلن لهم قناة، ولم تخمد لهم جذوة، ولم يمت لهم أمل، بل كانوا كما قال الله في أمثالهم: {فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسۡتَكَانُواْۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّٰبِرِينَ} (آل عمران:146). دخل شيخ الإسلام ابن تيمية السجن من أجل تشبثه بأفكاره وما يؤمن به، ودخل كذلك تلميذه الإمام ابن القيم، وقضى ابن تيمية نحبه في السجن.
ولم يحن شيء من ذلك رأسه، أو يفت في عضده، أو يشعره بالأسى على ما أصابه، بل قابل ذلك كله برضا القلب، وسكينة النفس، وقال كلمته الشهيرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحتُ فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وكذلك كان موقف كل المصلحين والمجددين لهذا الدين، خاضوا لجج المحن، لجة وراء لجة، ومحنة إثر محنة، ومنهم مَن قدَّم عنقه فداء لدعوته، وهو يستحضر قول الصحابي الجليل:
ولست أبالي حين أقتل مسلمًا ** على أي جنب كان في الله مصرعي!
وقدمت الدعوة الإسلامية الحديثة، أو الحركة الإسلامية المعاصرة، قوافل من الشهداء، منهم من أعدم شنقًا، مثل: عبد القادر عودة، وسيد قطب، ومحمد فرغلي، ويوسف طلعت، وإبراهيم الطيب، وعبد العزيز البدري... ومنهم من اغتيل على يد خصومه، مثل: حسن البنا الذي اغتالته الحكومة بيد رجالها في عهد الملك، وقد حوكموا بعد الثورة... ومنهم مَن قُتلوا على يد سجانيهم، كما في حادث ليمان طرة الذي قتل فيه بضعة وعشرون سجينًا على يد حراسهم، ومنهم مَن قُتل تحت سياط التعذيب، مثل: شهداء زنازين العذاب في السجن الحربي، ومنهم مَن قُتل في معارك غير متكافئة مع خصومهم، فسقط الآلاف شهداء.
وهكذا يظل الصراع محتدمًا بين الحق والباطل في صور شتى، وبأساليب شتى تتغير الوجوه، وتتغير الأسلحة، وتتغير أرض المعركة، ولكنها أبدًا مستمرة لا تتوقف، وإن كانت تهدأ أحيانًا، ولكنه الهدوء الذي يسبق العاصفة، كما يقولون.
وما دام في الأرض خير وشر، وما دام في الناس أخيارًا وأشرارًا، وما دام لكل إنسان ملك يُلهمه، وشيطان يوسوس له، وما دام للناس شهوات تغريهم بالغي، وعقول تهديهم إلى الرشد، فسيظل التدافع قائمًا، والمعركة مشتعلة، والحرب سجالًا، حتى تكون العاقبة للحق ودعاته، وللتقوى وأهلها.
{كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ وَٱلۡبَٰطِلَۚ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِ} (الرعد:17)، {وَقُلۡ جَآءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَٰطِلُۚ إِنَّ ٱلۡبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقٗا} (الإسراء:81).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
القاهرة في: شعبان 1429هـ
أغسطس 2008م
يوسف القرضاوي