الأسرة كما يريدها الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رحمة الله للعالمين، سيدنا محمد وعلى سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وعلى آلهم وأصحابهم ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذه صحائف كتبتها حول الأسرة كما يريدها الإسلام، بمناسبة انعقاد مؤتمر الدوحة العالمي للأسرة، الذي نظمه المجلس الأعلى لشؤون الأسرة بدولة قطر.
وقد انعقد هذا المؤتمر بالدوحة في يومي 29، 30 نوفمبر 2004م، وبمشاركة من الأمم المتحدة، والجامعة العربية، وممثلي الأديان السماوية، والاتجاهات الحضارية، وبحضور عدد من الشخصيات المهمة من أنحاء العالم.
ومما سرني في هذا المؤتمر: أنه تبنى اتجاهًا غير اتجاه المؤتمرات الدولية السابقة حول المرأة والأسرة، مثل «مؤتمر السكان» في القاهرة في صيف سنة 1994م، ومؤتمر بكين سنة 1995م، ومؤتمرات أخرى في بكين ونيويورك وغيرها.
والتي اتخذت خطًّا يخالف ما قررته رسالات السماء، وما يؤمن به المتدينون في شتى أقطار الأرض، مثل: تأييد الإباحية الجنسية، وإجازة الزواج المثلي: «اكتفاء الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة»، وإباحة الإجهاض بإطلاق، بدعوى أن المرأة حرة في جسدها، تفعل به ما تشاء، ولو كان في ذلك قتل جنينها.
ومثل: ترك الحرية الجنسية المطلقة للأولاد، وعدم تدخل الآباء أو الأمهات في ذلك، بل نزع يد الوالدين عن تربية أولادهما بصفة مطلقة، فلا يجوز أن يفرض الأبوان على أولادهما لونًا معينًا من التربية، ولا أن يلقناهما عقيدتهما الدينية، وبالجملة: نزع سلطة الأبوين عن أولادهما الصغار، فلا يعود ثمت مجال لقول الشاعر:
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه!
كان هذا هو الاتجاه الغالب على تلك المؤتمرات، ولهذا وقف ممثلو الديانات السماوية في وجه ما فيها من انحرافات عن الصراط القويم: صراط الفطرة والدين، حتى وجدنا في مؤتمر السكان في القاهرة: الأزهر الشريف، ورجال الكنيسة الكاثوليكية «مندوب الفاتيكان»، والكنيسة الأرثوذكسية، ورابطة العالم الإسلامي، وممثل جمهورية إيران الإسلامية، وغيرهم يقفون جنبًا إلى جنب لمواجهة هذه التحديات الخطيرة، التي تحاول أن تقتلع الأسرة الطبيعية والأسرة الشرعية من جذورها.
أما هذا المؤتمر فقد أخذ وجهةً أخرى، هدفها المحافظة على الأسرة التي دعت إليها كل الأديان الكتابية، وباركتها التوراة والإنجيل والقرآن، ونادت بها اليهودية والمسيحية والإسلام، وأساس هذه الأسرة هو الزواج، هذا الرباط المقدس، أو «الميثاق الغليظ» كما سماه القرآن، الذي يربط بين الرجل والمرأة تحت مظلة الشريعة السماوية، وعلى أساس عقد شرعي معلن تترتب عليه حقوق وواجبات، ومن ثمرات هذا الزواج: وجود الأولاد الذين يعتبرون هبة من الله تعالى، سواء كانوا بنين أو بنات: {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَٰثٗا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ} [الشورى:49].
ومن فضائل هذا المؤتمر: أن المشاركين فيه كانوا جميعًا جبهة واحدة ضد الإباحية والتحلل، وكانوا جميعًا في صف القيم الدينية والأخلاقية، ولم يحدث خلاف بين المشاركين كما حدث في المؤتمرات الأخرى؛ لأن المؤتمر اهتدى بالفطرة التي فطر الله الناس عليها، كما اهتدى بتعاليم الدين الذي هو جوهر الوجود، وكذلك بقيم الفضائل التي توارثتها الإنسانية على توالي العصور.
وكانت الكلمات والبحوث والمناقشات كلها تدور في هذا الفلك، وتسير في هذا الاتجاه الطيب، الذي لا يثمر إلا طيبا، {وَٱلۡبَلَدُٱلطَّيِّبُ يَخۡرُجُ نَبَاتُهُۥ بِإِذۡنِ رَبِّهِۦۖ وَٱلَّذِي خَبُثَ لَا يَخۡرُجُ إِلَّا نَكِدٗا} [الأعراف:58].
ولقد شاركت في هذا المؤتمر ببحثين: أحدهما: حول الزواج المستقر، والثاني: حول تكاملية الأمومة والأبوة في بناء الأسرة، وهما اللذان أنشرهما اليوم في هذه الرسالة.
وأود أن أذكر هنا كلمة قلتها للمشاركين في مؤتمر الدوحة، وهي أننا -نحن أصحاب الأديان السماوية -متفقون في الأصول الكلية، والأسس الكبرى، التي يقوم عليها بناء الأسرة الطبيعية، بما فيها من زوجين وأولاد.
وهذه هي الأسرة النووية، أو الأسرة الصغيرة، أو الضيقة، ولكننا نؤمن بالأسرة الممتدة أو الموسعة، التي تشمل الآباء والأمهات، والأخوة والأخوات، والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، وأولادهم، وهم الذين يُسميهم القرآن: «أولي القربى»، أو «ذوي الأرحام»، ورتب لهم من الحقوق، وجعل عليهم من الواجبات، ما يجعلهم في دائرة واحدة، تربطها شبكة من الأحكام، مثل: أحكام «نظام المواريث»، و«نظام النفقات»، و«نظام العاقلة» في دفع ديات القتل الخطأ وشبه العمد... إلخ. وقد قال تعالى: {وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ} [الأحزاب:6].
كما أن للإسلام في شأن الأسرة أحكامًا يتميز بها، مثل: قوامية الرجل على المرأة، واختلاف ميراث الرجل عن المرأة، وشرعية تعدد الزوجات بقيده وشرطه، وشرعية الطلاق عند تعذر الوفاق، وغيرها، فلا يجوز أن يفرض على المسلمين أحكام تُناقض ما شرعه لهم دينهم، بل يجب احترام خصائص كل دين، وأحكام كل شريعة سماوية، متعاملين وفق القاعدة الذهبية: نتعاون فيما اتَّفقنا عليه، ونتسامح فيما اختلفنا فيه.
{رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ} [آل عمران:8].
الدوحة شوال 1425هـ الفقير إلى الله تعالى
ديسمبر 2004م يوسف القرضاوي