بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية

تحميل الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد...

فإن اهتمامي بالاقتصاد الإسلامي جزء من اهتمامي بالشريعة الإسلامية، والدعوة إلى تحكيمها في جميع مجالات الحياة، وإحلال أحكامها محل القوانين الوضعية والأنظمة المستوردة.

وقد زاد اهتمامي بالاقتصاد الإسلامي منذ شرعت أبحث عن «الزكاة» من بضع وعشرين سنة، وتبين لي أن فرض الزكاة وتحريم الربا يمثلان العمود الفقري للاقتصاد الإسلامي. ولهذا كانت الأولى «الزكاة» من أركان الإسلام الخمسة، وكان الثاني «الربا» من الموبقات السبع.

ولا غرو أن كانت الدعوة إلى تطهير الاقتصاد من الربا والمعاملات المحظورة، وإقامة مصارف «بنوك» إسلامية تحل محل البنوك الربوية، أمرًا ضروريًا لإقامة الحياة الإسلامية المنشودة، وهو فرع من دعوتنا إلى الإسلام كله.

وقد كان الكثيرون من رجال الاقتصاد والسياسة والقانون، يقفون في وجه هذه الدعوة أو - على الأقل - يعتبرونها ضربًا من الأماني الحالمة، والخيالات الواهمة! إذ لا اقتصاد بغير بنوك، ولا بنوك بغير فائدة! وهذا وضع عالمي لا يسعنا إلا أن نسايره، ونخضع له! وكان هذا من آثار الهزيمة النفسية أمام الحضارة الغربية، التي نادى بعضهم بأن سبيل نهضتنا تتمثل في وجوب أخذها كلها، كما هي، بخيرها وشرها، وحلوها ومرها، وما يحمد منها وما يعاب!

وأعجب من ذلك أن بعض المنتسبين إلى الفكر الإسلامي، انهزموا هم أيضًا فحاول من حاول منهم تبرير الواقع، ومنه الربا، بدعوى أن المحرم منه ما كان أضعافًا مضاعفة! أو بأن ربا العصر غير ربا الجاهلية الذي حرمه القرآن! أو بغير ذلك من الدعاوي!

ولكن الله هيأ لشريعته رجالًا نافحوا عنها، وأكدوا حرمة الربا كله، وبينوا مفاسده وأضراره، كما بينوا إمكان قيام اقتصاد بلا ربا، وبنوك بلا فائدة، وكتب في ذلك رواد صادقون، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وشاء الله أن يهيئ بعد رجال الفكر رجال العمل، الذين نقلوا الفكرة إلى الواقع، والنظرية إلى تطبيق، وقام أول بنك إسلامي خالص في «دبي» بدولة الإمارات العربية المتحدة، ثم توالى إنشاء البنوك الإسلامية، وهي والحمد لله تنمو الآن كمًا وكيفًا.

وقد كنت أرى مساندة هذه البنوك لونًا من العبادة والجهاد والواجب في هذا العصر ... ولهذا عضدت فكرة الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية، وأيدته بكل ما أستطيع منذ إنشائه وإلى اليوم والذي شرفني بأن أكون عضوًا في هيئته العليا للفتوى والرقابة الشرعية كما شاركت في الرقابة الشرعية لأكثر من مصرف ومن مؤسسة إسلامية، ومع هذا لم أشتغل بالكتابة في فقه المعاملات التي تجريها المصارف الإسلامية اكتفاء بالأخوة الذين سبقوني وتخصصوا في هذا الجانب، وهم أقدر عليه مني.

ولما كنا في المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي الذي عقد بالكويت أخيرًا جمادى الآخرة 1403هـ - مارس 1983م ثار بعض الجدل والنقاش حول معاملة معينة وهي ما أطلق عليه «بيع المرابحة للآمر بالشراء» التي تتعامل بها المصارف الإسلامية باعتبارها أسلوبًا من الأساليب البديلة عما تقوم به البنوك الربوية.

وقد بينت إحدى الصحف الكويتية حملة على المصارف الإسلامية شنها أحد الأخوة الذين نرتجيهم للعمل الإسلامي، ولا أدري كيف رضي أن يجعل من قلمه معولًا للهدم وللتشويش على المصارف الإسلامية، لأن له رأيًا مخالفًا في موضوع بيع المرابحة المذكور؟!

ولقد طلب إلي بعض الأخوة الأعزاء أن أشارك بالكتابة حول قضية «المرابحة» وذلك لما أثير حولها من غبار قد يجعل بعض الناس يتشكك في مشروعية هذا النوع من التعامل، بل يرتاب في مسيرة المصارف الإسلامية كلها. وبخاصة أن بعض الباحثين المعنيين بالفقه من دارسي الاقتصاد أو القانون نقدوا هذه المعاملة كذلك.

كما أن بعض الأعضاء في مؤتمر الكويت كان لهم تحفظ على جزء منها، وهو ما يتعلق بالإلزام بالوعد.

والحقيقة أني كنت عازفًا عن الخوض في هذا الموضوع لجملة أسباب:

أولها: أن المسألة قد صدرت فيها عدة فتاوى (1) ، منها فتوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله ، وفضيلة الشيخ بدر عبد الباسط. ومنها فتويان جماعيتان من عدد لا بأس به من كبار علماء المسلمين.

أحدهما: عن المؤتمر المصرفي الإسلامي الأول المنعقد في دبي جمادى الآخرة 1399هـ - مايو 1979م».

والثانية: عن المؤتمر الثاني المنعقد في الكويت في جمادى الآخرة 1403هـ - مارس 1983م.

صحيح أن الفتوى الأخيرة في بعض فقراتها كانت بأغلبية لجنة العلماء المحكّمين، ولكن هذا كاف في المسائل الاجتهادية، التي قلما يتوافر لها الإجماع.

ثانيها: أن المصارف والمؤسسات الاقتصادية الإسلامية بخير، وهي تزداد كل يوم نماءً وتمدد طولًا وعرضًا وعمقًا، ولم أرها - حسبما شاهدته ولمسته - تتأثر بالحملات التي تشن عليها، من خصوم يريدون التشهير والتشويش، باصطياد الشبهات، فإن أعوزتهم فباختلاق الأكاذيب ... أو من مخلصين متشددين متعصبين لوجهة نظر واحدة، مدفوعين بدافع الغيرة والمحافظة عليها أن تتورط في حرام أو شبهة حرام. أو هكذا يدعون، وحسابهم على الله.

ثالثها: أن موضوعًا كهذا ثار حوله الجدل، يقتضي مما يكتب فيه أن يتوفر عليه، ويعطيه حقه من البحث والمراجعة والتدقيق. ولهذا يتطلب وقتًا قد لا يتيسر لي. فلا داعي للدخول في موضوع قد لا أتمكن من إتمامه. وهذا ما يحدث معي كثيرًا للأسف.

رابعها: أني أكره المراء والجدل، ولا أراه يأتي بخير، وإنما يوغر الصدور، ويباعد بين القلوب، وقد جربت ذلك، فلم أجد أحدًا يدع ما اعتنقه من فكر، وما تبناه من رأي إلى غيره، إلا من رحم ربك، وقليل ما هم.

ولهذا وجدت أن من تبديد الحياة - والوقت هو الحياة - أن ننفقها في الأخذ والرد والجذب والشد، والاعتراض والجواب، دون الحصول في النهاية على طائل، هذا مع قصر الأعمار، والشعور الدائم بأن الواجبات أكثر من الأوقات.

هذه كانت أسباب عزوفي عن الخوض في مسألة المرابحة وما افتعل حولها من قيل وقال.

ولكن الأخوة الأفاضل أبوا إلا أن أكتب رأيي، إبراء للذمة، وأداء للأمانة. وإذا كان معظم أصحاب الآراء لا يتنازلون عن رأيهم، فإن جمهور الناس محايدون وهم وراء من يقتنعون بسداد رأيه، وسلامة اتجاهه، وقوة حجته ثم إن خدمة الحقيقة مطلوبة لذاتها، بغض النظر عن ظرف معين، وملابسات عارضة.

ونحن مطالبون بذلك باعتبارنا مسلمين وملزمون به باعتبارنا علماء، أخذ الله عليهم الميثاق بالبيان. وخصوصًا فيما بين محاسن شريعة الله، ويضع عن الناس الآصار والأغلال التي كانت على الأمم من قبلنا.

وهذا ما حفزني أخيرًا لأكتب هذا البحث معبرًا عن رأيي الشخصي، لا بأي صفة أخرى، معتمدًا على النصوص والقواعد الشرعية. بعيدًا عن التعصب والتقليد.

وأكد هذا اعتقادي أن المصارف الإسلامية إحدى ثمرات العمل الإسلامي الطويل، وهي تجسيد للصحوة الإسلامية في ميدان الاقتصاد الذي هزم المسلمين فيه فترة من الزمن هزيمة كادت تكون كاملة أمام الأنظمة الغربية. ولذا كان تشويه وجهها والتشويش عليها لا يستفيد منه إلا خصوم الإسلام.

بهذه النية - التي أدعوا الله أن يخلصها لوجهه - أكتب هذه الصحائف، متمثلًا بقول شعيب سسس: {إِنۡ أُرِيدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُۚ وَمَا تَوۡفِيقِيٓ إِلَّا بِٱللَّهِۚ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ أُنِيبُ} [هود: 88](2) .

الدوحة في شعبان سنة 1403هـ.

الفقير إلى ربه

يوسف القرضاوي

.....

(1) انظر بعض هذه الفتاوى بعد هذه المقدمة.

(2) كتبت هذه المقدمة بعد فراغي من هذه الدراسة في شعبان من العام الماضي، ولم أنشط لنشرها، اشتغالًا بأمور أخرى، حتى نشرت جريدة «الشرق الأوسط» مقالتها أو قل: حملتها على البنوك الإسلامية. وكان بيع المرابحة كذلك أحد أسلحة الهجوم على المصارف الإسلامية. لهذا رأيت ضرورة المبادرة بنشر هذه الدراسة، وأن التواني في نشرها تفريط في حق الاقتصاد الإسلامي ومسيرته الجديدة، وخيانة للحقيقة كما أتصورها. ولكل امرئ ما نوى. والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل. جمادى الأولى 1404.