من فقه الدولة في الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد ...
فهذه فصول «في فقه الدولة في الإسلام»، وهو فقه قصر فيه المسلمون كثيرًا في الأزمنة الأخيرة، ولم يعطوه حقه من البحث والاجتهاد، كما أعطوا مجالات الفقه الأخرى، التي توسعت وتضخمت، وخصوصًا فقه العبادات.
ولقد شكا الإمام ابن القيم في عصره «القرن الثامن الهجري» من جمود فقهاء زمنه، حتى إنهم اضطروا أمراء عصرهم إلى أن يستحدثوا «قوانين سياسية» بمعزل عن الشرع، وحمل ابن القيم الفقهاء الجامدين تبعة انحراف الأمراء والحكام، وشرودهم عن منهج الشريعة السمحة. وربما يعتبر هذا أول تسلل للقوانين الوضعية لتحل محل أحكام الشريعة الإسلامية.
ما زال لهؤلاء الجامدين من أهل الفقه أخلاف في عصرنا، يعيشون في القرن الخامس عشر الهجري، ولكنهم يفكرون بعقول علماء ماتوا من قرون، وقد تغير كل شيء تقريبًا في الحياة عما كان عليه الحال في عهود أولئك العلماء. ونسى هؤلاء أن الإمام الشافعي غير مذهبه في مدة وجيزة، فكان له مذهب جديد، ومذهب قديم. وأن أصحاب أبي حنيفة خالفوه في أكثر من ثلث المذهب، لاختلاف عصرهم من عصره، وقالوا: لو رأى صاحبنا ما رأينا، لقال بمثل ما قلنا أو أكثر ... والإمام أحمد تُروى عنه في المسألة الواحدة روايات قد تبلغ سبعا، أو أكثر وما ذلك إلا لاختلاف الأحوال والملابسات، وتغير الظروف والأوضاع في غالب الأحيان.
رأينا ممن ينتسبون إلى الفقه في عصرنا، ومن يحسبون ضمن فصائل الصحوة الإسلامية، من يقول: إن الشورى معلمة لا ملزمة، وإن من حق ولي الأمر أن يستشير ليستنير، ثم يضرب برأي أهل الشورى عرض الحائط إن شاء وينفذ رأيه هو! وإنه الذي يعين مجلس الشورى، ثم يقره إن شاء، ويحله متى شاء!
رأينا من يرفض فكرة التعددية في ظل الدولة الإسلامية، ومن يرفض فكرة الانتخابات لاختيار رئيس الدولة، أو اختيار ممثلي الشعب في مجلس الشورى أو المجلس النيابي. ومن يرفض الأخذ بالأغلبية في التصويت، ومن يرفض تحديد مدة رئيس الدولة بسنوات معدودة، ومن يرى أن كل ما جاءت به الديمقراطية منكر تجب محاربته...
رأينا من يرفض أن يكون للمرأة صوت في الانتخابات، بلة أن يكون لها حق الترشيح في المجالس النيابية، وبذلك يعطل نصف الأمة، وكذلك من لا يعطي لغير المسلمين هذا الحق، في التصويت أو الترشيح، أو يكون لهم نصيب من المشاركة في الحكم، بل هناك من يقول: لا يجوز للمسلم أن يرشح نفسه للمجلس ولا لغيره، لأنه بهذا يطلب الولاية لنفسه، وطالب الولاية لا يولى! وهؤلاء قلة بالنسبة لجمهور الصحوة الإسلامية، وإن كان صوتهم عاليًا، وهناك قوى معروفة- معادية للصحوة الإسلامية، والبعث الإسلامي - تنفخ في هؤلاء، وتحاول أن تضخمهم وتبرزهم، لغرض في أنفسهم.
وفي مقابل هؤلاء الجامدين: وجدنا من ينكر أن يكون في الإسلام دولة تحكم بما أنزل الله، ويفصلون بين الدين والسياسة فصلًا تامًا، فلا دين في السياسة ولا سياسة في الدين! يريدون أن يطبقوا على الإسلام في الشرق ما طبق على المسيحية في الغرب، مع أن الإسلام غير المسيحية، والمسجد غير الكنيسة، وتاريخ علماء الإسلام هنا غير تاريخ رجال الكهنوت هناك، ولا يوجد في الإسلام: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، بل يعلن الإسلام أن قيصر وما لقيصر كله لله الواحد الأحد. ولم يقف الإسلام ضد العلم والفكر والإبداع والتحرر، كما وقفت الكنيسة في الغرب. ولم ينشئ محاكم التفتيش الرهيبة التي أنشأتها الكنيسة لتحاكم العلماء والمفكرين والمبدعين، أحياء وأمواتا!
رأينا هؤلاء يريدون تجريد الإسلام من السلطة الزمنية، وهو ليس فيه سلطة دينية، كالمسيحية، فمعناه: أن يبقى أعزل ضعيفًا لا سلطة له لا في الدولة ولا في الدين. رأينا هؤلاء يخرجون على إجماع الأمة الثابت المستيقن طوال تاريخها حيث آمنت بأن الإسلام عقيدة وشريعة، ودين ودولة، وعبادة وقيادة، وصلاة وجهاد، وأن رسول الله صصص هو أول رئيس لدولة الإسلام، وسار على دربه خلفاؤه من بعده، وأن الخلافة هي: نيابة عن رسول الله صصص في إقامة الدين، وسياسة الدنيا به.
هؤلاء «العلمانيون» من الليبراليين أو الماركسيين يدعون الإسلام، مجرد دعوى، ولكنهم لا يخضعون لحكمه، ولا يقفون عند أمره ونهيه، ولا يرجعون لكتابه وسنته، وإذا رجعوا يومًا فلكي يحرفوا الكلم عن مواضعه، ويلووا أعناق النصوص لتخضع لهم، لا ليخضعوا لها وليس هذا من صنع أهل الإيمان، كما قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوۡلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذَا دُعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ أَن يَقُولُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} [النور: 51].
وهم يسخرون من «الإسلام الشامل» الذي لم يعرف المسلمون غيره طوال القرون، ويسمونه «الإسلام السياسي» كأن هناك أنواعا من الإسلام: إسلامًا روحيًا، وإسلامًا فكريًا، وإسلامًا اجتماعيًا، وإسلامًا سياسيًا! والإسلام هو الإسلام من حيث جوهره، ومن حيث مقوماته، ومن حيث مصادره، هو إسلام القرآن والسنة.
وبين هؤلاء العلمانيين المتحللين من عُرا الإسلام، وأولئك الجامدين الغائبين عن العصر: يقف تيار «الوسطية الإسلامية» الذي يأخذ الإسلام من منابعه الصافية، ويؤمن بأنه منهاج كامل للحياة، للفرد والأسرة والمجتمع والدولة. وهو ينظر إلى الإسلام بعين، وإلى العصر بعين، يجمع بين القديم النافع والجديد الصالح، ويلتزم بالسلفية المجددة، ويوازن بين الثوابت والمتغيرات، ويدعو إلى احترام العقل، وتجديد الفكر، والاجتهاد في الدين، والابتكار في الدنيا، ويقتبس من أنظمة العصر أفضل ما فيها، ويرى أن الديمقراطية أقرب ما تكون إلى الإسلام، بعد أن تنقى من بعض ما بها من شوائب، وأن تطعم بما ينبغي من قيم الإسلام وأحكامه.
وهذا الكتاب هو تعبير عن فقه هذا التيار في هذا الجانب الخطير: جانب الدولة في الإسلام: ما مكانتها؟، ما حكم إقامتها؟ وما معالمها المميزة لها؟ وما طبيعتها؟ أهي دولة مدنية ملتزمة بالإسلام أم دولة ثيوقراطية دينية كهنوتية؟ وكيف نرد على من يزعمون أنها دولة دينية تحكم بالحق الإلهي؟ وما موقفها من التعددية والديمقراطية، ومن المرأة، ومن غير المسلمين؟ وهل يجوز لأي جماعة إسلامية أن تشارك في الحكم في دولة علمانية؟ إلى آخر هذه القضايا الحساسة والمهمة.
أرجو أن نكون بهذه الفصول قد ألقينا بعض الضوء على هذه القضية الكبيرة، ورددنا على بعض الشبهات المثارة، وبينا الموقف الوسط بين الجامدين والجاحدين ...
هذا وقد اقتبست بعض ما كتبته من قبل في كتب أخرى، وخصوصًا في الجزء الثاني من كتابي «فتاوى معاصرة» فلعل إثبات هذه الفتاوى في الفقه السياسي هنا وإبرازها أحق وأولى.
والله يقول الحق وهو يهدى السبيل
القاهرة: غرة جمادى الأولى سنة 1417هـ - 15/6/1996م
يوسف القرضاوي