الإمام الغزالي بين مادحيه وقادحيه
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم الطبعة الثالثة
الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ...
أما بعد ...
فهذه الصحائف التي بين يديك - أخي القارئ - تلقي شعاعًا من ضوء على أحد عمالقة الفكر والتجديد في تراثنا الإسلامي، إنها عبقرية فذة، أنبتتها تربة الحضارة الإسلامية الخصبة، التي طالما هيأت لأبناء الفقراء والكادحين أن يرتقوا شوامخ القمم بمواهبهم وكفاحهم، وأن يفرضوا أنفسهم على الزمن، ويصغي لهم سمع التاريخ.
فمن كان يظن أن ذلك الصبي الذي كان يكسب أبوه عيشه من مغزله، والذي لم يدع له من المال ما يكفيه مدة الصبا، حتى اضطر أن يدخل هو وشقيقه إحدى المدارس التي تتكفل بإيواء طلابها وإطعامهم والنفقة عليهم، من كان يظن أن ذلك الغلام سيصبح يومًا حجة الإسلام، وعلم الأعلام، وأن الشرق والغرب سينتفعان به ويخلدان أثره؟
إنه الغزالي، الذي أثر في الفكر الإسلامي، وفي الحياة الإسلامية، تأثيرًا منقطع النظير، من خلال عطائه الفكري، وعطائه الروحي، ومن خلال قصة كفاحه في سبيل الوصول إلى الحقيقة واليقين، والسعادة الروحية، التي هي عنده غاية الغايات.
أجل إنه الغزالي، الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، في حياته وبعد وفاته، واختلف فيه السابقون، كما اختلف فيه اللاحقون والمعاصرون. فمن مبالغ في الإعجاب به، والثناء عليه ... ومن مسرف في الاتهام له، والتحامل عليه. ومن معتدل بين هؤلاء وهؤلاء، يعطي الرجل حقه، ويمدحه بما هو أهله، وينقده فيما يرى أنه قصر أو أخطأ فيه، والعصمة لمن عصمه الله.
وجدنا من السابقين من يعظم كتبه، حتى قال من قال: كاد «الإحياء» يكون قرآنًا! ووجدنا في مقابله من يقول: إنه إحياء لدينه هو، وليس إحياء لدين المسلمين! فلا عجب، أن رأينا من تقرب إلى الله بإحراق كتبه، ومن تقرب إلى الله بنشرها وتعميمها! ولا غرو، فالرجل خاصم فئات كثيرة، ألبها جميعًا ضده، وهاج عداوتها له.
فقد هاجم الفلاسفة، وفضح الباطنية، وندد بالحشوية، وعاب المقلدين وانتقد المتكلمين، ولام الفقهاء، وحمل على العلماء الذين يلتمسون الدنيا بالدين، وسماهم «علماء الدنيا»، كما حمل على علماء «الظاهر» من الحرفيين الذين حجبهم القشر عن اللباب، وكشف اللثام عن كثير من ظاهر التدين المغشوش لدى طوائف شتى من المجتمع.
كما كانت عنده - باعتباره بشرًا غير معصوم - نقاط ضعف، أخذها عليه منتقدوه، لعل أبرزها قلة محصوله في علم الحديث، وهو ما اعترف به، لعل أبرزها قلة محصوله في علم الحديث، وهو ما اعترف به، وتسليمه الكامل بمناهج الصوفية وأفكارهم، دون أن يحاكمها إلى قانون الفقه الذي برع فيه وفي أصوله.
وقديمًا قالوا: من ألف فقد استهدف، فكيف برجل كالغزالي، كان غزير التأليف، ثر العطاء، خصب الإنتاج، متنوع القدرات، متعدد المجالات، مع حرية في التفكير، وجراءة في التعبير؟ ثم هو يتعرض لتحقيق مسائل شائكة، والبحث في قضايا عويصة، هي مزلة أقدام، ومضلة أفهام، اعتركت فيها العقول، أو اضطربت فيها النقول، واختصمت فيها الفرق والمذاهب، وتباينت فيها الاتجاهات والمشارب، وغرق في بحرها الأكثرون، و ما نجا منه إلا الأقلون، و {كُلُّ حِزۡبِۢ بِمَا لَدَيۡهِمۡ فَرِحُونَ} (الروم: 32) .
ولا غرو أن تباينت فيه الأقوال، ما بين معظم له كل التعظيم، ومهاجم له أعنف الهجوم، شأن كثير من العظماء في التاريخ. هذا عن المتقدمين. وأما المعاصرون فيهم مختلفون فيه أيضًا، تبعًا للمدارس الدينية والتيارات الفكرية التي ينتمون إليه، فالمدرسة الأشعرية التقليدية التي ينتمي إليها معظم الأقطار الإسلامية تعظمه غاية التعظيم، وكذلك المدرسة الصوفية بمختلف طرقها تضعه في مرتبة الصديقين.
وأما المدرسة السلفية التي تخاصم الأشعرية، وتعادي الصوفية، فلها موقف آخر من الغزالي، فمنهم من يعترف بفضله، وينقده برفق واعتدال، ومنهم من يرسل عليه وعلى كتبه كلها شواظًا من نار، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على عظمة الرجل، وإبداعه، وخصوبة إنتاجه، وسعة آفاقه، وتنوع عطائه، شأن كثير من العظماء الذين يجنح كثير من الناس فيهم، إما إلى إفراط، وإما إلى تفريط.
ورضي الله عن علي بن أبي طالب الذي قال عن نفسه: هلك في رجلان: محب مغال، ومبغض ضال! وعلى كل حال، فإننا نجد المعجبين به، والمثنين عليه، أكثر عددًا وأعز نفرًا من الطاعنين عليه. قال فيه الإمام محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر المعروف: إنه جملة رجال في رجل واحد! وذكره الإمام المودودي ضمن الأعلام المعدودين الذين كان لهم دور بارز في إحياء الدين وتجديده، وعدد مجالات تجديده، ونوه بأثره في كل منها.
ويقول العلامة أبو الحسن الندوي: الغزالي من نوابغ الإسلام وعقوله الكبيرة، ومن كبار قادة الفكر الإسلامي، ورجال الإصلاح والتجديد، الذين لهم فضل كبير في بعث الروح الدينية، وإيقاط الفكر الإسلامي، ومهما قيل فيه وقيل عنه، فإن إخلاصه أسمى من أن يشك فيه.
ورفعه شيخنا الدكتور عبد الحليم محمود إلى الذورة في العطاء الفكري وفي الارتقاء الروحي، معًا، ويراه العلامة أبو زهرة: في أصول الفقه فليسوفًا بين الفقهاء، وفي فروعه، محققًا يتبع الدليل، و لا يتبع الأشخاص، وهو في الفقه أبين أثرًا منه في الكلام والفلسفة.
أما الأستاذ عباس العقاد، فيعتبره - قبل أن يكون فقيهًا ومتكلمًا وصوفيًا - الفيلسوف الذي اكتملت له كل أدوات الفلسفة، من القدرة على التجرد، والقدرة على التجريد.
ويقول عنه الدكتور أحمد فؤاد الأهواني: إنه مؤسس علم النفس الإسلامي، ويصفه الدكتور زكي نجيب محمود بأنه «العملاق العظيم»، ويلخص موقفه بعد فترة الشك في هذه العبارة: أنا أريد ... إذن أنا إنسان.
والدكتور سليمان دنيا ينعته بأنه الشخصية الفذة التي حيرت الكاتبين والمحللين، والدكتور أبو ريدة يقول عنه: من أكبر مفكري الإسلام، ولعله أقربهم إلى الابتكار، وهو بطل من أبطال الإسلام الخالدين، والذين ناضلوا عنه ...
والدكتور أبو ريان يرى أنه الشخصية التي هيأتها الأقدار للقيام بدور المواجهة الجذرية والحاسمة لتآمر الباطنية، ودعاوي الفلاسفة وأصحاب المناهج العقلية المعارضة للعقيدة.
هذا إلى جوار ما قاله عنه الأجانب والمستشرقون. ومهما يكن من الخلاف في منزلة الغزالي وأثره في الأمة الإسلامية بالإيجاب أو بالسلب، فإن التاريخ يذكر أن جمهور المسلمين قد عرفوه بأنه «حجة الإسلام» و«مجدد القرن الخامس» و«محيي علوم الدين».
وإن المعاصرين - مهما اختلفوا في تقويمه - فهو عندهم جميعًا في الذروة من أعلام الفكر في الإسلام، وأعلام الفكر في العالم، وأعلام الباحثين عن الحق. وما كتب عنه في الشرق والغرب، بالعربية وغيرها، من المسلمين وغير المسلمين شيء يصعب حصره.
وستظل الأقلام تكتب، والمكاتب تنشر، والعالم يقرأ عن الغزالي، ولن تتوقف الندوات ولا المؤتمرات ولا المهرجانات التي تقام لإحياء ذكرى الغزالي.
رحم الله إمامنا الغزالي، وجزاه عن دينه وأمته خيرًا، وآجره على ما تحرى فيه الحق فأخطأه. آمين.
يوسف القرضاوي