شريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان

تحميل الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد:

فإن أصل هذا الكتاب بحث شاركت بإلقائه في «ندوة التشريع الإسلامي»، التي عُقِدت بمدينة البيضاء بالجمهورية العربية الليبية، في ربيع الأول 1392هـ. أيار «مايو» 1972م. بدعوة من الجامعة الليبية، وبإشراف كلية اللغة العربية، والدراسات الإسلامية.

وقد دُعي إلى هذه الندوة أكثر من ثلاثين عالمًا وباحثًا من كبار المشتغلين بفقه الشريعة الإسلامية لإلقاء طائفة من البحوث الفقهية المقارنة، حول عدد من الموضوعات الهامة، وذلك لمساعدة اللجان المشكلة لتعديل القوانين الوضعية الليبية بما يتفق مع مبادئ الشريعة الإسلامية. وكان على رأس الموضوعات التي عالجتها الندوة «صلاحية الشريعة للتطبيق في كل زمان ومكان»، وبالتالي صلاحيتها للتطبيق في عصرنا الحديث.

وما كان يتصور أن تكون مثل هذه القضية موضع ريب أو جدال في أي بلد مسلم، فهذا من لوازم الإيمان، ومقتضى الإسلام {وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡ} (الأحزاب: 36)، {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا} (النساء: 65) .

ولكن المسلمين في الأعصرة الأخيرة، ابتلوا بالاستعمار الكافر، الذي احتلّ ديارهم في غفلة من أهلها، فلم يدع دعامة من دعائم الحياة الإسلامية إلا زلزلها وزعزعها، أو وضع الألغام من تحتها، لعلها تنفجر يومًا ما، فتأتي عليها من القواعد. ولما حمل الاستعمار العسكري والسياسي عصاه ورحل، كان قد ترك وراءه آثاره و«بصماته» فى كل جنبات الحياة التشريعية والفكرية والخلقية والعملية.

وكان أخطر ما تركه الاستعمار وراءَه هو رواسب الغزو الفكري والثقافي، الذي عمل عمله في عقول الأجيال الناشئة من أبناء الأمة المسلمة، وبخاصة الذين لم يتح لهم أن يتثقفوا بالثقاقة الإسلامية؛ فقد غير هذا الغزو المخطط المدروس كثيرًا من المفاهيم الإسلامية الأصلية، وأحل محلها مفاهيم غربية دخيلة، وما لم يستطع تغييره من القيم والأفكار، أعمل فيه معول التشكيك والبلبلة، حتى تفقد الأمة ثقتها بذاتها وبدينها وبتراثها، وتصبح أُمَّة بلا أساس، ولا جذور، وبذلك يسهل على أعدائها تسييرها إلى حيث يريدون، فإن أبت حطموها بغير جهد كبير.

ومن الأفكار التي روّجوها بواسطة مبشريهم ومستشرقيهم وتلاميذهم وعبيد فلسفتهم وحضارتهم: أن الشريعة الإسلامية شريعة قديمة لا تصلح لهذا العصر، ولا تقدر على إيجاد حلول لمشكلات الحياة المتجددة، وأوضاعها المتطورة؛ لأنها شريعة وجدت منذ أربعة عشر قرنًا، في عصر غير هذا العصر، وبيئة غير هذه البيئة، وأقوام غير هؤلاء الأقوام، فلا يعقل أن تكون شريعة عصر الجمل! صالحة لعصر الطائرات والمراكب الفضائية، والعصر القمري، كما قالوا.

ومن الغريب أن بعض أبنائنا - عن غفلة وسذاجة - صدّقوا - أو كادوا - هذه الدعوى الكاذبة؛ لعدم تمتعهم بالثقافة الإسلامية التي تحصنهم من تأثير هذه الدعايات المسمومة؛ لهذا كانت الأمانة العامة لـ «ندوة التشريع الإسلامي» على حق، حين اقترحت أن يكون ضمن بحوثها - بل أولها - «بحث بعنوان الشريعة الإسلامية صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان»، ليكون بمثابة الأساس الفكري، والدعامة النظريةالأساسية لفكرة العودة إلى الشريعة المقدسة، وليكون ردا علميا على المشككين والشاكين في صلاحية الشريعة لعصرنا ولكل الأعصار. وإلي جواز ذلك رسم الطريق الذي يبين لنا كيف نعالج الأوضاع والمشكلات المتجددة في ضوء الشريعة الخالدة.

وقد رأى بعض الإخوة الغيورين أن في تعميم نشر هذا البحث نفعًا لكثير من المسلمين، وردا على كثير من أسئلة المستفسرين، وشبهات الشاكين والمشككين، ولم أجد بدا من الاستجابة لرغبة هؤلاء الإخوة، فعكفت على البحث أنقحه وأضيف إليه حتى خرج على هذه الصورة، التي أسأل الله تعالى أن ينفع بها.

وقد رأيت أن يشتمل هذا البحث على ثلاثة أقسام أو أبواب مرتبة كما يلي:

الأول: يتضمن شهادات وأدلة على صلاحية الشريعة للتطبيق في كل زمان ومكان. وفيه شهادة الوحي، وشهادة التاريخ، وشهادة الواقع.

الثانى: عن ضرورة الاجتهاد لمعالجة الأوضاع المتطورة، والمشكلات المتجددة، في ضوء الشريعة، وفيه نبين مرادنا بالاجتهاد هنا، وموقفنا من التراث الفقهي، ومن فهم النصوص، ومن المسائل الجديدة.

الثالث: عن شروط عملية يجب توافرها عند تطبيق الشريعة في مختلف النواحي القانونية، حتى تؤتي أكلها، وتسعد أهلها.

ولعلي بذلك أكون قد جليت بعض ما يجب تجليته في هذه القضية الهامة. وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

 

الدوحة - صفر 1393هـ

يوسف القرضاوي