التوبة إلى الله

تحميل الكتاب

مقدمة

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على معلم الناس الخير، و هادي البشرية إلى الرشد، وقائد الخلق إلى الحق، و مخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، سيدنا وإمامنا، وأسوتنا وحبيبنا: محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد.. فهذا هو الجزء الرابع من هذه السلسلة: «في الطريق إلى الله»، وهو يتعلق بمنزلة عظيمة من منازل السائرين إلى الله، والسالكين طريقه تتت، وهي: التوبة.

ومن علماء السلوك من يقدم التوبة على غيرها من منازل السالكين، ومقامات الصالحين، كما فعل الإمام الغزالي في كتابه «منهاج العابدين»، حيث جعل «عقبة التوبة» هي العقبة الثانية بعد «عقبة العلم» الذي اعتبره أول ما يجب عبوره واجتيازه لمن ينبغي الوصول إلى الله تعالى، أي إلى رضوانه وحسن مثوبته. وفي «الإحياء» جعل للتوبة الكتاب الأول من «ربع المنجيات»، ولكني في هذه السلسلة لم ألتزم ترتيبًا معينًا، إنما أقدم للنشر ما يفتح الله تعالى علي بإنجازه، وقد يمكن ترتيبها فيما بعد ترتيبًا منطقيًا.

إن علم التوبة: علم مهم، بل ضروري، والحاجة إليها ماسة، وخصوصًا في عصرنا، وقد غرق الناس في الذنوب والخطايا، ونسوا الله فأنساهم أنفسهم، وتكاثرت عليهم المغريات بالشر، والمعوقات عن الخير، وتكالبت على صدهم عن سبيل الله، وإغرائهم بسبل الشيطان: وسائل جهنمية، وأجهزة جبارة، تقرأ وتسمع وتشاهد، وتؤثر بالصوت وبالصورة وبالغنم واللحن، وبالتمثيل والتهويل..

وتعاونت على ذلك شياطين الإنسان والجن، وأعداء الداخل والخارج، وساعد على ذلك الأنفس الأمارة بالسوء، وركونها إلى الدنيا، ونسيانها للموت، وللحساب، وللجنة والنار، وغفلتها عن ربها وخالقها الواحد القهار، فلا عجب إذا أضاعوا الصلوات و ابتعوا الشهوات، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، و فرطوا في حدود الله، وحقوق الناس، واستمرؤ وا أكل أموال الناس بالباطل، ولم يبالوا بما كسبوا من مال: أكان من حلال أم من حرام.

ألا ما أحوج الناس على نذير يصرخ فيهم: أن أفيقوا من سكرتكم، وانتبهوا من رقدتكم، وثوبوا إلى رشدكم، وتوبوا إلى ربكم، قبل ان يأتي يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.

في هذا الجزء اجتهدنا أن نوقظ القلوب الغافلة، ونرد العقول الشاردة، ونقوي العزائم المسترخية، وأن نبين للناس أهمية التوبة وضرورتها وفضلها، ووجوب فوريتها، و نبين مقوماتها وأركانها وأهم أحكامها، كما نبين ثمراتها ومكاسب التائب من ورائها في الدنيا والآخرة، كما بينا الموانع منها، والعقبات في طريقها، ثم البواعث عليها، وقد أطلنا في ذلك لشدة الحاجة إليه في عصر الشهوات والغفلات والشبهات.

ولقد اهتم علماء السلوك جميعًا بالتوبة وتحدثوا عنها، عن حقيقتها وأركانها وشروطها: من أبي القاسم الجنيد وأبي سليمان الداراني وذي النون المصري، ورابعة العدوية، وغيرهم. وكذلك المؤلفون في السلوك: من المحاسبي إلى المكي إلى القشيري إلى الغزالي، إلى ابن القيم إلى من بعدهم.

ولقد بين الإمام الغزالي في مقدمة كتاب «التوبة» من «الإحياء» أن التوبة عن الذنوب – بالرجوع إلى ستار العيوب وعلام الغيوب – مبدأ طريق السالكين، ورأس مال الفائزين، وأول أقدام المريدين، ومفتاح استقامة المائلين، ومطلع الاصطفاء والاجتباء للمقربين، ولأبينا آدم عليه الصلاة والسلام وعلى سائر الأنبياء أجمعين. وما أجدر بالأولاد الاقتداء بالآباء والأجداد، فلا غرو إن أذنب الآدمي واجترم، ومن أشبه أباه فما ظلم، ولكن الأب إذا جبر بعدما كسر، وعمر بعد أن هدم، فليكن النزوع إليه في كلا طرفي النفي والإثبات، والوجود والعدم، ولقد قرع آدم سن الندم، وتندم على ما سبق منه وتقدم، فمن اتخذه قدوة في الذنب دون التوبة، فقد زلت به القدم، بل التجرد لمحض الخير دأب الملائكة والمقربين، والتجرد للشر دون التلافي سجية الشياطين، والرجوع إلى الخير بعد الوقوع في الشر ضرورة الآدميين؛ فالمتجرد للخير ملك مقرب عند الملك الديان، والمتجرد للشر شيطان، والمتلافي للشر بالرجوع إلى الخير بالحقيقة إنسان؛ فقد أزدوج في طينة الإنسان شائبتان، واصطحب فيه سحيتان، وكل عبد مصحح نسبه، إما إلى الملك، أو إلى آدم، أو إلى الشيطان؛ فالتائب قد أقام البرهان، على صحة نسبه إلى آدم بملازمة حد الإنسان، والمصر على الطغيان مسجل على نفسه بنسب الشيطان، فأما تصحيح النسب إلى الملائكة بالتجرد لمحض الخير فخارج عن حيز الإمكان؛ فإن الشر معجون مع الخير في طينة آدم عجنًا محكمًا، لا تخلصه إلا إحدى النارين: نار الندم، أو نار جهنم».

ولقد كان عمدتي ومرجعي الأول: كتاب الله، وسنة رسوله صصص، ثم ما جاء عن سلف الأمة. وقد اجتهدت ألا أعتمد على حديث ضعيف في حكم أو توجيه، وأن أبين من أخرج الحديث ودرجته باختصار، فما لم كان يكن صحيحًا ولا حسنًا لا آخذ به، ولو كان في الترغيب والترهيب، وإذا ذكرته فللاستناس لا غير، أو أكون ناقلًا له عن غيري، مبينًا ضعفه غالبًا.

هذا، وقد انتفعت في هذا البحث بجملة كتب وخصوصًا لعلماء السلوك، أهمها كتابان أساسيان:

أولهما: كتاب «مدارج السالكين شرح منازل السائرين إلى مقامات {إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ}» للإمام أبي عبد الله شمس الدين ابن قيم الجوزية، الشهير بـ «ابن القيم» وفيه أبدع وأجاد، بقلم الأديب البليغ المتدفق وروح الداعية المربي المحلق، ووجدان الرباني العارف المتذوق، ونظر الفقيه الأصولي المتعمق، وتجريد الموحد الصادق المحقق، و هو حين يطلق لقلمه العنان، يتدفق تدفق السيل الهادر، ويموج موج البحر الزاخر، ويورد الأوجه، ويوضح الأسباب، ويبين الأحكام، ويشرح الحقائق. وقد استفدت مه كثيرًا، ونقلت كلامه بنصه في كثير من المواضع، كما نقلت من كتابه «الداء والدواء» في بيان أثر المعاصي.

والثاني: كتاب «إحياء علوم الدين» وهو الموسوعة الشهيرة في علم السلوك، وهو يشتمل على أربعين كتابًا مقسمة إلى ارباع أربعة، كما هو معلوم: ربع العبادات، وربع العادات، فربع المهلكات، وربع المنجيات، وأول كتاب في ربع المنجيات، هو كتاب التوبة.

والغزالي فقيه أصولي منطقي مرتب الفكر، تعتمد تصانيفه على حسن التقسيم والتبويب، وترتيب الأفكار، وضرب الأمثال، و روعة الأسلوب، وقد استفاد منه كل من عبده، كما استفاد هو ممن قبله – وخصوصًال «قوت القلوب» للأأبي طالب المكي. وقد اقبست منه كثيرًا من الأفكار، كما نقلت كلماته بنصها في بعض الأحيان.

أسأل الله الكريم ان ينفع بهذه الصحائف: كاتبها وقارئها وناشرها، وكل من أسهم فيها بجهد، لترجع القلوب إلى ربها، كما أسأله سبحانه أن يتوب علينا توبة نصوحًا، يكفر بها سيئاتنان ويرفع بها درجاتنا، ويدخلنا بها جنات تجري من تحتها الأنهار {رَبَّنَآ أَتۡمِمۡ لَنَا نُورَنَا وَٱغۡفِرۡ لَنَآۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (التحريم:8).

 

يوسف القرضاوي

الدوحة: صفر الخير 1418هـ

يونيو 1997م