د.كوثر يونس (تونس)
طوال عقود من الزمن كانت حياة الشعوب مثل مياه راكدة، فاقدة لكل حركة، سلسلة من العادات والاحتياجات والتفضيلات، كغابة أقام فيها الجفاف قلاعه القاتمة المخيفة، فهجرتها فصول السنة، واستوى فيها الربيع والخريف والصيف والشتاء؛ فساد القحط، وقُرعت طبول الخوف واستغلق على القلب والعقل والروح..
وذات ليلة صافية في منتصف الشتاء، تكبد فيها البدر صفحة السماء الصافية، هبت نسائم ربيعية خفيفة، معلنة قدوم فصل الربيع في غير موعده، فشرعت الأبواب لقدومه، وابتهج الكون وأشعلت شموع ذهبية تضيء سماء الشعوب، بعدما كادت أن تفقد بريقها وبهاءها للأبد..
واستبشرت كل نفس نقية بثورة تونس الأبية، تونس ذلك البلد الصغير جغرافيًّا، والمليح تاريخيًّا، المارد العظيم الذي استفاق من قمقم الوهم المزعوم "أنه ما باليد حيلة".. ولأن الحق في حاجة إلى قوة، ولأنه يجب على القوة أن تسدد ضريبة الزكاة، وزكاة القوة هي منع الفساد على الأرض.. ولا يمكن للقوة أن تبلغ أوجها إلا إذا نبعت من الشعور العميق بالواجب.. والشعور العميق بالواجب يضفي على العاقل نور البصر والبصيرة.. وإذا ما ألهمنا الله البصيرة أنارت أمامنا كل الدروب.. فبات الحق أمامنا بينًا والباطل بينا.. فكانت القوة عظيمة لما اتحد الشارع التونسي وخرج صارخا في وجه المستبد البربري: " ارحل"..
وكنت أتابع مواقف العلماء بين مؤيد للثورات، وآخر لاعنًا لها، واصفا إياها بالخروج على أولي الأمر منا؛ إلى حد وصفها بالفتنة وتحريمها شرعًا!
واستوقفني موقف العلامة القرضاوي، ورأيت في عينيه فرحة نصر كبير، أو ربما النصر الكبير.. فطوبى لمن أنار له الله العقل والبصر والبصيرة، فسار في الأرض حكيمًا موجهًا، راشدًا مرشدًا، قويا مسددًا..
نعم إن للدعوة إلى دين الله جل وعلا رجالها البواسل، وللدعوة إلى دحر الظلم، وتسلق سلم المجد فرسان وأبطال كواسر، ضحوا ويضحون بالنفيس والغالى فى سبيل إعلاء كلمة التوحيد، وفى سبيل إخراج البشرية من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، عرفوا بالإخلاص لدينهم، واعتقدت الأمة ولائهم لله ولرسوله، فهم الذين صدعوا بالحق فى وجه الكفر والنفاق والظلم والجبروت ولم يخشوا إلا الله، فهم ورثة الأنبياء والمرسلين بحق.
ومن هؤلاء الرجال، والأبطال المغاوير، الذين صاحوا في وجه الطاغية مزمجرين، الرجل الذي جعله الله سيفًا على المتصلبين المتعنتين الجبابرة الظالمين، الرجل الذي كشف الوجه القبيح لطغاة العصر، وجاهدهم وهو يمضي نحو التسعين، الرجل الذي دعا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة فاهتدى على فكره الملايين، الرجل الذي كان جل همه الدعوة إلى النهوض بهذه الأمة التي تحن إلى تاريخها ومجدها التليد، ولم يرض بالذل والهوان والضعف الذي تعانيه الأمة عيشًا وحياة، مجاهدًا فذًا بعلمه وفكرة المنير، ووسطيته ومناهجه المعتدلة التي يشهد لها كل علماء الأمة وغير العلماء، فكان كالبوق الذي أيقظ المسلمين من النوم الذي كانوا غارقين فيه، علامة العصر الدكتور القرضاوي، جزاه الله عن الإسلام وعن المسلمين خير الجزاء.
وجاءت ثورة تونس لتنثر على الكون زهرًا/ ربيعًا بعطر الياسمين.. مدادُ/ ثورة أيقظت فجرًا كان نائمًا/ وغدًا يتحقق الحلم والمرادُ/ وأنار فجرها الشرق والغرب/ وفي كل الأرض تزأر لمجد يعادُ/ وقريبا ينقشع ضباب فجرها/ وتشرق شمسها ويعم الودادُ!
لقد جاءت ثورة تونس، وتلتها الثورات على تلك النخب الكاذبة بعد أن تفشت روح الاستبداد وانتشرت الأخلاق الذميمة، النابعة من مجافاة الدين ومخالفته، فوقعت الأمة الإسلامية وخاصة الشعوب العربية في معتقل الظلم وقمع الحريات والتخلف لا التقدم والتغريب والتنصير!
رأى العلامة القرضاوي أن تلك الثورات جاءت على تلك النخب الكاذبة والكيانات الباطلة فابتلعتها وحقّ لها أن تبتلعها؛ لأنها حقيقة خارجة من قلب الوجدان وأصل الوجدان.. وإيمان الفرد والشعوب أن هذه الشعوب حرة تحكم نفسها وبنفسها ولنفسها.. تسطر مستقبلها وترتقي بذاتها ..ولم تكن يوما قطيع غنم يوضع له العلف دون أن يرفع أعناقه إلى أبعد من السياج..
وما كادت تظهر الثورات حتى احترقت وثنيات الجبابرة والطغاة، وجدليات منزوعي الهوية ومستغربي العقل والروح.. وبدأت الثورات تنتج محاصيل رائعة، رغم هبوب الرياح، ووضع الصخور، ورفع العوائق..
ولقد أكد العلامة القرضاوي على أن الثورات العربية ستكون وحدها حاكمة على قارات المستقبل، حكمًا حقيقيًّا ومعنويًّا، وإن الذي سيقود البشرية إلى السعادتين الدنيوية والآخرة الأبدية ليس إلا هذا الدين الحنيف، فهو نهر دافق يبحث عن مجراه، يحمل في مياهه العذبة النقية الرقي المادي والمعنوي للبشرية جمعاء.
ومن قناعات العلامة القرضاوي أن هذه الثورات أثبتت استعداد هذا الوطن العربي للرقي المعنوي والمادي؛ لأن في قلب الشخصية المعنوية للعالم الإسلامي قد اجتمعت قوى لن تُقهر، وهي في منتهى الرسوخ والمتانة:
- الحقيقة الإسلامية التي هي منبع جميع الكماليات والمثل، الجاعلة من الأمة المسلمة نفسًا واحدة، مجهزة بأسس المدنية الحقيقية والعلوم الصحيحة، ولها من القوة ما لا يمكن أن تهزمها أو تدحرها قوة مهما كانت، ومهما ستكون.
- الحرية الشرعية التي ترشد البشرية إلى سبل التسابق والمنافسة الحق نحو المعالي والمقاصد السامية، والتي تمزق أنواع الاستبداد وتشتتها، والتي تهيج المشاعر الرفيعة لدى الإنسان، وهي التحلي بأسمى ما يليق بالإنسانية من درجات الكمال والتشوق والتطلع.
- الشهامة الإيمانية؛ فإن المسلم الحق لا يرضى الذل على نفسه أمام الظالمين، ولا يلحقه هو نفسه بالمظلومين!
- عزة هذا الدين، ففي زماننا هذا يتوقف إعلاء كلمة الله على التقدم المادي والمعنوي معًا، والدخول في مضمار المدنية الحقيقية.. ولا ريب أن شخصية العالم الإسلامي المعنوية والروحية سوف تدرك، وتحقق في المستقبل كل ما يتطلبه الإيمان من الحفاظ على عزة الإسلام.
وها قد أخذت الحجب التي كانت تكشف شمس الإسلام تتراح وتنقشع، وأخذت تلك الموانع بالانكماش والانسحاب، وها قد بزغ فجرها الصادق، بعد أن رفعت الثورات العربية وشاح الضباب عنه. رغم تكالب العالم على خنقها ووأدها، لكن الله تعالى أقداره، وللسنن عملها، وقد أقسم الصالحون على ربهم سبحانه -ومنهم القرضاوي، ولا نزكي على الله أحدًا- أن النصر قادم قادم قادم، وان اجتمع الناس كلهم، فالله أكبر، ووعده لا يتخلف.
لقد دأب فضيلته على دعوة الأمة الإسلامية وعلى رأسها الأمة العربية لأخذ مكانها الحقيقي قدوة صالحة تقف مواقف الحق، لا تخشى في الله لومة لائم، تتبنى القضايا المصيرية للأمة وتعمل لإقامة العدل والأمن وتوجه الأمة لذلك، وتضرب لها المثل الحقيقي للثبات على الحق والتضحية من أجله بكل غال ونفيس.
ودعا إلى استمرار صلابة الإرادة والتصميم للقوى الثورية واستمرار وحدة الصف والتلاحم بين القوى الثورية مع استمرار رفض السقوف الدنيا والتغير الشكلي.
وأكد على ضرورة الحفاظ على الصورة الناصعة للثورات العربية، رغم أن الإعلام والثورة المضادة لبقايا النخب السابقة استطاعت تشويه كل سمات النقاء في الثورات، ولذلك بدأ التشكك والريبة والصدام!
وحتى لا تتفاقم الأمور فقد دعا العلامة القرضاوي للتنسيق قبل الحركة، وأكد على استمرار التمسك بمنطق المغالبة لا المطالبة..
ودعا إلى تحرير الإعلام ذلك السلاح الأخطر الذي صور الثورات على أنها حركات غوغاء، وخيانات دعاة، وتطرف وإرهاب، بعد أن ظل إعلام النظام السابق على ما هو عليه، وصدقه ويصدقه الكثيرون ممن اعتادوا دفن رؤوسهم في الرمل، واتخذوا من مقولة أنا ومن بعدي الطوفان راية لهم..
هذا هو القرضاوي عاشق الربيع العربي: وهذه هي الثورات العربية التي لامست طهارة القلب وطهارة الضمير وقيمة الأفكار التي يحملها العقل القرضاوي وقدرة هذا العقل على تغيير الحياة حوله..