في 22/9/1979م نشرت وكالات الأنباء العالمية والإقليمية، وعنها نقلت الصحف والإذاعات والتلفازات؛ نبأ وفاة الداعية الإسلامي المجدد الكبير: الشيخ الإمام أبي الأعلى المودودي، مؤسس الجماعة الإسلامية في الهند الكبرى، ثم في باكستان الغربية والشرقية التي انفصلت فيما بعد، وسميت جمهورية «بنجلاديش»، وأحد المصحلين والإسلاميين، والمؤلفين الكبار في القضايا الفكرية الإسلامية، والذي تشكل كتبه ورسائله مدرسة متميزة في الفكر الإسلامي، والدعوة الإسلامية المعاصرة.
فلا عجب أن تلقَّى العلماء والدعاة والمفكرون، وأبناء الحركة الإسلامية في العالم الإسلامي وخارجه: نبأ وفاته بالحزن والألم والاسترجاع، لفقد هذا العالم الفذ، الذي انتفع بعلمه المسلمون عربهم وعجمهم، فقد تُرجمت مؤلفاته إلى لغات شتى إسلامية، وعالمية، وفي مقدمتها: اللغة العربية.
أثر فقد العلماء الأعلام
ولا ريب في أنّ فقد العلماء الأعلام، يعدُّ من المصائب التي تنزل بالأمة، ولا سيما أولئك الأفذاذ الذين يجود بهم القدر بين الحين والآخر، ويتركون آثارهم في الحياة والأحياء، وقلما يعوضون.
وقد جاء في الحديث المتفق عليه: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الناس، وإنما يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا: اتخذ الناس رؤساء جهالًا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا»(1).
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: عليكم بالعلم قبل أن يُرفع، ورفعه موت رجاله.
ولذا قال أمير المؤمنين رضي الله عنه: إذا مات العالم ثلمت في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خلف منه.
وفي الأثر: لموت قبيلة أيسر من موت عالم. وقال عمر رضي الله عنه: موت ألف عابد قائم الليل، صائم النهار: أهون من موت عالم بصير بحلال الله وحرامه.
وقع وفاة المودودي
ومن هنا كان وقع وفاة المودودي على كل من يعرفه من أبناء الأمة شديدًا، وقد تنادى كثير من الإخوة من العلماء والدعاة، من مصر وبلاد الشام، وبلاد الخليج وغيرها للسفر إلى مدينة لاهور - محل إقامة المودودي - للمشاركة في صلاة الجنازة عليه. لم يبق في ذاكرتي منهم إلا الدكتور أحمد الملط من مصر، والشيخ سعيد حوى من سورية، والأستاذ عبد الله العقيل من السعودية.
وكان المودودي قد وافاه أجله في أمريكا، حيث كان يعالج هناك من مدة، وقد قدر لي أن أزوره هناك في مدينة «بفلو» حيث يقيم ابنه هناك، وذلك قبل وفاته بزمن غير بعيد.
وقد صُلي على جثمان المودودي في أكثر من بلد: صُلي عليه حيث تُوفي في «بفلو»، وصلي عليه في مطار نيويورك، وفي مطار لندن، وفي مطار كراتشي، وهي المحطات التي مرّ عليها جثمان الأستاذ.
سفري إلى لاهور
وكانت الصلاة الأخيرة والأساسية عليه في مدينة لاهور، التي سافرت إليها مع من سافر من بلاد العرب، وقد تجمَّع جمّ غفير، قُدّروا بأكثر من مليون في أكبر نادٍ رياضي «إستاد» في لاهور.
وقد سُرّ الإخوة من قادة «الجماعة الإسلامية» بحضوري، وقدّموني لأقول كلمة في جموع الحاضرين، قبل الصلاة، ثم شرفوني بإمامة المصلين على الأستاذ، ولم أر في حياتي تجمعًا لصلاة أو لغيرها، مثل هذا التجمُّع، الذي كان على رأسه رئيس جمهورية باكستان الرئيس ضياء الحق رحمه الله.
وكان هذا التجمع الإسلامي الكبير دليلًا على مكانة هذا الرجل في قومه، وإن كان هناك من يخالفونه في بعض المسائل، ولكن جمهور علماء باكستان ودعاتها ومثقفيها، يعرفون منزلة الرجل، ويقدرون فكره وفقهه وجهاده، ووقوفه في وجه الحضارة الغربية الغازية.
وقد قال الإمام أحمد لأهل البدع والمنحرفين: بيننا وبينكم الجنائز. فالجنازة هي التي تعبر عن مكانة الفقيد عند الأمة. إذ لا يمكن أن يكون حرص الناس على الصلاة على الميت، ببواعث دنيوية من الخوف أو الطمع، وقد انتقل العالِم إلى رحمة الله، وغادر الدنيا إلى الآخرة. ولذا كان حرص أبناء المجتمع على تشييع جنازة العالِم، والصلاة عليه: نوعًا من الوفاء له، والتعبير عن مدى حبهم له، وحرصهم على المشاركة في الدعاء له مع الداعين.
ومن الجنائز التي يتحدث عنها المؤرخون: جنازة الإمام أحمد في بغداد سنة (241 هـ)، ومنها: جنازة الإمام ابن الجوزي في بغداد سنة (597هـ)، ومنها: جنازة شيخ الإسلام ابن تيمية في دمشق سنة (728هـ).
طلب التوقيع
ومما أذكره في حفل الصلاة على الإمام المودودي: أن بعض الباكستانيين الحاضرين طلب مني أن أوقع لهم على مفكرة معهم، كما يفعل الناس عادة مع المشاهير، وأنا في العادة لا أستجيب لرغبات الجمهور في هذا الأمر، لما يدخله من اعتبارات لا أستريح إليها، مثل اعتقاد الناس التبرك بهذا التوقيع، وما قد يدخل على نفس الموقع من حب الجاه والشهرة عند الناس، وهو آفة من آفات النفوس، ومرض من أمراض القلوب.
ولكن بعض الإخوة آثر أن أجبر خاطر بعضهم، إكرامًا للأستاذ المودودي، وللذين حضروا من كل حدب وصوب ليصلّوا عليه. وما إن وقعت لاثنين أو ثلاثة، حتى تزاحم عليَّ العشرات والمئات، بل قل: الآلاف، وحاصروني لأوقع لهم على ما تيسَّر لهم من مجلة أو صحيفة، أو أوقع لهم على أوراق البنكنوت «الروبيات»، وكل الناس معهم هذه الروبيات من فئات مختلفة، ومطلوب مني أن أوقع على أوراق كل هؤلاء المتجمعين حولي، وقد بدءوا يتكاثرون ويتزايدون بشكل مخيف، وبدأت أحس كأني أختنق. حتى رآني بعض الإخوة الباكستانيين على هذه الحالة، فأحاطوا بي إحاطة السوار بالمعصم، وباعدوا الناس عني بشيء من الشدة، وانتزعوني من بينهم انتزاعًا، والحمد لله أني خرجت سليمًا.
وقد دُفن الأستاذ المودودي في بيته حسب وصيته، وكنت أوثر أن يدفن في المقابر العامة كسائر المسلمين؛ لما للمقبرة الخاصة من إيحاءات قد لا يرضاها المودودي نفسه.
لقاء رجال الجماعة الإسلامية
وبقيت مع بعض الإخوة بعد صلاة الجنازة للقاء رجال الجماعة الإسلامية: أمير الجماعة الشيخ العالم الفاضل القاضي حسين، ونائب أمير الجماعة المفكر الإسلامي المعروف الأستاذ خورشيد أحمد، وعدد من قيادات الجماعة، فهمومنا واحدة، وأهدافنا واحدة، ومصالحنا واحدة، وأعداؤنا مشتركون، والواجب أن نتبادل المعلومات والخبرات والمشورة فيما بيننا، ونتدارس الوسائل المختلفة للتغلب على مشكلاتنا، والانتصار على واقعنا.
والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا، ولا يجوز أن يكون اختلاف الأقاليم والألسنة بيننا حائلًا دون التفاهم والتعاون المشترك، والاتفاق على الحد الأدنى في العمل الإسلامي.
بين الإخوان والجماعة الإسلامية
وقد قلت للإخوة من أعضاء الجماعة الإسلامية منذ حوالي عشر سنوات حين زرتهم في لاهور في حياة الإمام المودودي: أنتم الإخوان المسلمون في شبه القارة الهندية، ونحن الجماعة الإسلامية في بلاد العرب. أردت بهذا: أن الجماعتين متوافقتان في الأصول الكلية، وفي الوجهة العامة، وإن كان بينهما اختلافات جزئية في بعض الأمور، بدأت تتلاشى شيئًا فشيئًا.
وقد اقترح المجتمعون أن يوسع هذا التنسيق بين الجماعة الإسلامية والإخوان، فيشمل كل الجماعات والمنظمات الإسلامية الأخرى التي تشترك في الأهداف والوجهة العامة، مثل جماعة نجم الدين أربكان في تركيا، وغيرها. وأن يتم ذلك في هدوء، فإن أيّ تجمُّع - أو حتى تقارب - بين الجماعات الإسلامية الصادقة في العمل للإسلام، يثير القوى المعادية والكائدة لأمة الإسلام، ويؤلبها ضدها؛ لهذا وجب العمل في صمت شأن الأتقياء الأخفياء، الذين جاء الثناء عليهم في الحديث النبوي(2).
.....
(1) متفق عليه: رواه البخاري (100)، ومسلم (2673) كلاهما في العلم، عن عبد الله عمرو.
(2) وهم الذين روى حديثهم ابن ماجه في الفتن (3989)، والحاكم في الإيمان (1/44)، وغيرهما عن معاذ: «إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء، الذين إذا حضروا لم يُعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا، قلوبهم مصابيح الهدى ينجون من كل غبراء مظلمة».