في موسم حج سنة (1401هـ، 1981م) دعيت لموسم الحج من رابطة العالم الإسلامي، فلبَّيت الدعوة شاكرًا، واصطحبت معي زوجتي «أم محمد»، وابنتي «إلهام وسهام»، بعد أن حصلتا على البكالوريوس بامتياز، وعُيِّينتا معيدتين في كلية العلوم بجامعة قطر، رأيت أن أكافئهما على تفوقهما، بأن أتيح لهما أداء فريضة الحج هذا العام، فتنعما بالتيسيرات التي تقدمها لنا الرابطة بما لديها من إمكانات.
وهيأت لنا الرابطة: حجرتين في مبناها المعروف بمنى: حجرة لي ولزوجتي، وحجرة لابنتي.
وقد كنا نوينا العمرة، ونحن في الطائرة، وإن كنت أجيز أن نؤخر لبس ملابس الإحرام بعد نزول جدة، كما هو رأى العلامة الشيخ عبد الله بن زيد المحمود رئيس المحاكم الشرعية في قطر، الذي كتب رسالة بديعة في ذلك، أيدته فيها برسالة تقريظ بعثت بها إليه، ولكني لم أجد مشقة في الإحرام من الطائرة، كما أن زوجتي وابنتي لم يجدن أي مشقة في ذلك، كما هو شأن النساء في الإحرام، فليس عليهن أن يغيِّرن ثيابهن فإحرامهن في الطائرة لا مشقة فيه؛ لأنه مجرد النية والتلبية.
كانت نيتنا: التمتع بالعمرة إلى الحج، فبعد أن أدينا مناسك العمرة تحللنا، وقصرنا، والسنة لمن تمتع أن يقصّر بعد العمرة، وإذا أراد حلق الرأس فليؤخره إلى الحج، أما المرأة فليس لها إلا التقصير، إذ الحلق ليس من شأنها، وهو يكره لها، وربما حرم.
بقينا بعد العمرة عدة أيام في مبنى الرابطة بمنى، نصلِّي فيها الصلوات الخمس، وهم يؤدونها جماعة في الرابطة، ومعلوم أن منى من الحرم، فالصلاة فيها كالصلاة في الحرم، ومع هذا قد هيئوا لنا السيارات لمن يريد أن يصلي في الحرم.
وفي يوم التروية - الثامن من ذي الحجة - أحرمنا بالحج من حيث نقيم في منى، كما علمتنا السنة النبوية، وحين يحرم الإنسان بالحج يشعر بأنه قد انتقل من حالة إلى حالة. إن مجرَّد النية والتلبية «لبيك اللهم حجا» يدخل الإنسان في حالة روحانية، تجعله يحلِّق في أجواء عالية من الربانية، ذاكرًا الله بقلبه ولسانه، مستحضرًا الآخرة بين عينيه، مستغفرًا لربه من كل ذنب وقع فيه، مرطبًا لسانه بالدعاء إلى الله تعالى لنفسه ولأهله ولمن يحب وللمؤمنين والمؤمنات، بل هو يسأل الله الهداية والنور والسلام للناس جميعًا.
مقتل السادات:
وفي يوم التروية، وبعد صلاة الظهر على ما أذكر، نزلت مع العائلة، نمشي في طرقات منى، لا أذكر: إلى أيَّ مكان كنا ذاهبين؟ وفي أثناء سيرنا أحسسنا بهرج ومرج وحركة غير عادية، وكلام بين الناس بعضهم وبعض، مما يوحي بأن حدثًا غير عادي قد وقع، فسألنا: ماذا حدث؟! فقالوا: أطلق الرصاص على السادات وهو على المنصة، وقد نقل إلى المستشفى، ولا تعرف تفاصيل حتى الآن.
أسرعنا بالعودة إلى مبنى الرابطة، لتتابع الأمر من خلال التلفاز والمذياع، فالحدث خطير، ولا بد من تتبعه والإحاطة بتفاصيله، وما يجدّ فيه أولًا بأول.
ثم بدأت بعد ذلك إذاعة القاهرة، وصوت العرب، ومحطة تليفزيون القاهرة: تذيع النبأ على الناس، وخصوصًا بعد أن نقل السادات إلى المستشفى وعرف أنه فارق الحياة.
وعرف من التفاصيل ما حدث في العرض العسكري، وتوقف بعض السيارات المشاركة في العرض أمام المنصة، وقد نزل منها ضباط وجنود يحملون الرشاشات ويتَّجهون إلى المنصَّة، قاصدين الرئيس السادات بالذات، حتى قيل: إنهم وجدوا نائب الرئيس في ذلك الوقت حسني مبارك، فلم يمسوه بسوء، وقالوا: لا حاجة لنا فيك! وأنهو مهمتهم بسرعة، ولم يُغْن الحراس شيئًا: لا حراس الجيش، ولا حراس المخابرات، ولا حراس الداخلية، ولا الحراس الخاص. كل هؤلاء ارتبكوا وعجزوا. ونفَّذ الشاب المكلف بالمهمة - وقد عرف فيما بعد أن اسمه: «خالد الإسلامبولي» - ما هدف إليه. وكان يمكنه ومن معه أن يقتلوا عددًا أكبر ممن على المنصة، لو أرادوا، ولكنهم كانوا مكلفين بمهمة محددة، هي التخلص من الرئيس السادات، فقاموا بها، واقتصروا عليها.
في هذا اليوم الذي تلهج فيه ألسنة المحرمين بالحج بالإكثار من التلبية والتهليل والتكبير والتحميد والتسبيح والاستغفار: أمسى شغل الناس الشاغل: الحديث عن المقتل المرِّوع وما جرى فيه، وكيف انقلب العرس إلى مأتم، وتحولت ذكرى الانتصار إلى حداد؟!
يالله! كم بين الحياة والموت؟ إنَّ الناس يتخيَّلون بينهم وبين الموت مسافات ومسافات، تبعد وتقرب، وتطول وتقصر، بمقدار طول أملهم في الحياة وقصره. وكلما غرق الإنسان في لجج الحياة الدنيا وزخرفها، أو كلما غرَّته الأماني أو غرَّه بالله الغرور، أو أطغاه المال أو السلطان: رأى الموت بعيدًا عنه، ونظر إلى نفسه كأنه مخلَّد في الدنيا، حتى تفاجئه الحقيقة المذهلة: أن الموت أصدق غائب ينتظر، وأنه أقرب إلى الإنسان من لمح البصر، كما قال الشاعر:
كل امرئ مُصبَّح في أهله والموت أدنى من شراك نعله!
وكما قال تعالى: {وَمَآ أَمۡرُ ٱلسَّاعَةِ إِلَّا كَلَمۡحِ ٱلۡبَصَرِ أَوۡ هُوَ أَقۡرَبُ} [النحل: 77].
روى البخاري، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل، وعدّ نفسك من أهل القبور». وكان ابن عمر يقول: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من دنياك لآخرتك، ومن حياتك لموتك(1).
كلمة حول فقه العنف
لقد أثار مقتل الرئيس السادات على يد واحد من رجال إحدى «جماعات العنف» الإسلامية ورفقائه: جدلًا ونقاشًا واسعًا حول فكر هذه الجماعات الديني، وفقهها الذي تستند إليه في عملياتها ضد الحكومات، وضد السياح وغيرهم.
ومن الناس من رفض مناقشتهم، على اعتبار أنهم ليس له منطق إلا القوة، وليس لهم منطلق شرعي أو أخلاقي أو قانوني يعتمدون عليه.
والواقع أن هذا تبسيط مخل بحقيقة القضية، فالقوم - أيا كان انتماؤهم - لهم فقه مزعوم، يستندون إليه ويدعمونه بالآيات من القرآن الكريم، وبالأحاديث من السنة النبوية، ومن أقوال العلماء من المذاهب المتبوعة ومن خارجها.
ولا بدَّ لكلِّ من يريد إقناعهم، أو ردهم عن أفكارهم: أن يناقشهم في مفاهيمهم التي تبنوها، ومبادئهم التي آمنوا بها، وأدلتهم التي يسوقونها حُجَّة لهم في تبرير ما صنعوا.
وهم ليسوا جماعة واحدة بل هم أكثر من جماعة، يختلفون في طرائقهم، وبعض أفكارهم، ولكنهم جميعًا يتخذون من العنف «أي: القوة العسكرية» طريقًا لتحقيق الأهداف.
فهناك «جماعة المسلمين»، وهي التي عرفت عند الناس بـ «جماعة التكفير والهجرة»، وهي تكفّر الناس بالجملة، تكفّر الأفراد، وتكفر المجتمعات... تكفر الحكام، لأنهم لم يحكموا بما أنزل الله، وتكفر المحكومين، لأنهم رضوا بهؤلاء الحكام ولم يكفروهم، وتكفّر العلماء، لأنهم لم يكفروا الفريقين.
وهم يبدءون بالتكفير، وينتهون بالقتل والتفجير... فما دام الشخص كافرا، فهو يستحق القتل ودمه مباح، إذ الكفر وحده عندهم يبيح الدم.
وهؤلاء هم الذين استباحوا دم الشيخ الذهبي رحمه الله ، سواء كانوا هم الذين قتلوه، كما تقول الحكومة أم غيرهم هو الذي قتله، فهم أعلنوا سعادتهم بقتله!
وهناك الجماعات التي أطلقت على نفسها: اسم «جماعة الجهاد». وقد بدأت - على ما أعلم - في «مصر»، وانتقلت إلى غيرها من البلدان مثل «الجزائر» وغيرها.
وصنوهم «الجماعة الإسلامية» التي نشأت في مصر، بزعامة العالم الأزهري الضرير الشيخ عمر عبد الرحمن المسجون في أمريكا، فرَّج الله عنه.
وهناك: «السلفية الجهادية» التي ظهرت في عدد من الأقطار العربية والإسلامية، مثل: المغرب والجزائر، والسعودية، وغيرها.
ومن المعلوم: أن السلفية توصف بالتشدد في مجال العقيدة، ولا سيما ما يتعلق بالتوحيد والشرك، في مواجهة القبوريين ومقدِّسي الأولياء، وكذلك ما يتعلق بآيات الصفات وأحاديث الصفات، وموقفهم ضد الأشاعرة والماتريدية وغيرهم، وكثرًا ما يغلب عليهم الحرفية والجمود في مجال الفقه والاستنباط.
فإذا أضيف إلى هذا التشدُّد والحرفية والجمود: الجانب العسكري، أو جانب القوة والعنف، أصبحت هذه السلفية تمثل خطرًا مزدوجًا. خطرًا فكريًّا، وخطرًا عمليًّا.
وإذا أردنا أن نعيد الأمور إلى جذورها في شأن هذه الجماعات كلها: رددناها جميعًا إلى فكر «الخوارج الغلاة» الذين عُرفوا بطول عبادتهم لله، وكثرة صيامهم وقيامهم وتلاوتهم، فهم صُوّام قوام عبّاد قراء للقرآن. ولكنهم يستحلون دماء من سواهم من المسلمين، اعتمادًا على متشابهات من النصوص، تاركين المحكمات من كتاب الله وسنة رسوله. فآفتهم ليست في ضمائرهم أو قلوبهم، ولكن آفتهم في رءوسهم وأفهامهم.
ومن هنا وصفتهم الأحاديث النبوية الصحاح بقولها: «يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وقراءته إلى قراءتهم، وصيامه إلى صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية»(2). حتى رأيناهم استباحوا دم ابن الإسلام البكر، زوج فاطمة البتول، وابن عم الرسول، وسيف الإسلام المسلول: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وتقربوا إلى الله بقتله، ومدح شاعرهم قاتله بقوله:
يا ضربةً من تقيّ ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوما فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزانا!
وأخيرًا هناك «تنظيم القاعدة»، وهو يضم عناصر متنوعة الجذور، مستمدة من تلك الجماعات كلها، وانصهرت في بوتقة القاعدة، والتزمت بخطها، وبالعمل تحت قيادتها.
إن فقه جماعات العنف، يقوم على أن الحكومات المعاصرة: حكومات كافرة، لأنها لم تحكم بما أنزل الله، واستبدلت بشريعته المنزلة من الخالق: القوانين التي وضعها المخلوق، {وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ} [المائدة: 44]، وبهذا: وجب الحكم عليهم بالكفر والردة، والخروج من الملة، ووجب قتالها حتى تدع السلطة لغيرها؛ إذ كفرت كفرًا بواحًا عندنا فيه من الله برهان.
ويؤكد فقه هذه الجماعات، كفر هذه الأنظمة الحاكمة، بأمر آخر، وهو: أنها توالي أعداء الله من الكفار، الذين يكيدون للمسلمين، وتعادي أولياء الله من دعاة الإسلام، الذين ينادون بتحكيم شرع الله تعالى، وتضطهدهم وتؤذيهم. والله تعالى يقول: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ} [المائدة: 51].
والحكومات المعاصرة: تعارض هذه التهم بدعاوى مختلفة، منها: أنها تعلن أن دينها الرسمي هو الإسلام، وانهم ينشئون المساجد لإقامة الصلاة، ويعيّنون الأئمة والخطباء والمؤذّنين، ويؤسسون المعاهد الدينية، والكليات الشرعية، ويوظفون الوعاظ ومدرّسي الدين في المدارس وغيرها، ويحتفلون برمضان وعيدي الفطر والأضحى، ويذيعون تلاوة القرآن في الإذاعات والتلفازات، إلى غير ذلك: من المظاهر الدينية، التي تثبت إسلامية الدولة بوجه من الوجوه.
كما أن بعض دساتير هذه البلاد يعلن: أن الشريعة مصدر أو ا لمصدر الرئيسي للتقنين. وبعضها: يعتذر بضعفه أمام قوى الضغط الغربي، وبعضها... وبعضها...
فتوى ابن تيمية:
كما تعتمد جماعات العنف: على فتوى الإمام ابن تيمية في قتال كل فئة تمتنع عن أداء شريعة ظاهرة متواترة من شرائع الإسلام - كالصلاة أو الزكاة - أو الحكم بما أنزل الله: في الدماء والأموال والأعراض، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على آخره. وهو ما اعتمد عليه كتاب «الفريضة الغائبة» لجماعة الجهاد، وجعل هذه الفتوى: الأساس النظري لقيام الجماعة، وتسويغ أعمالها كلها.
ويستدلون هنا: بقتال أبي بكر ومن معه مهن الصحابة رضي الله عنهت لمانعي الزكاة.
فكيف بمن يمتنعون عن تطبيق أكثر أحكام الشريعة، برغم مطالبة جماهير الناس بها، وخصوصًا العلماء والدعاة، بل هم أشد الناس خصومة لهؤلاء، وتضييقًا عليهم، ومعاداة لهم؟!
ونسي هؤلاء أن الذي يقاتل هذه الفئة الممتنعة ولي الأمر، وليس عموم الناس، وإلا أصبح الأمر فوضى!
وتعتمد جماعات العنف أيضًا: على أن هذه الأنظمة غير شرعية، لأنها لم تقم على أساس شرعي من اختيار جماهير الناس لها، أو اختيار أهل الحل والعقد، وبيعة عموم الناس، فهي تفتقد الرضا العام، الذي هو أساس الشرعية، وإنما قامت على أسنة الرماح بالتغلب والسيف والعنف، وما قام بقوة السيف: يجب أن يقاوم بسيف القوة، ولا يمكن أن يقاوم السيف بالقلم!
ونسي هؤلاء ما قاله فقهاؤنا من قديم: إن التغلب هو إحدى طرائق الوصول إلى السلطة، إذا استقرّ له الوضع، ودان له الناس.
وهذا ما فعله عبد الملك بن مروان، بعد انتصاره على ابن الزبير رضي الله عنهب وقد أقره الناس، ومنهم بعض الصحابة: مثل ابن عمر وأنس وغيرهما، حقنًا للدماء، ومنعًا للفتنة، وقد قيل: سلطان غشوم، خير من فتنة تدوم.
وهذا من واقعية الفقه الإسلامي، ورعايته لتغير الظروف.
وترى جماعات العنف كذلك: أن هذه المنكرات الظاهرة السافرة التي تبيحها هذه الحكومات، من الخمر، والميسر، والزنى، والربا والخلاعة والمجون، في وسائل الإعلام، وسائر المحظورات الشرعية: يجب أن تغير بالقوة لمن يملك القوة، وهي ترى أنها تملكها، فلا يسقط الوجوب عنها التغيير باللسان بدل اليد، كما في الحديث الشهير: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه»(3).
ويغفل هؤلاء: الضوابط والشروط اللازمة لتغيير المنكر بالقوة، التي قررها العلماء، ومنها: ألا يترتَّب على تغيير المنكر منكر أشد منه.
وبعض هذه الجماعات تنظر إلى المجتمع كله: أنه يأخذ حكم هذه الأنظمة التي والاها ورضي بها، وسكت عنها، ولم يحكم بكفرها، والقاعدة التي يزعمونها: أن من لم يكفر الكافر فهو كافر!
وبهذا توسَّعوا وغلوا في «التكفير»، وكفروا الناس بالجملة.
وعلى هذا: لا يبالون من يُقتل من هؤلاء المدنيين، الذين لا ناقة لهم في الحكومة ولا جمل: لأنهم كفروا فحلت دماؤهم وأموالهم.
كما يرون بالنظر إلى الأقليات غير المسلمة: انهم نقضوا العهد، بعدم أدائهم للجزية، وبتأييدهم لأولئك الحكام المرتدين، وأنظمتهم الوضعية، ولرفضهم للشريعة الإسلامية وبهذا لم يعد لهم في أعناق المسلمين عهد ولا ذمة، وحل دمهم ومالهم. وبهذا استحلوا سرقة محلات الذهب: من الأقباط في مصر، كما استحلوا سرقة بعض المسلمين أيضًا. وغفل هؤلاء عن اجتهادات فقهاء المسلمين في عصرنا، وانهم أصبحوا «مواطنين» لهم حقوق المواطنة؛ لأنهم من أهل دار الإسلام بإجماع الفقهاء. وكلمة «من أهل الدار» تقابل كلمة «مواطن».
وهم يرون أن السياح وأمثالهم، الذين يدخلون بلاد المسلمين بتأشيرات رسمية، وترخيصات قانونية، والذين يعدّهم الفقهاء «مستأمَنين» ولو كانت دولهم محاربة للمسلمين، يرون هؤلاء مُسْتَباحي الدم، لأنهم لم يأخذوا الإذن من دولة شرعية، ولأن بلادهم نفسها: محاربة للإسلام، فلا عهد بينهم وبين المسلمين. والواجب: أن يقاتل هؤلاء ويقتلوا، فلا عصمة لدمائهم وأموالهم!! وجهل هؤلاء أن أيَّ مسلم - ولو كان امرأة - يعطيهم الأمان، فإن أمانه نافذ، والمدار على ما يعتبرونه هم أمانًا.
وكذلك يقول هؤلاء عن الدول الغربية - التي يقيم بعض هؤلاء فيها - وقد أعطتهم: حقّ الأمان، أو حقّ اللجوء السياسي: لمن طردوا من بلادهم الأصلية، فآوتهم هذه الدول من تشرُّد، وأطعمتهم من جوع، وآمنتهم من خوف.
يقول هؤلاء بكل جرأة وتبجُّح: إنّ هذه الدول كلها كافرة، محاربة للإسلام وأمته، ويجب أن نقاتلهم جميعًا حتى يُسْلموا فَيَسْلَموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
ولما سُئل بعضهم عن إقامته في هذه البلاد، قال: إنها كدورة المياه، نستخدمها للضرورة رغم نجاستها.
وهؤلاء الكفار: دماؤهم حلال للمسلمين، بنصوص الدين.
ويذكرون هنا آيات وأحاديث: يضعونها في غير موضعها، فإذا واجهتهم بغيرها: من الآيات والأحاديث، التي هي أكثر منها وأظهر وأصرح، قالوا لك: هذه نسختها آية السيف!
هذا هو فقه جماعات العنف باختصار، الذي على أساسه ارتكبوا ما ارتكبوا من مجازر تشيب لهولها الولدان، وتقشعر من بشاعتها الأبدان: ضد مواطنيهم من مسلمين وغير مسلمين، وضد السياح وغيرهم من الأجانب المسالمين.
وهو بلا ريب: فقه أعوج، وفهم أعرج، يعتوره الخلل والخطل، من كل جانب:
أ - خلل في فقه التكفير.
ب - وخلل في فقه الجهاز.
جـ - وخلل في فقه الخروج على الحكام.
د - وخلل في فقه تغيير المنكر بالقوة.
ويحتاج من فقهاء الأمة إلى وقفة عليمة متأنية، لمناقشتهم في أفكارهم هذه، والرد عليهم فيما أخطأوا فيه، في ضوء الأدلة الشرعية من القرآن والسنة وإجماع الأمة، في إطار مقاصد الشريعة الكلية، ومبادئ الإسلام العامة.
وقد ناقشنا هذه الجماعات وفقهها في أكثر من كتاب لنا، وخصوصًا كتاب «الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد» فصل «من العنف والنقمة إلى الرفق والرحمة».
كما أصَّلنا القضية وفصلناها وأعطيناها حقَّها من المناقشة والمقارنة في كتابنا الكبير «فقه الجهاد».
هل العنف إسلامي؟
ونريد أن نسأل هنا سؤالًا، وهو: هل العنف ظاهرة إسلامية؟
ونقول: إن الإعلام الغربي عامة، والأمريكي خاصة، يوهم العالم أن العنف يحمل الجنسية الإسلامية، وأن الإسلام بعقيدته وشريعته يفرز «العنف»! وأن المسلمين بطبيعتهم الدينية أهل عنف.
وهذا ولا شك تحامل على الإسلام وأمته وقرآنه ونبيه وشريعته.
فالإسلام دين الرفق، وليس دين العنف، ودين الرحمة وليس دين النقمة، ودين اللين والرقّة، ولييس دين الغلظة والقسوة.
وأشهر أسماء الله عند المسلمين: الرحمن الرحيم، وليس المنتقم الجبار، كما يروج أعداء الإسلام.
واسم «الجبار» ذكر في القرآن مرة واحدة، واسم الرحمن الرحيم افتتحت به - كما نرى في المصحف - (113) مائة وثلاث عشرة سورة، غير ما ذكر داخل السور.
والمسلمون يبدءون أكلهم وشربهم وسائر أعمالهم بـ «بسم الله الرحمن الرحيم»، والمسلمون يرحمون الناس ليرحمهم الرحمن، وبعبارة أخرى: يرحمون من في الأرض ليرحمهم من في السماء.
والعنف الذي وقع من بعض المسلمين، يرجع في كثير منه إلى الغرب ومظالمه المستمرة على أمة الإسلام. ويكفي خلقه إسرائيل من العدم، على أنقاض أهل فلسطين، ومساندته لها منذ قيامها إلى اليوم، وتشجيعها على الظلم والعدوان الدائم على أهل البلاد.
ومع هذا وجدنا العنف والإرهاب في كل بلاد الدنيا: في الشرق والغرب في الشمال والجنوب، في اليابان وفي أمريكا، وفي إسرائيل نفسها، وفي بريطانيا، وفي الهند، وفي غيرها من أقطار العالم.
ولم تتهم البروتستانتية بأنها صانعة الإرهاب في أمريكا، ولا الكاثوليكية بأنها صانعة الإرهاب في بريطانيا، ولا اليهودية بأنها صانعة الإرهاب في إسرائيل، ولا الهندوسية أو السيخية بأنها صانعة الإرهاب في الهند، فلماذا يتهم الإسلام وحده بأنه صانع العنف والإرهاب فيما قام به بعض المسلمين من حوادث؟
ربما يكون ذلك صحيحًا لو أقرَّهم المسلمون على فعلوه، ولكن العكس هو الصحيح، فالمسلمون عامة، وعلماؤهم خاصة، انكروا عليهم، ونددوا بما صنعوا وحَملوهم وزر ما عملوا. ولا تزر وازرة وزر أخرى.
هل العنف يحقق هدفًا؟
على أننا لو ناقشنا العنف من غير ناحية شرعيّته، بل من ناحية فائدته وجدواه، اعتمادًا على مذهب «المنفعة» أو «البراغماتية» هل نجد العنف أفاد أصحابه؟ هل حققوا به أهدافهم النهائية أو المرحلية؟ هل جُنيت من ورائه ثمرة للصحوة الإسلامية، أو للدعوة الإسلامية، أو للأمة الإسلامية؟ والجواب بالنفي قطعًا.
فالواقع الذي عايشناه يقول: إن العنف لم يغيِّر حكومة، ولم يسقط نظامًا، كما أراد أصحابه. ولم نر الاغتيال السياسي، أو القتل العشوائي، أو العمل التخريبي: غيَّر شيئًا في الأنظمة القائمة، التي أراد دعاة العنف ومستخدموه أن يغيروها، بل زادت الأنظمة تجبرًا وتفرعُنًا وعتوًّا.
والاغتيال السياسي الذي نجحوا في بعض محاولاته، لم يغيِّر شيئًا في واقع الأمر، كل ما حدث أن ذهب حاكم، وجاء حاكم آخر، والوضع كما هو، بل ربما كان أشد وأقسى مما قبله، حتى أصبح البيت الذي يتغنَّى به كثيرون قول الشاعر:
رُبَّ يوم بكيت منه، فلما صِرْتُ في غيره بكيت عليه!
أو كما قال الشاعر الآخر:
دعوتُ على عمرو، فمات، فسرّني فلما بلوت الغير نُحت على عمرو!
ثم إن الذي يمارس العنف، لا يستطيع أن يستمر فيه أبد الدهر. إنه يمارسه مدة تقصر أو تطول، ثم يتعب وييئس ويلقي سلاحه، ولم يجن من عنفه إلا ما سفك من دماء، وما دمر من ممتلكات، وما أضاع من جهود وأوقات، كلها جزء من العمر النفيس.
ولذا رأينا جماعات العنف في العالم بعد مدة من الزمن تحيل نفسها على «التقاعد».
فقه التغيير:
وأريد لهؤلاء المتسرعين السطحيين من هواة العنف - الذين يريدون تغيير المجتمعات بالقنبلة والرشاش - أن يعرفوا أن للتغير «فقهًا» يجب أن يطَّلعوا عليه. وأن التغيير المنشود الذي تنتقل به الأمم من الفساد إلى الصلاح، ومن الانحراف إلى الاستقامة، ومن الضعف إلى القوة، لا يتم بالانقلاب ولا بالسلاح. إنَّ له سننًا ثابتة لا بد أن تُرعى، فهو لا يتمُّ إلا بتغيير الإنسان من داخله، أي من عقله وضميره، وهذا يحتاج إلى منهج بعيد المدى، طويل النفس، واضح الأهداف، محدد المراحل، بين الطريق. ومحوره تغيير الأنفس أو - على حد تعبير القرآن - تغيير ما بالأنفس، كما قال تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡ} [الرعد: 11].
وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع العرب: غيَّر ما بأنفسهم، فغيّر الله ما بهم. غيرّ معتقداتهم ومفاهيمهم وأفكارهم وقيمهم، واهتماماتهم، وأهداف حياتهم، فأنشأهم خلقًا آخر، وأصبح عربيُّ الإسلام غيرَ عربيّ الجاهلية، في أهدافه وأخلاقه وسلوكه وعلاقاته. وبهذا انتقلوا من رعاة للغنم إلى رعاة للأمم، وأخرجوا الناس من عبادة الأشياء والأشخاص، إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سَعَتها، ومن جَوْر الأديان الفلسفات إلى عدل الإسلام، ووسطية الإسلام: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗا} [البقرة: 143]. وأخرج الله بهم الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، الصِّراط الذي هدى إليه رسول الله، كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ 52 صِرَٰطِ ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ أَلَآ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلۡأُمُورُ} [الشورى: 52، 53].
مقارنة بين عهدي عبد الناصر والسادات
وقد يحلو لكثير من الناس أن يسألوا: هل يختلف عهد السادات عن عهد عبد الناصر؟ وما الفرق بينهما؟
ونقول هنا: اشترك العهدان في أن كليهما من ثمرات ثورة 23 يوليو، المتحكِّمة في رقاب الشعب المصري، وإن اختلفا بعد ذلك في بعض الأمور المهمة.
عهد عبد الناصر عهد المصادرات والتضييق:
كان عهد عبد الناصر: عهد التأميم والمصادرات، وتحويل جمهور الناس إلى فقراء. فقد أمسى الناس في عهده يشكون: أصحاب الأملاك يشكون؛ لأن أرضهم صودرت وأخذت منهم، والفلاحون يشكون، لأن إنتاجهم يباع - أو يشترى منهم - بأرخص الأثمان.
والرأسماليون يشكون؛ لأنهم حوربوا بدعوى أنهم مستغلون، وصودرت مصانعهم وممتلكاتهم، وتسلمتها أيد عاجزة في إدارتها، متّهمة في أمانتها.
والعمال يشكون، لأنهم لا يأخذون الأجر الكافي، الذي يلبُّون به حاجاتهم التي تكاثرت، ومطالب أولادهم التي لا تتوقف.
والتجار يشكون؛ لأنَّ القوة الشرائية ضعفت عند الناس، ولأن الحكومة تفرض عليهم من الضرائب ما يرهقهم عُسْرًا.
والموظفون يشكون، لأنُّ الرواتب التي يتقاضونها لا تكفي للوفاء باحتياجاتهم، واحتياجات أسرهم، مع غلاء الأشياء باستمرار. لهذا يضطرون أبدا إلى الاستدانة، والدَّيْن همٌّ بالليل، ومذلّة بالنهار!
والمعارضون من إسلاميين ووطنيين وحتى يساريين يشكون، لما أصابهم في أنفسهم وأهليهم وذويهم من محن وابتلاءات، ومحاكمات عسكرية، وتعذيبات وحشية، أدخلتهم السجون والمعتقلات بالألوف،وخصوصًا الإسلاميين.
لا تكاد تجد أحدًا راضيًا عن معيشته وعن عمله، فهناك سخط عام، وغضب مكنون في الصدور، ولا يستطيع الناس أن ينفسوا عنه، لا بقلم ولا بلسان، ومن حاول ذلك اختطفته كلاب الصيد، فذهبت به إلى حيث لا يحس به أحد.
إنها الشكوى العامة التي تسمعها من كل لسان، وتلمسها في كل إنسان، وتحس بأثرها وصداها في كل مكان. الشكوى من الضيق الاقتصادي، والضيق السياسي.
وفي هذا الجو الخانق يسرّي الناس عن أنفسهم بالنكت، وينفسون بها عن مكنون صدورهم، وهناك أناس ينشئون النكتة، وآخرون يروجونها. وقد أجاد المصريون فنّ النكت السياسية، التي تُعتبر نوعًا من الدفاع عن الذات في مقابل ما يؤخذ من الناس من حقوق، وما يداس من حرمات، وما يسلب من حريات.
ويقولون: إن عبد الناصر كان يسأل باستمرار عن النكت الجديدة التي تؤلف في حقه، وكان أحيانًا يضحك منها، وأحيانًا يتألم.
كلمة إنصاف:
لستُ من الذين ينكرون أيَّ فضل أو أيَّ أثر إيجابي لثورة 23 يوليو، فهذا ينافي المبدأ الإسلامي الذي يوجِّه المسلم أن يعدل مع البعيد عدله مع القريب، ولا يمنعه شنآن من يبغض أن يتعامل معه بالعدل، كما لا يدفعه حبُّ مَن يحبُّ أن يحكم عليه بالعدل، فالمؤمن من شأنه إذا رضي ألا يدخله رضاه في الباطل، وإذا غضب ألا يخرجه غضبه عن الحقِّ، وإنما يكون قوَّاما بالقسط شاهدًا لله، ولو على نفسه أو الوالدين والأقربين، وكذلك مع خصومه وأعدائه.
ولا شك في أن ثورة يوليو خلَّصت الناس من الملكية التي انحرفت وزاد فسادها في سنيها الأخيرة، ومن الإقطاع المتجبِّر الذي جعل معظم الأرض في أيدي حفنة قليلة من الكبار، وأصبح الفلاحون أشبه بالعبيد عند هؤلاء، وغدا عجبا أن الذين يعملون لا يملكون، والذين يملكون لا يعملون!
كان أكثر الرأسماليين لا يعطون العاملين حقوقهم، ولا يوفُّونهم أجورهم العادلة، لهذا كانت الطبقات العاملة هي الطبقات المستضعفة والمسحوقة في المجتمع المصري، ولا سيما طبقات العمال والفلاحين.
فلما قامت الثورة، رفعت شأن هذه الطبقات، وأتاحت لهم من فرص التعليم والعمل ما لم يكن متاحا من قبل، حتى إنها خصَّصت لهم نصف مقاعد مجلس الشعب.
عصر السادات عصر الانفتاح بلا ضوابط:
ولما جاء السادات تغيَّر الحال عما كان في عهد عبد الناصر.
فقد انتقلت مصر من المصادرات والتأميم والتضييق إلى «الانفتاح». ولكنه كان انفتاحًا بلا قيود ولا ضوابط، فظهر رأسماليون جدد أو «باشوات» جدد، هم الذين سموهم «القطط السمان». هؤلاء الباشوات الجدد أصبح لهم ثروات الباشوات القدامى، وربما أضعافها، ولكن لم يكن لهم أصالة «الباشوات» ولا أخلاقهم ولا أعرافهم. كان الباشوات لهم بيوت مفتوحة، وأيد مبسوطة، وفضائل مرعية، وتقاليد متوارثة، ينتفع من ورائهم كثيرون ... وهؤلاء لأنفسهم فقط، لا ينتفع من ورائهم أحد، ولا سيما أنهم أثروا بسرعة البرق، لم يرثوا الثروة أبًا عن جد، ولم يكسبوها بكد اليمين وعرق الجبين، بل بطرق مليئة بالكذب والغش والخداع، واستغلال النفوذ، واستغفال القانون، واستخدام الرشا، حتى أصبح هؤلاء «حيتانًا» في بحر التجارة، تلتهم كل الأسماك الصغيرة، ولا يجرؤ أحد على أن يسائلها، فضلًا عن أن يعاقبها.
وكل «حوت» من هؤلاء كوّن له مملكة أو إقطاعية مالية يرتع فيها كيف يشاء، بلا رقيب ولا حسيب، حتى الضرائب التي يجب دفعها للدولة، له طرائقه في التخلص منها! وكل واحد من هؤلاء مسنود بصورة أو أخرى من السلطة الحاكمة، فهو قريب أو نسيب أو شريك لفلان أو فلانة، ممن يملك أن يحمي الظهر، ويشد الأزر! والمصريون يقولون: من له «ظهر» لا يضرب على بطنه!
فهذا مما عيب على عصر السادات، والدول لا تصلح بالانفتاح المطلق، ولا بالتضييق المطلق، ولكن بنهج وسط، يثير الحوافز، ويدفع إلى الإبداع، ويحرك عجلات التنمية والإنتاج الحقيقي، ولكن مع القيود التي تمنع من السرقة والنهب والاستغلال، ومع العدل الذي يمنح الفرص المتكافئة، ويعطي كل ذي حق حقه، ولا يوجد فيه أحد يعلو على القانون، أو يستغفل القانون.
وأمر آخر ظهر في عهد السادات، وهو: أنه وقع في شَرك «الديون» الأجنبية، وهذا كان أيضًا من آثار الانفتاح وسلبياته، ويبدو مما كتبه صديقنا الأستاذ عادل حسين رحمه الله عن ديون مصر في ذلك العهد: أن هذا أمر خططت له جهات معينة، وشبكة جهنمية، بيتت أمرها بليل، ورسمت خطتها بإحكام، لتوقع الدولة في هذا الفخ، فتخرج من دين إلى دين، وكل دين له تبعاته مما يُسمَّى خدمة الدَّيْن، فهو يحتاج في كل سنة إلى دفع الأقساط المطلوبة، ودفع الفوائد الربوية عليه. وهنا تعجز الميزانية، فتحتاج إلى أن تعالج هذا العجز بدين آخر، وهكذا، فتعالج داء بداء. وقد أدرك هذا شاعرنا العربي من قديم، فقال:
إذا ما قضيت الدّيْن بالدَّيْن لم يكن قضاء، ولكن كان غرما على غرم!
ولادة الصحوة الإسلامية من رحم الحرية:
على أن الشعب في عهد السادات - ولا سيما في السنوات الولى - أحس الناس بأن القبضة الحديدية التي كانت تمسك بخناقهم، خفت عنهم، وأن الحرية بدأت تجد طريقها قليلًا قليلًا إلى الناس، وأن العمل الإسلامي بدأ يتحرك، وخصوصًا بين الشباب في الجامعات، وبهذا طفقت الصحوة الإسلامية تولد من رحم الحرية. ولا شيء ينعش الدعوة الإسلامية مثل جو الحرية.
...................
(1) روى البخاري في الرقاق (6416) عن ابن عمر
(2) متفق عليه: رواه البخاري في فضائل الأعمال (5058)، ومسلم في الزكاة (1064) عن أبي سعيد.
(3) رواه مسلم في الإيمان (49) عن أبي سعيد.