كنت أعتبر نفسي ممن آتاه الله قوة البنيان، وسلامة العظام، ولم أر في أسرتي من أعمامي ولا أبناء أعمامي من شكا من آلام العظام؛ ولهذا تعاملت مع جسمي وعظامي وأجهزته المختلفة بغير اكتراث. ولم أكن أحترس في السفر ولا في الحضر عند حمل الأشياء الثقيلة، وأن لها أصولًا وآدابا، ونسيت الأدب النبوي القائل: «وخذ من صحتك لسقمك، ومن شبابك لهرمك»(1).
حقيقة مهمة في الكون والإنسان:
كما أني نسيت حقيقة مهمة في هذا العالم، وهي حقيقة طبيعية، وحقيقة إنسانية، وهي: أن الزمن يغيِّر الإنسان كما يغيِّر الأشياء...
لقد درسنا في الجغرافيا الطبيعية: ما يسمونه «عوامل التحاتّ والتعرية»، وهي عوامل تؤثر في الجبال وفي البر والبحر والطبيعة كلها. فالصحراء قد تزحف على المساحة الخضراء، وهو ما يسمَّى الآن: خطر التصحر، والصحراء قد تُخضّر، وتزحف الخضرة على الصحراء، والبحر كثيرًا ما ينحر من البر، والناس كثيرًا ما تردم أجزاء من البحر... وهناك جزر قد تنشأ جديدًا في البحر، وجزر تزول.
والإنسان يجري عليه ما يجري على الكون من حوله من تغيرات، ولكننا ننسى هذا... ننسى أن كرّ الغداة، ومرّ العشى، واختلاف الليل والنهار: يُشِيب الصبي، ويضعف القوي، ويُمرِض السليم، ويوهن العظم، وإن تفاوت الناس في ذلك تفاوتًا بعيدًا، ولكن الجميع محكوم بقول الله تعالى: {وَخُلِقَ ٱلۡإِنسَٰنُ ضَعِيفٗا} [النساء: 28].
نصيحة شيخنا عبد المعز عبد الستار:
وقد كان شيخنا الداعية الكبير عبد المعز عبد الستار - وهو معنا في قطر - ينصح لي كلما لقيني، ويقول: أنت تقوم عنا وعن جلِّ علماء الأمة، بالدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه على مستوى العالم، والتصدِّي لأعدائه في الخارج، وخصومه في الداخل، جزاك الله خيرًا عن الإسلام وأمته... ولكن أحب أن أذكرك حكمة قالها لي بعض شيوخنا (ذكر اسمه)، وهي: مَنْ جار على شبابه جارت عليه شيخوخته، فلا تجر على شبابك وحيويتك لتسلم لك شيخوختك، وهي ليست لك وحدك، ولكنها لأمة الإسلام.
دورة العلاج ولزوم الراحة التامة:
على أيِّ حال، لقد عدت إلى الدوحة، وبدأت دورة العلاج، ونقلت إلى المستشفى لإجراء ما لا بد منه من فحوص، وما يحتاج إليه الأطباء في مثل هذه الحال من أشعة وتحليلات مختلفة للدم وللبول وغيرهما.
وكانت نصيحة أطباء العظام: أن ألزم الراحة التامة على الفراش، على ألاّ يكون ليّنًا، وأن أنام على ظهري ما استطعت، مع تناول بعض الحبوب والمسكنات، وأن أقوم ببعض التمرينات الخفيفة بوصفها نوعًا من العلاج الطبيعي، وكان الأطباء المختصُّون يمرون علي ما بين حين وآخر في منزلي ليراقبوا الحالة، ويصفوها، ويروا رأيهم فيها.
وقد ذكروا أنها حالة من الانزلاق الغضروفي، التي تصيب فقرات الظهر بسبب أو آخر، وقد يمكن أن تزول أو تخف بالراحة زمنًا، وبالعلاج الطبيعي، وقد تكون الإصابة شديدة فتحتاج إلى الجراحة، ولكن هذه لا يلجأ إليها إلا عند اليأس من العلاجات الأخرى، وآخر الدواء الكي كما يقول العرب.
لزمتُ بيتي، بل لزمتُ فراشي، كما قرَّر أطبائي المعالجون، والمريض ليس له إلا طاعة طبيبه، وانقطعت عن الجامعة، فلم أعد أحاضر، وعن الجامع، فلم أعد أخطب، وطال بي القعود، والآلام لا تزال تهز كياني، وتزلزل بنياني، وهذا ما حرَّك وجداني، وأنطق لساني، فبدأت أنشئ أكثر من قصيدة وأنا على فراشي.
تحرُك شاعريتي في المحن والمعتقلات:
وقد كنت هجرت الشعر أو هو هجرني زمنًا، فقلما يجتمع العلم والشعر، ولكن المحن عادة تحرك شاعريتي، وقد ظهر ذلك في المعتقلات والمحن التي نزلت بالإخوان المسلمين، وكنت واحدًا من الممتحَنين، فأنطقتني المحن بعدد من القصائد أشهرها: النونية التي يحفظها ويتغنَّى بها كثيرون.
قصيدة «مناجاة»:
كانت القصيدة الأولى التي أنشأتها في هذه المحنة المرضيَّة، هي قصيدتي الضادية، التي نشرت تحت عنوان «مناجاة»: وفيها أقول:
يا رب! ها جسمي يشيخ ويمرض والوهن وافاني سريعا يوفض
ولَّست سنوُ عُمري كرؤيا نائم ومَضَى شبابي مثل برق يومض
ودنا الرحيل ولم أهيئ زاده وخيام أيامي تكاد تُقَوَّض
كل النفائس قد تعوض إن تَضِعْ! والعمر - إن ضيَّعت - ليس يُعوّض
ما بعد نضج الزرع غير حصاده هي سنّة لله، ليست تنقض
وإذا أتى الأجل المقدر وقته لم يغن عنك مطبب وممرض
إلى آخر القصيدة المنشورة في ديواني «نفحات ولفحات».
قصيدة «يا أمتي وجب الكفاح»:
القصيدة الثانية: قصيدتي الحائية التي عنوانها: «يا أمتي وجب الكفاح».
وقد أخذت عنوانها من مطلعها:
يا أمتي وجب الكفاحْ فدعي التشدق والصياحْ
ودعي التقاعس ليس ينصر من تقاعس واستراح
ودعي الرياء فقد تكلمت المذابح والجراح
كذب الدعاة إلى السلام فلا سلامُ ولا سماح
ما عاد يُجْدينا البكاء على الطلول ولا النواح
لغة الكلام تعطَّلت إلا التكلم بالرماح
إنا نتوق لألسنٍ بُكْمٍ على أيد فصاح
يا قوم... إن الأمر جدٌّ قد مضى زمن المزاح
سموا الحقائق باسمها فالقوم أمرهمو صراح
سقط القناع عن الوجوه، وفعلهم بالسر... باح
عاد الصليبيون ثانيةً... وجالوا في البطاح
عاثوا فسادًا في الديار كأنها كلأ مباح
عادوا يريقون الدماء، ولا حياء من افتضاح
والباطنية مثَّلوا الدور المقرر في نجاح
دور الخيانة وهو معلوم الختام والافتتاح
عادوا وما في الشرق «نور الدين» يحكم أو «صلاح»
كنا نسينا ما مضى لكنهم نكئوا الجراح
لم يخجلوا من ذبح شيخ، لو مشى في الريح طاح
أو صبية كالزهر لم ينبت لهم ريش الجناح
لم يشف حقدهمو دم سفحوه في صلف وقاح
عبثوا بأجساد الضحايا في انتشاء وانشراح
وعدوا على الأعراض لم يخشوا قصاصًا أو جُناح
ما ثمَّ «معتصم» يغيث من استغاث به وصاح
أرأيت كيف يكاد للإسلام في وضح الصباح؟
أرأيت أرض الأنبياء، وما تعاني من جراح؟
أرأيت كيف بغى اليهود، وكيف أحسنا الصياح؟
غصبوا فلسطينا وقالوا: ما لنا عنها براح
لم يعبثوا بقرار «أمن»، دانهم أو باقتراح
عاد التتار يقودهم جنكيز ذو الوجه الوقاح
عادت جيوشهموا تُهدِّد بالخراب والاجتياح
عادوا ولا «قظر» ينادي المسلمين إلى الكفاح
لولا صلابة فتية غُرّ، بدينهمُو شحاح
بذلوا الدماء، وما على من يبذل الدم من جناح
وهي تعبر عن محنة الأمة: التي زحف عليها الصليبيون ولا صلاح الدين لها، وزحف عليها التتار ولا قطز لها، وانتشرت فيها الردة ولا أبا بكر لها.
وكان ذلك بعد مذابح صبرا وشاتيلا في لبنان، وبعد مجازر السوفيت في أفغانستان، وبعد تطاول العلمانيين واللادينيين في بقاع شتى.
وكانت هذه القصيدة استصراخًا للأمة، وقد تغنَّى بها الشباب في كل مكان، وخصوصًا الأبيات الأخيرة منها.
يا أمة الإسلام هبوا وانهضوا فالوقت راحْ
يا ألف مليون، وأين همو إذا داعت الجراحْ
هاتوا من المليار مليونا صحاحا من صحاح
من كل ألف واحدا أغزو بهم في كل ساح
من كل صافي الروح يوشك أن يطير بلا جناح
قرار السفر إلى ألمانيا:
ولما لم تُجْد العلاجات المخفِّفة والمسكنة والعلاج الطبيعي: رأى الأطباء المعالجون «الدكتور نبيل خليفة وزملاؤه شكر الله لهم»: أن الحل الحاسم هو العملية الجراحية، وأن الأولى أن يجريها الشيخ في بلد أوربي، ونحن نرشح ألمانيا. وسرعان ما جاء الإذن من الديوان الأميري بسفري للعلاج في ألمانيا، وقد اتصل الديوان بسفارة قطر في ألمانيا في مدينة «بون» وهي عاصمة ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد تقسيم برلين إلى شرقية وغربية، وكان السفير هناك الأستاذ أحمد الخال، وقد قام بعمل المطلوب قبل وصولي.
تقرر سفري، ومعي زوج ابنتي الدكتور أحمد سيف الإسلام مكي، وهو طبيب في المستشفى في قسم العظام، وكنا في أواخر السنة الدراسية، والأولاد ينتظرون امتحانات آخر العام، وأمهم مشغولة بهم، ولا تستطيع أن تسافر معي.
الوصول إلى ألمانيا بصحبة د. أحمد زوج ابنتي:
ولقد سافرت عن طريق لندن، وعملت الترتيبات اللازمة لتنقلاتي عن طريق «الكرسي المتحرك» وركوبي الطائرة ونزولي منها، وانتقالي من ترمنال إلى آخر في مطار لندن، ونزولي من مطار بون، وغير ذلك، حتى وصلت إلى الفندق الذي أنزل فيه بسلام والحمد لله، حتى تتم إجراءات دخول المستشفى، وكان مندوبو السفارة في استقبالنا بالمطار، ولم يفارقونا حتى رتَّبوا كل ما هو مطلوب.
وقد حجزوا لنا في المستشفى الجامعي، وهو مستشفى معروف على مستوى رفيع من ناحية أطبائه، ومن ناحية أجهزته، ومن ناحية تمريضه.
ومما فوجئت به: أنهم لم يحجزوا لي في قسم «العظام» وهو القسم الذي كان يتولى رعايتي في مستشفى حمد بالدوحة، بل كان الحجز في قسم «الأعصاب»؛ ذلك لأن الانزلاق الغضروفي وعملياته الجراحية تتبع قسم الأعصاب لا قسم العظام.
وكان يرأس قسم الأعصاب طبيب عالمي معروف يدعى للمؤتمرات العالمية في تخصُّصه... ولم يكن موجودًا حين ذهبت، ولكن كان نائبه هو الموجود، وقد قيل لي: إن نائبه من الناحية العملية أمهر منه، وإن كان الرئيس أبرز في الناحية النظرية والأكاديمية.
وقد أثبتت الكشوف والتحليلات بالأشعة والأشعة الملونة: أن هناك خللًا في الفقرة الخامسة - على ما أذكر - وتحتاج إلى عملية، ولم تعد بالأمر الصعب، فهم يجرونها كل يوم - تقريبًا - لعدد من الأشخاص، وقد أخذوا مني توقيعي - كما هو المعتاد - بالموافقة على إجراء العملية.
وفي اليوم المحدَّد قام الطبيب المختص - وهو نائب رئيس القسم - بإجراء العملية، وقد تمت بسلام والحمد لله. ولكن المهم ليس العملية، بل ما بعد العملية، إذ لا يستطيع المرء أن يتحرَّك إلا بمحرِّك... لا يستطيع أن يقضي حاجته، بل لا يستطيع أن يتقلب في فراشه...
كثرة النعم ومعرفتها عند فقدها:
كنت في الأيام الأولى أقول: متى أستطيع أن أنام على الجنب الذي يريحني؟! لأني لا يمكنني وحدي أن أحرك جنبي، أو أغيِّر نومتي، وحين أمكنني ذلك، اعتبرت أني انتقلت نقلة عظيمة، وعدّدْتُها نعمة كبيرة تستحق شكر الله تعالى عليها، وكم لله علينا من نعم جليلة لا تُحصى، ولا نحسُّ بها، لأننا ألفناها وتعوَّدناها، ففقدت قيمتها عندنا، ولا نعرفها إلا بفقدها.
بعد أن استطعت التقلُّب على جَنْبي وحدي أصبحت أتمنى شيئًا آخر أن أرفع رأسي من فوق الوسادة وحدي، ثم أن أقعد على السرير وحدي.
وبعد ذلك، كنت أقول: متى أستطيع أن أجلس على الكرسي وحدي؟ وعندما تمكنت من ذلك، وكنت أنتقل بالكرسي المتحرك، وأذهب به إلى دورة المياه، وأقضي حاجتي بنفسي: شعرت بنعمة جديدة من الله تعالى على أجَلْ، إن الإنسان يتمتع بنعم لا تُعد ولا تُحصى من نعم الله عليه، ولكنه لا يحسُّ بها إلى عند فقدها.
الصلاة بالإيماء ووجوب المحافظة عليها:
كنت بعد أن أفقت من العملية: أصلي بالإيماء، مشيرًا بحاجبيّ، فلم أكن أستطيع تحريك رأسي. وأحسبني في أول الأمر كنت أصلي صلاة فاقد الطهورين، الماء والتراب، فلا أقدر على استعمال أحدهما، كما أصلي بدون توجُّه إلى القبلة {وَلِلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ فَأَيۡنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجۡهُ ٱللَّهِ} [البقرة: 115].
إنَّ الصلاة فريضة مقدَّسة، أوجبها الله في الصحة والمرض، والحضر والسفر، والأمن والخوف، ولم يعذر أحدًا على تركها إلا من فقد الوعي، أما من بقي معه عقل يفهم الخطاب، فلا عذر له في ترك الصلاة عمود الإسلام.
إنَّ شروط الصلاة وأركانها تسقط بالعجز عنها، ولا يكلِّف الله نفسًا إلا وسعها: أما الصلاة نفسها فلا بدّ منها، من لم يستطع الوضوء أو الغسل صلى بالتيمم، ومن لم يستطع التيمم صلى فاقد الطهورين، ومن لم يقدر على التوجه إلى القبلة، صلى إلى أيِّ جهة قدر عليها، ومن لم يقدر أن يصلي قائمًا صلَّى قاعدًا، ومن لم يستطع الصلاة قاعدًا، صلى مُضْطجعًا على جَنْبه، أو مستلقيًا على ظهره، موميًا برأسه، أو مشيرًا بحاجبيه، قارئًا بلسانه إن قدر، أو مستحضرا القراءة والأذكار بقلبه.
في حالة الحرب، أمرنا الله بالصلاة مشاة أو راكبين، ولا تؤخَّر الصلاة، كما قال تعالى: {حَٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلۡوُسۡطَىٰ وَقُومُواْ لِلَّهِ قَٰنِتِينَ 238 فَإِنۡ خِفۡتُمۡ فَرِجَالًا أَوۡ رُكۡبَانٗا} [البقرة: 238، 239] ومعنى: رجالًا، أي راجلين، مشاة على أرجلكم، ومعنى: ركبانًا، أي: راكبين فوق خيولكم أو دباباتكم في البر، أو غواصاتكم في البحر، أو طائراتكم في الجو ... صلوا حيثما كنتم، وكيفما استطعتم.
وقد بدأوا في المستشفى يجرون لي بعض تمرينات العلاج الطبيعي، شيئًا فشيئًا، حتى يعود الجسم إلى حالته الطبيعية، وفق سنة الله في التدرج.
زيارة الجالية الإسلامية لي في بون:
وسرعان ما علمت الجالية الإسلامية - في بون خاصة، وفي ألمانيا عامة - بدخولي المستشفى، وإجرائي العملية، وأسرعوا بزيارتي... وبعضهم جاءني، ولم أكن أفقت بعد من أثر التخدير، منهم أبو أيمن الأخ الأديب الشاعر الداعية الكبير الأستاذ عصام العطار، وبعض إخوانه جاءوا من مدينة آخن، ومن المركز الإسلامي بها.
ومنهم الأخ الكبير: الأستاذ مصطفى مشهور نائب المرشد العام، وقد كان وقتها في أوربا، فهرع لعيادتي ومعه الأخ المجاهد الحبيب الحاج عباس السيسي، الذي كان يقيم في ألمانيا في ذلك الوقت راعيًا للمركز الإسلامي في فرانكفورت، ومعهما ثالث، نسيته، ربا كان الأستاذ محمد المهدي عاكف - مرشد الإخوان - الذي كان يعمل مديرًا للمركز الإسلامي في ميونخ، كما اتَّصل بي أحبّاء كثيرون من قطر، من كل الفئات، وكذلك من مصر، ومن الكويت والسعودية والإمارات وبلاد الخليج، ومن أوربا وأمريكا، يصعب أن أذكرهم، فهم عدد لا يُحصى، ولا يسعني إلا أن أدعو الله لهم أن يجزيهم عني خيرًا. أذكر فقط هنا الذين كرّروا السؤال والاتصال، وعرض الخدمات، منهم الإخّوان: يوسف ندا، وغالب هَمت من سويسرا.
وهكذا رأيت الإخوة في ألمانيا عامة، وفي بون خاصة، يحيطون بي إحاطة السوار بالمعصم، ويغمرونني بعواطفهم الجيّاشة بالحب، الفيّاضة بالحنان، وقد وضعوا أنفسهم في خدمتي، وكأنما أرادوا أن ينقلوا الدنيا كلها إلي، فقلت لهم: ليس لي إلا طلب واحد قالوا: ما هو؟ قلت: قارورة من الماء الطبيعي، فإن كل الماء الذي في المستشفى ماء غازي، وأنا لا أتذوّقه ولا أستطعمه، فأشربه للضرورة. والفقهاء يقولون: الضرورة تقدر بقدرها، وأعتقد أننا أعطينا لضرورة قدرها المناسب، وآن لنا أن نخرج منها.
وسرعان ما حملوا إليّ بدل القارورة قوارير، كما أمسوا بعد ذلك يتحفوننا ببعض الأطعمة العربية التي طال شوقنا إليها، مما يسمح به عادة في مثل هذا الوضع.
وكان الإخوة من كل الجنسيات العربية والإسلامية في خدمتي، وخصوصًا الإخوة السوريين، فقد كان منهم عدد كبير ولا سيما من الأطباء، فروا من دكتاتورية حكم البعث النصيري وطغيانه، وجاءني إخوة من فرانكفورت وميونخ وستوتجارت، وغيرها.
فؤاد قنديل وسعد سلامة:
ومن هؤلاء إخوة مصريون لم أرهم منذ سنين طويلة، منذ خرجنا من السجن الحربي سنة 1956م، مثل الأخ الدكتور فؤاد قنديل ابن طنطا، النابغة الذي حفظ القرآن في السجن، وكان من رواة قصيدتي «النونية»، هو وزميله ابن طنطا أيضًا سعد زين العابدين سلامة، الذي سعدت بزيارته أيضا.
وقد عرفت من الأخ فؤاد: أنه تزوج بعد وصوله إلى ألمانيا، بزمن قصير، ليحصن نفسه، تزوج بألمانية أسلمت، ورزق منها بثلاث بنات، مسلمات بالطبع، ولكنه كان يتمنى أن يكون إسلامهن أقوى مما هن عليه، فهمًا وشعورًا وسلوكًا، وهذا قلَّمَا يتأتى إلا في ظل مجتمع مسلم.
الدكتور سيد يونس العطافي:
وممن قابلتهم أيضا: الأخ الصديق ابن المحلة، د. سيد يونس العطّافي، الذي يعمل طبيبًا ناجحًا للأسنان، وقد كوَّن منزلةً وثروة، وتزوج من ألمانية بعد قصة حب متبادل، وقد أسلمت وأنجبت منه ثلاثة أولاد: ولدين وبنتًا، أو ولدًا وبنتين، لا أذكر، ثم سلطت عليها بعض قريباتها فأفسدنها عليه، وخلقن بينهما مشكلات، انتهت إلى المحاكم لطلب الطلاق، وما زالت معلَّقة منذ سنوات، وقد عاد إلى البيت يومًا، فلم يجدها، لا هي ولا أولادها، ولا أثاث البيت.
مشكلة الطلاق في أوربا:
والطلاق في ألمانيا وفي أوربا بصفة عامة: يعطي المرأة نصف ثروة الرجل، وهذا كان من أسباب ترك الزواج أو تأجيله، أو الاستعاضة عنه بالصداقة والمرافقة بين الرجل والمرأة، فهما يتعايشان ويتعاشران معًا بلا عقد؟!!
وقد كنت أسال الممرضات اللاتي يقمن على خدمتي في المستشفى: آنسة أم سيدة «مِسْ أور مسز؟» فوجدتهن كلهن آنسات «مس». ومع هذا لكل واحدة - في الغالب - صديقها الذي تعاشره معاشرة الأزواج، بلا عقد زواج، تحرُّرًا من تبعات الزواج، وما قد يترتب عليه أحيانًا من طلاق.
رباط الحب في الله:
أحاطني الإخوة أكرمهم الله في ألمانيا بحبهم ورعايتهم، لا لغرض دنيوي ولا لمصلحة مادية، ولا لذة عاجلة، إنما هو الحب في الله الذي ربط بيني وبينهم، برباط وثيق لا تنفصم عراه، ولا ينقض حبله، وهو الذي يبقى مع صاحبه إلى يوم القيامة، فيُظل الله أصحابه في ظله يوم لا ظل إلا ظله... وفي يوم القيامة نرى أصدقاء الدنيا أعداء في الآخرة، حيث يكذب بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، ويبرأ بعضهم من بعض، إلا أهل الإيمان والتقوى، الذين كان ترابطهم لله في الله، فهم يدخلون بهذا الحب الجنة، إخوانا على سرر متقابلين، يقول تعالى: {ٱلۡأَخِلَّآءُ يَوۡمَئِذِۢ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوٌّ إِلَّا ٱلۡمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].
كان وجود زوج ابنتي - د. أحمد سيف الإسلام - معي خيرًا وبركة، فقد كان الواسطة بيني وبين الأطباء الذين يعالجونني، فهو الذي يترجم لي عنهم، ويترجم لهم عني؛ ولأنه طبيب جراح من ناحية، ويتقن الإنجليزية من ناحية أخرى، كان نعم الرفيق في تلك المرحلة.
ترخصي في الإفطار في رمضان:
وقد أجريت العملية في النصف الثاني من شهر شعبان، وأقبل علينا رمضان، وأنا لا أزال في المستشفى، وقد بدأت أتعافى شيئًا فشيئا، وأجري بعض التمرينات الملائمة التي يتطلبها العلاج الطبيعي، ولكن لا أستطيع أن أصوم رمضان، لأسباب عدة، منها: أني آخذ بعض الأدوية كل عدة ساعات، وأني في حاجة إلى غذاء منتظم، وأن اليوم في صيف أوربا طويل جدًّا، أكثر من ثماني عشرة ساعة، وليس في إفطاري أدنى حرج، وأنا أفتي الناس في مثل حالتي أن يفطروا، أخذًا بالرخصة التي رخص الله لهم: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ} [البقرة: 185].
حنيني إلى رمضان الدوحة:
لم يكن في إفطاري مشكلة، ولكن المشكلة بدأت تظهر في حنيني الدافق إلى «رمضان الدوحة» وما فيه من حيوية وروحانية، ينعش القلوب بالإيمان، ويغمر الأفئدة بالسكينة... أين ما أنا فيه مما يعيشه إخواني في الدوحة، وما كنت أعيشه معهم من قبل: من دروس العصر، والإفطار مع العائلة، وصلاة التراويح، ودرس التفسير كل ليلة، وتلاوة جزء من القرآن كل يوم، وختم القرآن في نهاية رمضان، ودعاء ليلة القدر ليلة 27 من رمضان، ودعاء ختم القرآن؟!
كانت هذه المشاعر الدافقة من الشوق إلى مرضان في الدوحة، بكل ما يحمله من نفحات وبركات، وما فيه من دروس وصلوات، جعلت من هذا الشهر الكريم «ربيع الحياة الإسلامية» فيه تتجدد القلوب بالإيمان، وتتجدَّد العقول بالمعرفة، وتتجدَّد روابط الأسرة بالتلاقي في الفطور والسحور، وتتجدد أواصر المجتمع بالتواصل والتزاور واستباق الخيرات.
رسالة شوق وحنين إلى الإخوة في الدوحة:
ولا يمر يوم ولا ليلة إلا ازداد فيها شوقًا وحنينًا على ذكريات رمضان، ولم تزل كذلك حتى أفرغت هذه العواطف الملتهبة في صيدة أنشأتها، وأرسلتها مع صهري د. أحمد سيف، لتنشر في صحف الدوحة، بعنوان «رسالة شوق وحنين إلى الإخوة في الدوحة».
ولا بأس أن نذكر منها شيئًا:
هلا بعثتم شعاعًا من مساجدكم تلوح منه لنا في «بونَ» أضواء؟!
فلا أذان ولا قرآن نسمعه ولا تراويحنا، وَاحرَّ قلباه!!
إنِّي لأذكركم في كل أمسية ذكر الغريب بعيد الدار مأواه
كم التقينا على ذكر وموعظة وأفضلُ الذكر قرآنٌ تلوناه
في موسم الطهر في رمضان الخير تجمعنا محبَّة الله لا مالٌ ولا جاه
من كل ذي خشيةٍ لله ذي ولع بالخير تعرفُه دَوْمًا بسيماه
سفر د. أحمد ووصول أم محمد:
وقد كان لا بد لزوج ابنتي الدكتور أحمد... الذي هو بمثابة ابني حقًا - أن يعود إلى الدوحة، فقد انتهت المدة المصرَّح له بها، وقد كان نِعُم الرفيق، ونِعم العون ونِعْم الأنيس لي، في أشد الأيام عليّ، ولا سيما بعد إجراء العملية.
وفي اليوم الذي سافر فيه أو اليوم التالي - لا أذكر - وصلت أم محمد زوجتي من الدوحة، بعد أن أنجز الأولاد امتحانات آخر العام، فملأت الفراغ، وكانت لي نعم الجليس والأنيس، وسمح لها أن تبيت بجواري في المستشفى، وهي تصوم، وأنا مفطر.
الانتقال إلى بادنوين آر:
ولم يطل مقامي في المستشفى بعد ذلك، فقد قرر الأطباء المعالجون: أن أنقل إلى مصحة متخصِّصة في العلاج الطبيعي، في بلدة قريبة من مدينة «بون» على بعد نحو أربعين كيلو مترًا. تسمى «بادنوين آر».
وجاءت سيارة إسعاف مجهّزة، لتنقلني إلى تلك المصحة بطريقة سليمة، ولا تحدث لي مضاعفات أو أي آثار سلبية، وصحبتني زوجتي ومندوب من السفارة القطرية في بون.
ودخلت هذه المصحة الكبيرة، التي يشرف عليها أطباء مختصُّون في العلاج الطبيعي بألوانه ومستوياته المختلفة.
وهذه المصحة أشبه بفندق راق من ناحية، وبمستشفى علاجي من ناحية أخرى، وبحمامات متنوعة من ناحية ثالثة.
وأعطيت حجرة في أول الأمر، ثم نقلت إلى جناح بعد ذلك - بموافقة السفارة القطرية - لأستقبل فيه زواري الكثيرين.
وكانت هذه المصحة مجهَّزة بكل ألوان العلاج الطبيعي، وبالمتخصصين والمتخصصات فيه، على كل صعيد.
ففيه الحمامات المختلفة الساخنة، المعدّة بالمياه العادية، والمياه المعدنية، والتي تمكن الإنسان من أن يسبح فيها كما يريد، حتى أنا الذي لا أحسن السباحة للأسف، كنت أسبح فيها بطريقتي الخاصة، عن طريق الإمساك بالحديد الموجود بجدران الحمامات، والمهيأ ليعين من لا يجيد السباحة.
وكان فيها «الطين» الذي يصبغ به جسم المريض، ويترك فترة من الزمن، ثم يزال عن طريق الاستحمام.
وكان فيها التدليك أو المساج، الذي يعمِّم على الجسم كله... وكان من النظام المتبع في هذه المصحة: أن يدلك الرجال الرجال والنساء النساء.
وكان هناك استخدام لبعض الأعشاب، تدفأ وتوضع تحت الظهر، وألوان أخرى من العلاج، يقوم بها إخصائيون مهرة، كلها تعد المريض ليستكمل عافيته، ويستطيع بعدها أن يعود إلى حياته العادية من جديد، مؤديًا رسالته، ومستمرًا فيما أمكنه من هذه العلاجات.
تجاوبت كل التجارب مع ما تُقَدِّمه هذه المصحَّة من علاجات مختلفة، وسرعان ما ظهر أثر ذلك في صحتى، وأصبحت بعد قليل قادرًا على أن أمشي مسافة غير قليلة بلا معاناة، وإن حذروني من المشي في الأماكن غير المستوية، والتي فيه صعود وهبوط، وخصوصًا في الأيام الأولى.
صوم النصف الثاني من رمضان:
مضى نصف رمضان، وأنا أعمل برخصة الإفطار للمريض، ثم عزمت على أن أصوم النصف الثاني، مستعينًا بالله تعالى، ولا سيما أنني لما أعد أتناول أدوية في النهار تقتضيني أن أفطر.
وقلت لزوجتي: سأصوم معك غدًا إن شاء الله، ونتسحر معًا.
قالت: أخشى أن يؤثر الصوم على مسيرة العلاج الطبيعي، وأنت تفتي الناس بالفطر إذا احتاجوا إليه.
قلت: ولكني أشعر بأني لم أعد في حاجة إليه.
وتسحَّرنا وصمنا، وجاء المغرب فأفطرنا، وقد جعت حقًا، لطول اليوم، ولكن هذه هي حكمة الصوم: أن يحس الصائم بلذعة الجوع، وحرارة العطش، فيدرك نعمة الله عليه عند الشبع والري، ويقول: الحمد لله، من كل قلبه، كما يشعر بآلام الجائعين والبائسين الذين لا يكادون يجدون القوت، فيعطف عليهم ويمد إليهم يده بالعون.
وقلت في نفسي: إنها فرصة ثمينة لإنقاص الوزن (الذي يسمونه: الريجيم) فنحن نكتفي بالطعام الذي يقدّمونه لنا، وهو طعام صحي قليل، ولكنه كاف، ليس فيه ما على موائدنا في رمضان مما لذ وطاب من المسلوق والمشوي والمحمر، ناهيك بالمعجنات والحلويات المقرونة برمضان، كأنما أصبح رمضان شهر الطعام لا شهر الصيام، وأصبح المسلمون ينفقون على بطونهم في هذا الشهر أكثر مما ينفقون في غيره من شهور العام!
وأذكر أني صمت أربعة عشر يومًا على هذه الحال، فقد كان الشهر تسعة وعشرين يومًا، وقضيت نصف الشهر الذي أفطرته حينما عدت إلى الدوحة، كما قال تعالى: {فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184].
اتصالات من مختلف القارات:
وطوال شهر رمضان غمرني إخوتي المسلمون بالاتصال والسؤال من أنحاء العالم، ولا أدري كيف عرف الناس، حتى اتصلوا بي من قارات الدنيا الخمس، سائلين وداعين لي بالشفاء. ولا سيما من قطر التي لم يكد الهاتف ينقطع ساعة عن سؤال يأتي من أحد الإخوة من أهل قطر أو المقيمين فيها. وخصوصًا بعد أن قرأوا قصيدتي في الحنين إلى الدوحة وأهلها في شهر رمضان، كما زارني كثير من أحبابي، وأنا أقضي فترة العلاج الطبيعي، على رغم بعد هذه البلدة عن بون، فجزاهم الله خيرًا!.
وكانت هذه الاتصالات المختلفة تملؤني ثقة وأملًا بأن الأمة إلى خير، ما دامت هذه المشاعر القائمة على الحب في الله: حية ومتصاعدة، كما تزيدني شعورًا بمسئوليتي تجاه هذه الأمة التي منحتني حبها وثقتها وولاءها في الله عز وجل، وأني مهما أبذل في سبيل إحيائها وإعلائها، فلن أوفيها حقها.
وصول الأولاد إلى بادنوين آر:
وبعد انقضاء رمضان، وانتهاء امتحانات آخر العام: أصبح في إمكان الأولاد أن يلحقوا بنا، وأن يأتوا من الدوحة إلى ألمانيا، ولا بد أن يتهيئوا لذلك... كانت إلهام وسهام وعلا قد تزوَّجن، وبقيت أسماء ابنتي الصغرى، وإخوتها الذكور: محمد وعبد الرحمن وأسامة، وقد انضمَّت إليهم علا وزوجها المهندس حسام خلف، بعد عودتهما من أمريكا.
وقطع الجميع تذاكرهم، وحجزوا للسفر من الدوحة إلى فرانكفورت، وهناك استقبلهم الإخوة في المركز الإسلامي هناك، وعلى رأسهم الأخ الحبيب الداعية المربي الحاج عباس السيسي، رحمه الله. وقد ركبوا القطار إلى بون، ومنها إلى بادنوين آر.
وكان بعض الإخوة الذين يزورونني، قد بحثوا لهم عن سكن مناسب في هذه البلدة، فجاءوا إليه، وهي شقة مناسبة فيها عدة حجرات، وعدة من الأسرة، بعضها يستعمل في الليل ويُطوى في النهار، ويكون في صورة خزانة في الحائط.
وكانوا أحيانًا يأتوننا ليزورونا في الجناح الذي نسكنه في المصحة «أو الفندق» وكنا نذهب نحن أحيانًا، لنبقى عندهم ونتغذى أو نتعشى معهم.
كما كنا نتجوَّل في حدائق البلدة، وهي كثيرة وجميلة، وهي فرصة للمشي الذي أنا في حاجة إليه.
بلدة «بادنوين آر»:
كانت «بادنوين آر» بلدة جميلة مريحة، فيها من خصائص القرية وخصائص المدينة معًا، ومعنى «باد» كما عرفت من الإخوة: حمام، و«آر»: اسم لنهر يشق البلدة، و«نوين»: بمعنى الجديد، فكان المعنى: حمام النهر الجديد.
فهذه البلدة تتميز بحماماتها ومياهها المعدنية التي يستشفى بها، كما تتميز بنهرها الذي يمر وسط القرية، ويمشي الناس والسيارات على جانبيه، ونرى فيه السمك ظاهرًا، نكاد نمسكه بالأيدي.
وفيها المزارع والغابات من حولها وبخاصة: زراعة العنب الذي يغطي الهضاب والجبال، في مشهد يبهج النفس، ويشرح الصدر، وإن كنا علمنا أنه يتخذ ليعصر خمرًا، ويتّخذ منه ما يسمى «الويسكي»، وهكذا يحوّل الإنسان - بإرادته وهواه - الطيبات التي خلقها الله وامتن بها، إلى خبائث، بل إلى أم الخبائث.
وكان الأولاد يذهبون إلى الغابات يتجولون فيها، وخصوصًا عبد الرحمن، الذي جابها مرات عدة صعودًا ونزولًا.
وكان في هذه القرية شوارع تجارية. فيها فروع للمحلات التجارية الكبرى المعروفة في المدن، فكانت أم محمد وعُلا وأسماء يذهبن إلى هذه الأسواق ليشترين منها ما يحتجن إليه، أو قل: ما يشتهين، أما الأبناء: محمد وعبد الرحمن وأسامة، فلا حاجة لهم في هذه الأسواق، فالتسوق ظاهرة نسائية غالبًا، وما يحتاج إليه الذكور والرجال يطلبون غالبًا من النساء أن يشترينه لهم.
نعمة العافية ونقص الوزن:
بقى الأولاد معي في هذه البلدة نحو أربعة أسابيع، كانت أيامنا فيها طيبة وممتعة، ولا سيما أنهم رأوني في صحة وعافية، بعد ما ودَّعتهم في الدوحة، وأنا أشكو شدّة الألم والعجز عن الحركة، فأمسيت اليوم، وقد منَّ الله علي بالشفاء والعافية، وغدوت قادرًا على الحركة والمشي، وقد خفَّ جسمي ونقص وزني إلى حد كبير، فقد كان وزني حول التسعين كيلو جرامًا، فنزلت إلى نحو اثنين وثمانين، وكان هذا مكسبًا عظيمًا، ظللت محافظًا عليه عدة سنوات، حتى قطعة الحلوى أو «الشيكولاته» التي يعزم الناس بها في الزيارات، كنت أرفضها معتذرًا.
ولكن من أخطر الأمور: أن يبدأ الإنسان في التساهل شيئًا فشيئًا، حتى يفلت الزمام منه، وقد قال الشاعر بحق: هي النفس ما عوَّدتها تتعودًا!
وقال آخر: والنفسُ راغبةٌ إذا رغَّبتها وإذا تُردَ إلى قليل تقنعُ!
إن عافية الجسم وصحته من أعظم نعم الله على الإنسان، ولهذا علمنا رسول الإسلام: أن نسأل الله العافية دائمًا، فنقول في دعاء القنوت: «وعافني فيمن عافيت»(2)، ونقول بين السجدتين: «اللهم ارزقني واجْبرني وعافني»(3)، ونقول دائمًا: «اللهم إني أسألك العفو والعافية والمعافاة في الدين والدنيا والآخرة»(4).
ولا يحسُّ بنعمة العافية إلا من حُرمها، وابتُلي بالمرض، فالنعم عادة لا يهتم بها إلا عند فقدها، وقديمًا قالوا: الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى!
مأدبة تكريمية:
وبعد أن انقضت المدة المحددة للعلاج الطبيعي، وعزمنا على الرحيل من «بون» أقام السفير القطري السيد أحمد الخال: مأدبة لتكريمي وتوديعي، ودعا فيها عددًا من السفراء والوجهاء والأحبة... وقد شكرته على ما قامت به السفارة وقسمها الطبي، فقد علّمنا الإسلام أن نشكر لكلِّ من أسدى إلينا معروفًا، أو سهَّل لنا أمرًا، حتى وإن كان واجبًا عليه، أما قولهم: لا شكر على واجب، فهو من باب المجاملة.
فلا ريب في أن مَنْ أدّى الواجب عليه، ينبغي أن يُشكر، ولهذا يشكر الله عباده على ما يؤدونه نحوه من واجب العبادة له والطاعة لأمره، وهو الواحد المعبود، الذي يستحق كل أنواع العبادة والتعظيم.
وقال السفير: إننا لم نقم إلا ببعض الواجب علينا نحوك، وحقك علينا وعلى الأمة لا ينكر، ومهما فعلنا فنحن مقصِّرون. وهذا من حُسن أدبه. جزاه الله خيرًا.
ومما آسف عليه: أني في هذه الرحلة نسيت أسماء كثيرة من الإخوة الذين أكرموني، وأحاطوني بحبهم ورعايتهم، لأني لم أكن أكتب شيئًا في هذه الرحلة، ولا في غيرها، وأرجو أن يسامحوني إذا لم أذكر أسماءهم. وأدعو الله لهم من كل قلبي: أن يجزيهم عني أحسن الجزاء، ويحقق لهم الأمل من كل خير يرتجونه.
إلى مدينة ميونخ لتفتيت حصى الكلية:
وكان قد بقى أمامي مشوار آخر، إلى مدينة ميونخ، لعلاج أمر أخر أشكو منه منذ مدة، وهو «الحصاة في الكُلْية».
فقد اكتشفت منذ زمن عن طريق الأشعة بمستشفى حَمَد بالدوحة: أن في إحدى كليتي حصاة ساكنة في ركن من أركان الكلية، لا أحسُّ بها لسكونها، ولكن الأطباء قالوا: إنها يمكن أن تتحرَّك لسبب أو آخر، وتُسبِّب لك ألمًا، وألم الكُلى إذا تحركت فظيع، نسأل الله العافية منه، ومن كل ألم وداء.
وقد عرفت أن في «ميونخ» طبيبًا يهوديًا بارعًا ذائع الصيت يفتِّت حصى الكلية بالأشعة، دون حاجة إل فتح بطن وعملية جراحية، وما دمنا دخلنا في مشوار العلاج، فنكمله إلى نهايته.
ومن هنا راسل القسم الطبي هذا الطبيب، وحَجَز لي عنده، وسافرنا إليه، ودخلت المستشفى الذي يجري فيه عملياته، وبقيت يومين أو أكثر لإجراء بعض الفحوص اللازمة، التي تتطلبَّها هذه العمليات، من تحليل الدم والبول وقيس الضغط ومعرفة التاريخ المرَضي أو الصحي للمريض، بل ولعائلته أحيانًا، حتى جاء اليوم المحدد للقيام بالعملية، فيفتت الحصاة بهذه الطريقة الجديدة التي أراحت الناس من فتح البطون. وذلك من فضل الله تعالى الذي علّم الإنسان ما لم يعلم.
وكنت أظن أنه سيجري عملية ا لتفتيت بدون تخدير، كما قيل لي من قبل، ولكن الطبيب قال: إنه يؤثر أن يجريها تحت التخدير الكامل، فربما يحدث أي طارئ مفاجئ، فيقتضي إجراء جراحة، فنكون مستعدّين في الحال لإجرائها.
وقد تمَّ إجراء التفتيت بسلام، وبعد الإفاقة من التخدير، أعطوني أوعية أتبوّل فيها، يتجمَّع في قعرها الحصى المفتَّت، ويشاهده المريض بعينيه، ويطمئن على حالته بنفسه، كما يشاهدها الممرضون، ويجمعونها ليرصدوا حالة المريض من خلالها.
وكان الطبيب قد ركَّب لي بعد العملية: «قسطرة» موصولة بقربة يجتمع فيها البول، ويحملها المريض معه إذا نام على السرير، أو قام منه، أو تحرك في طرقات المستشفى ذاهبًا وآيبًا، وكنت ترى عامة المرضى يتجوَّلون ويتريَّضون في المستشفى، وهم يحملون هذه القرب، وترى المسلمين منهم يؤدون صلواتهم الخمس، وهم حاملوها...
سبق الفقهاء لزمانهم:
وقد ذكّرني هذا بما نُقل عن بعض المتأخرين من الفقهاء، لما قالوه افتراضا، وهو: ما إذا حمل رجل «قربة فساء» في صلاته: هل تفسد صلاته أو لا تفسدها؟ وكنا نعيب على هؤلاء الفقهاء هذه الافتراضات والتخيُّلات التي لا تمتُّ إلى الواقع بصلة، وكثيرًا ما تندَّر بها الكتَّاب الذين يحملون على الفقهاء ويجرّحونهم بالحق وبالباطل، وقد عشنا فرأينا المسلم يصلي وهو يحمل قربة بول، لا يملك أن ينزعها، فرحم الله فقهاءنا فقد سبقوا زمنهم.
مع الأستاذ محمد المهدي عاكف:
وقد صحبتني أسرتي إلى مدينة «ميونخ»، وسعوا لاستئجار شقة مناسبة، بمساعدة الإخوة في المركز الإسلامي، الذي يديره الأخ الحبيب، والصديق القديم الأستاذ محمد المهدي عاكف - المرشد العام للإخوان اليوم - فقد كنا تعارفنا من قديم في معتقل الطور سنة 1949م في عهد الملك فاروق، ووزارة إبراهيم عبد الهادي رئيس حكومة السعديين، وهو الذي كان يقوم بتدريبنا رياضيًّا صباح كل يوم.
رحَّب الأخ عاكف بي وبأسرتي، وقال: أنا والمركز في خدمتكم مدة بقائكم هنا، هذا بعض حقكم علينا وعلى الأمة.
قلت: شكر الله لكم، وجزاكم الله خيرًا، كل ما نريده هو شقة ملائمة تسكن فيها الأسرة، أما أنا فستكون إقامتي في المستشفى.
قال: ولماذا لا تنزلون في المركز، وفيه بعض الحجرات المناسبة؟ ولا سيما أن العثور على شقة مناسبة في هذا الوقت قد يتعسر.
قلت: نفضِّل أن تسكن الأسرة خارج المركز، ليكون لها حرية الحركة كما تريد، ولا نحب أن نضيق على المركز فيما قد يحتاج إليه.
أهمية العامل النفسي:
وفعلا وُجِدتْ شقة في مكان مناسب، ولكنها لم تكن بالسعة المناسبة... وقد كان الأولاد يشغلونها كلها حجرات وصالات وطرقات، حتى كان منهم من ينام خلف الباب، وهم يتضاحكون، ويتبادلون النكات والفكاهات، مسرورين منشرحين، وهذا يدلُّ على أن العامل النفسي هنا مهم جدًّا، وهو ما جعل الناس في مصر يقولون: جُحْر ديب، يسع مائة حبيب! وفي بلاد الشام يقولون: بيت ضيق، يسع ألف صُدَيِّق، وقال الشاعر العربي: سمُّ الخياط مع الأحباب ميْدان!
وقال آخر:
لَعَمْرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكنّ أخلاق الرجل تضيق!
وكانت صاحبة الشقة تونسية، فرحت بأسرتي فرحًا كبيرًا، وقد صنعت لهم أكلة من «الكسكسي» التونسي الشهير.
ومنذ سنوات جاءت إلى الدوحة، تستشفع بي لتذهب إلى الحج من طريق الدوحة، وتذكّرني بالأيام التي أمضتها الأسرة في شقتها الضيِّقة، واستعدنا الذكريات وأكرمناها، وكلمت السفير السعودي بالدوحة أن يساعدها في تحقيق أملها، وقد كان. والحمد لله.
محاضرة عامة في المركز الإسلامي بميونخ:
بعد أن استعدت عافيتي بحمد الله تعالى، ومرت أيام بعد العملية دعاني الإخوة في المركز الإسلامي لإلقاء محاضرة عامة في المركز، فاستجبت لهم، فهذا حقهم علي، وهذه زكاة عن نعمة العافية، وفي الإسلام كل نعمة لها زكاة. ولهذا تجد عوام الناس يقولون: زك عن عافيتك، زك عن عينيك...
وقد احتشد لهذه المحاضرة جمٌّ غفير، وبعد المحاضرة، قُدِّمت لي على العادة، أسئلة عدة من الحاضرين أجبت عنها ما استطعت.
..................
(1) رواه الطبراني في «الكبير» (12/417) عن ابن عمر.
(2) رواه أحمد في «المسند» (1718)، وقال مخرجوه: إسناده صحيح ورجاله كلهم ثقات عن الحسن بن علي.
(3) رواه أحمد في «المسند» (2895)، وقال مخرجوه: حسن وهذا سند ورجاله ثقات رجال الشيخين غير كامل وهو ابن العلاء التميمي السعدي عن ابن عباس.
(4) رواه أحمد في «المسند» (4385)، وقال مخرجوه: إسناده صحيح رجاله ثقات عن ابن عباس.