دعوة من الأخوين يوسف ندا وغالب همت:
بعد أن قضيت وَطَري من العلاج الطبيعي المتميِّز في «بادنوين آر» وتجلت آثاره - بحمد الله - في استعادة صحّتي ونشاطي وبعد أن قضت الأسرة والأولاد، ومعهم علا وزوجها: أيامًا أو أسابيع طيبة بجواري في تلك القرية الكبيرة أو المدينة الصغيرة الهادئة، وبعد أن قضينا أيامًا في مدينة ميونخ فتّتنا فيها الحصاة، وألقيت فيها بعض المحاضرات في المركز الإسلامي - جاءتنا دعوة من الأخوين والصديقين العزيزين: يوسف ندا وغالب همت: أن أزورهم أنا والأسرة والأولاد، لنقضي عندهم فترة النقاهة أو بعضها، وعندهم شقة كبيرة تطل على بحيرة لوجانو الشهيرة، وهي فارغة لا يسكنها أحد، وهي مخصَّصة للضيوف الذين يزورون مدينتهم، ولا سيما من العلماء والدعاة.
ولم يسعنا إلا أن نستجيب لدعوة أصدقائنا، وأن نرحل إليهم من ميونخ. أما أنا وأم محمد فقد رحلنا بالطائرة إلى زيورخ، ومن زيورخ أخذنا الطائرة الصغيرة إلى لوجانو... وكان مطار لوجانو لا يزال صغيرًا محدودًا، لا يستقبل إلا الطائرات الصغيرة، وكانت هذه الطائرة تسع ثمانية ركاب، ويكاد الراكب ينحني عند دخوله أو خروجه من بابها، ولكنها وصلتنا بالسلامة، والحمد لله.
مشاهد رائعة:
وأما الأولاد فقد ذهبوا بالقطار، مارّين بالنمسا، وكانت رحلة ممتعة، ففي القطار ينعم الإنسان فيه بمشاهد رائعة: من بحيرات زاخرة بالمياه، وجبال شاهقة تمثِّل الجمال الشامخ، والشموخ الجميل، وأرض مبسوطة، وقد كستها يد القدرة الإلهية بساطًا سندسيًّا أخضر، تسر العين رؤيتها، ويبهج القلب تأملها، وتقوي الإيمان بمن أبدع هذه الطبيعة وأحكم خلقها: {صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍ} [النمل: 88].
وما أجمل ما قال شوقي:
تلك الطبيعة قف بنا يا ساري حتى أريك بديع صنع الباري
الأرض حولك والسماء اهتزنا لروائع الآيات والآثار
من كلِّ ناطقة الجلال كأنها أم الكتاب على لسان القاري
دلَّت على ملك الملوك فلم تدع لأدلة الفقهاء والأحبار
من شك فيه فنظرة في صنعه تمحو أثيم الشك والإنكار
وقال أبو نواس:
تأمَّل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيونٌ من لُجين شاخصات بأبصار هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك!
وفي مطار لوجانو وجدنا الأخوين الحبيبين: يوسف وغالبًا ينتظراننا، وكان لقاء حار، تصافحت فيه الأيدي، وتعانقت المناكب، والتقت الوجوه والقلوب، وقد أوصلانا إلى الشقة التي سنقيم فيها، لنحطّ فيها رحالنا، ونضع حقائبنا، ثم دعانا الأخ يوسف «أبو حمزة» للعشاء عنده، وسرعان ما وصل أولادنا بالقطار، يقودهم المهندس حسام زوج ابنتي علا.
لقاء محبة وصفاء:
واجتمعت أسرة الأخ يوسف، وأسرة الأخ غالب وأسرتي، وكان لقاء على المحبة والصفاء، وكأنّ الجميع كانوا متعارفين من زمن طويل، والحقيقة أن أحدًا فيما عدانا نحن الثلاثة: يوسف وغالب وأنا - لم يلتق صاحبه قبل ذلك ولم يره. ولكن هذه مزية الحب في الله، الذي يؤكد ما جاء في الحديث الصحيح: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف فمنها ائتلف، وما تناكر منها اختلف»(1).
عضوية أمناء مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية
أبلغني شيخنا وحبيبنا الداعية الإسلامي الكبير، رجل الإسلام الأول في الهند العلامة الشيخ السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي: أن مجلس أمناء مركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية، قد اختارني بالإجماع لعضويته، وهو يرجوني أن أحرص على حضور جلساته، وأن أتعاون مع الأخ الذي اختير من قبل المجلس لإدارة المركز، وهو الدكتور فرحان نظامي. وهو أستاذ من أصل هندي يعمل في جامعة أوكسفورد.
وبالطبع، قبلت العضوية، وشكرت الشيخ علي حُسن ثقته بي، ووعدته بأني سأبذل الجهد في معاونة المركز حتى يقف على قدميه ... قلت للشيخ: وإن كان لديّ مشكلة أود أن أصارحك بها. قال: وما هي؟ قلت مشكلة اللغة، وطبعًا لغة المركز هي الإنجليزية. قال: هذه تحلُّ ببساطة عن طريق الترجمة.
وكان الشيخ الندوي قد حدَّثني من قبل: أن هناك في بريطانيا مجموعة من علماء المسلمين ومفكريهم وأهل الرأي فيهم، يفكرون جديًا في تأسيس مركز علمي لخدمة الثقافة الإسلامية، وتجلية الفكر الإسلامي الصحيح، وإعطاء صورة مضيئة عن الإسلام وحضارته وأمته للغرب، بعد أن تقارب العالم واتصل بعضه ببعضه... وقد وجد أن بريطانيا هي أنسب البلاد لذلك، لأن اللغة الإنجليزية هي أشهر اللغات في العالم، ويتكلم بها مئات الملايين من المسلمين، ولأن في بريطانيا عدة ملايين من المسلمين.
ورأى الإخوة الذين فكروا في هذا المركز: أن يرتبط بجامعة عريقة من الجامعات المعروفة في العالم، فوقع الاختيار على جامعة «أوكسفورد» العريقة، وجسوا النبض لدى المسئولين فيها، فوجدوا قَبولًا لديهم... وبعد شوط من المفاوضات: جاءت الموافقة على إقامة هذا المركز، ليكون إحدى مؤسسات الجامعة، على أن يكون له استقلاليته وشخصيته المتميزة، ويرسم سياسته مجلس أمناء، بعضه من أساتذة جامعة أوكسفورد، تعينهم الجامعة ممثلين لها، وبعضهم شخصيات علمية واجتماعية وسياسية من أنحاء العالم الإسلامي، وهم الأكثرية.
بدء نشاط المركز ودور مديره د. فرحان نظامي:
وقام المركز وبدأ نشاطه في مبنى متواضع مستأجر من مباني الجامعة، وبدأنا نجمع له بعض التبرعات، وكان أي مبلغ ولو جاء قليلًا، له نفعه في ذلك الوقت. ولم أدَّخر وسعًا في معونة المركز، الذي كان مديره الدكتور فرحان شعلة متوقدة من النشاط والحركة والسعي في كل مكان لجلب التبرع المادي، والتأييد المعنويّ للمركز.
كانت الفترة اللأولى حرجة حقًّا، ولكن المركز استطاع أن يجتازها بفضل الله تعالى، ثم بفضل ثقة الناس بالشيخ الندوي، ثم بمعاونة مجلس الأمناء، ثم بنشاط مدير المركز.
ثم اشترى المركز مقرًّا أوسع وأكبر، ولكنه مؤقَّت... ثم بعد أن رسخت دعائمه، سعى لبناء مركز كبير يضم في رحابه مسجدًا، ومكتبة وغرفًا للإدارة وغيرها، وهو الآن يوشك أن يتم ويفتتح.
وقد دعا إليه شخصيات كبيرة لتحاضر فيه... وأبرز من حاضر فيه، هو الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا الذي ألقى فيه محاضرة كان لها صداها في إنجلترا وخارجها، عن «الإسلام والغرب» أنصف فيها الإسلام إلى حدّ كبير.
من مشروعات المركز:
وقد تبنَّى المركز عدّة مشروعات، منها: مشروع كتابة كتاب عن التاريخ الإسلامي.
ومنها: جائزة سلطان بروناي في مجال الدراسات الإسلامية، وقد حصل عليها في الحديث الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، وفي التفسير ثلاثة، أحدهم: الدكتور عدنان زرزور، والآخر: الدكتور أحمد خراط، وفي التاريخ العلامة أبو الحسن الندوي، وفي الفقه يوسف القرضاوي، ولا تزال الجائزة مستمرة.
وبعد وفاة العلامة الندوي رحمه الله، تولَّى رئاسة مجلس الأمناء من بعده: نائبه الرجل الإسلامي الواعي النشيط الأستاذ الدكتور عبد الله عمر نصيف، وفّقه الله. وما زال يحمل الأمانة إلى اليوم.
................
(1) رواه البخاري في أحاديث الأنبياء (3336) عن عائشة، ومسلم في البر والصفة (2638) عن أبي هريرة.