في 30 يونيو من سنة 1989م، قامت ثورة الإنقاذ الإسلامي في السودان، بقيادة: عمر أحمد البشير، ومعه عدد من ضباط الجيش السوداني. وكانت الثورة بيضاء، لم ترق فيها دماء، بل استولى الانقلابيون على القوات المسلحة، ثم على زمام الأمور بسهولة.
واعتقلت عددًا من الزعماء السياسيين من شتّى الاتجاهات، ومنهم د. حسن الترابي زعيم الجبهة القومية الإسلامية، مع أنه هو صانع الثورة. ولكن تعمية على الآخرين حتى لا يعرفوا من أول الأمر: مَنْ وراء هذه الثورة؟
ثورة الترابي وجماعته:
وقد عرفت من أول ما قامت الثورة أنها ثورة الترابي وجماعته، وقد قابلت بعضهم وصارحته برأيي الذي أعلنته قديمًا في كتابي «الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا» وأني لا أوافق على الوصول إلى الحكم عن طريق «الانقلاب العسكري» ولو قام به إسلاميون؛ لأسباب ذكرتها هناك، لا تنفك عن طبيعة الحكم العسكري، والتربية العسكرية، والعقلية العسكرية، وإن كان الانقلابيون من خيار الناس.
ولكنهم قالوا لي: نحن نؤيد وجهتك، ولكن كنَّا في حالة ضرورة. ولم يعد في إمكان الحكم المدني في السودان أن يستمر، بل كان لا بد أن تنهيه جماعة أو حزب من الجماعات القائمة، وربما كانوا الشيوعيين أو البعثيين أو غيرهم.
وفي هذه الحالة سيصبح الإسلام والدعوة الإسلامية في مأزق خطير، وستدخل البلاد في صراع لا ينتهي. فرأينا نحن أن نأخذ بزمام المبادرة، ونفوت على الآخرين الفرصة.
قلت: إنما لكل امرئ ما نوى. والمحك هو العمل والتعامل مع الشعب، والموقف من الحرية وحقوق الإنسان.
وقد قبل الترابي أن يعتقل مع المعتقلين، ويعامل كما يعاملون، حتى لا يكشف وجه الثورة من أول يوم، وتوضع العوائق في طريقها، وتشن الحرب عليها من كل جانب.
وكان الترابي - كما علمت - ينفذ أوامره بورقة يكتبها إلى البشير، إما ابتداء منه، وإما بعد سؤال من القادة العسكريين.
خشيتي من صراع أحد الفريقين:
وكنت في نفسي أخشى من هذا الوضع الذي يكون فيه رئيسان، أحدهما: خفي، وهو العنصر الفعَّال، والآخر ظاهر، وليس له أهمية العنصر الأول، وهما بحكم الضرورة في بداية الأمر ينسجمان، ثم يبدأ الخلاف، فالصراع، وينتهي بغلبة أحد الفريقين.
وكان من أبرز الأمثلة على ذلك أمامي: مثل جمال عبد الناصر، ومحمد نجيب. وقد انتهى بإخلاء الطريق لعبد الناصر، وطرد محمد نجيب من الساحة نهائيًا.
فكرة المرشد الأعلى للجمهورية:
وكنت أرى أن تستفيد ثورة السودان الإسلامية من ثورة إيران الإسلامية، وتأخذ من النموذج الإيراني فكرة المرشد الأعلى للثورة أو للجمهورية.
فهناك رئيس جمهورية بيده سلطان الرئاسة. ومن خلفه قائد أعلى، لا يتدخّل في الجزئيات والتفصيلات، ولكن في السياسات العليا، والمواقف الفاصلة، تكون كلمته هي العليا، وحكمه هو الفصل.
وقوع الخلاف والانقسام بين الترابي والبشير:
قلت في نفسي: ليت حسن الترابي يأخذ درسًا من هذا، ويكون هو خميني الثورة السودانية! وأحسب أني أبلغته بذلك، ولكن لم ترق له الفكرة، ولا لإخوانه من حوله، وتركوا الأمر حتى وقع الخلاف، وظهر على السطح، وأدى في النهاية إلى الانقسام المعروف، ثم الانفصال التام بينهما، بل القطيعة والعداوة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
محاولة التقريب والإصلاح:
وقد تدخلت فيه مع عدد من إخواني، محاولين التقريب وإصلاح ذات البين، والصلح خير، ولكنا لم نفلح فقد تغلغل الخلاف وتوسع وتعمق، بحيث لم تعد تجدي فيه تلك المحاولات، ولا بد من عودة إليه في الجزء التالي من هذه المذكرات إذا يسر الله.