في هذا الصيف 5 أغسطس 1995م تُوفي الداعية الإسلامية الكبير، الدكتور سعيد رمضان عن عمر يناهز 69 تسعة وستين عامًا. توفي في سويسرا، التي يعيش فيها منذ عقود من السنين، ثم نُقل جثمانه إلى القاهرة ليدفن بجوار شيخه وإمامه وحميه حسن البنا، كما أوصى بذلك.
وصول جثمانه إلى القاهرة:
واتصل بي بعض الإخوة في القاهرة ليبلِّغني بوفاة سعيد ووصول جثمانه، وأنَّ الصلاة عليه ستكون في جامع رابعة العدوية في مدينة نصر، حيث أقيم، وقال لي: إن الإخوة يشدِّدون على حضورك، لتقوم بالصلاة عليه. قلت للأخ: الأمر لا يحتاج إلى تشديد، فلا يسع مثلي أن يتأخَّر عن شهود جنازة مثل جنازة سعيد رمضان... والحمد لله، أني موجود في القاهرة، ومن حقِّ الأخ على أخيه أن يشهد جنازته، فكيف إذا كان مثل سعيد رمضان، بما له من ماضٍ مشرق وحافل في خدمة الدعوة، وما له من صلة وقربى بإمامنا الشهيد، وما له من حقٍّ خاصٍّ عليَّ، باعتباره ابن طنطا أو الغربية مثلي، وقد تتلمذ على أستاذنا البهي الخولي، كما تتلمذت عليه، وما لأبنائه الذين تعرَّفت عليهم في أوروبا في مجال الدعوة، من حقٍّ عليَّ، وخصوصًا طارقًا وهانيًا. كل هذا يحتِّم عليَّ أن أحضر ولا أغيب.
صلاتي على جنازته في مسجد رابعة العدوية:
وفعلًا ذهبت إلى مسجد رابعة قبيل صلاة الظهر، وبعد دقائق جاء النعش، وقد حضر جمّ غفير من الإخوان، وقدَّموني للصلاة عليه، وجاء مع الجثمان ابنه هاني، فسألته: ألم يكن في استطاعة طارق أن يحضر معك؟ فقال: لم يكن ذلك في استطاعته؛ إن موقف السلطات المصرية منه سيئ، ولا يُؤمَن أن يأخذوه ويحققوا معه، ولا يدري ماذا تكون النتائج. قلت له: البركة فيك، وكل الإخوان هنا إما أخ لسعيد وإما ابن له.
وبعد الصلاة حُملت الجنازة إلى مقابر الإمام الشافعي، التي أزورها لأول مرة... وكان الجو حارًّا، والسائق الذي معي لا يعرف المكان، وقد تفرَّقت السيارات بعضها عن بعض. المهم أننا وصلنا إلى المقبرة التي دُفن فيها الإمام الشهيد، ودُفن سعيد بجوار أستاذه وصهره وحبيبه.
كلمتي في تأبينه:
وبعد الدفن، ألقيت كلمة رثاء أودع بها أخانا الحبيب سعيدًا، لا أذكر الآن مضمونها، ولكن أذكر أني بكيت فيها سعيدًا، وبكيت معه شيخه وشيخنا الإمام البنا رحمه الله. ومن طبيعة توديع الأحبة أن يذكِّر بعضهم ببعض، وأن الحزن الجديد يوقظ الحزن القديم، كما قال الشاعر:
وقالوا: أتبكي كل قبرٍ رأيته ** لقبْر ثوى بين اللوى والدكادِكِ
فقلت لهم: إنَّ الأسى يبعث الأسى ** دعوني، فهذا كله قبر مالك!
لقد مات سعيد رمضان، وكلُّ نفس ذائقة الموت، ولكن من الناس من إذا مات مات معه كل شيء، فلا يبقى له أثر ولا خبر ولا ذكر... ومن الناس من يحيا بعد موته، أعمارًا بعد عمره، بما خلَّف مما ينفع الناس. وأحسب أن سعيدًا من هؤلاء.
نبوغه المبكّر:
لقد ولد سعيد في السنة نفسها التي ولدت فيها، ولكنه حصل على الثانوية مبكرًا، في السنة نفسها التي دخلت فها معهد طنطا، وهو تخرج في مدرسة طنطا الثانوية، ولكنه ظهر ونبغ وهو في المرحلة الثانوية، واشتغل بالدعوة مبكرًا، وذهب إلى عدد من القرى القريبة من طنطا، ومنها: قريتنا «صفط تراب» التي زارها بُعيد حصوله على الثانوية، وألقى فيها خطبة الجمعة، التي لقيت استحسانًا من الناس، ولم أكن موجودًا في القرية في ذلك اليوم، لا أذكر السبب.
لقاءاتي به:
انتقل سعيد من طنطا إلى القاهرة ليلتحق بكلية الحقوق بجامعة القاهرة «أو جامعة فؤاد الأول» كما كانت تُسمَّى في ذلك الوقت. ولم يقدَّر لي أن ألقاه أو أستمع إليه إلا مرتين، المرة التي أذكرها جيدًا، حين كان مصاحبًا للإمام الشهيد في زيارة مدينة «دسوق». وقد ذهبنا إليها لنستمع إلى الإمام الشهيد، أنا والأخ أحمد العسال، والأخ محمد الدمرداش مراد. وذلك عن طريق قطار الدلتا. وكانت المناسبة مناسبة المولد النبوي، فألقى سعيد كلمة ضافية أخذت بمجامع القلوب، في هذه الذكرى العاطرة.
جواب مفحم:
والمرة الأخرى أظنها كانت في المركز العام، وسمعتُ منه كلمة حكيمة وموفَّقة، لا أذكر في أيِّ المحاضرتين كانت؟ وهي أنه كان يخطب مرة، فأراد بعض المستمعين أن يحرجه، فسأله هذا السؤال: أنتم صار لكم عشرون سنة تتكلمون فماذا فعلتم؟
وكان جوابه: وأنتم أيضًا صار لكم عشرون سنة تسمعون، فماذا فعلتم؟!
فكان جوابًا مفحمًا ومقنعًا. فبعض الناس يجعل كل التبعة على المتكلم، ولا يحمّل المستمع شيئًا. والواقع أن على المتكلم أن يدعو ويشرح ويبيّن، وعلى المستمع أن يفهم ويعمل وينفذ، وقد سمعت كلمة سعيد رمضان في الحفل، ولكني لم ألتق به. ولم ألتقه مدة دراسته في الجامعة حتى تخرج.
ثقة الإمام الشهيد به:
كان سعيد رمضان بموهبته وذكائه وحيويته وخبرته في الدعوة منذ باكورة شبابه، موضع ثقة الإمام الشهيد، فقد بعث به إلى الصعيد، وبعث به إلى بعض البلاد العربية.
مجلة الشهاب:
وحين أصدر الإمام مجلته الشهرية العلمية الشهيرة التي سمَّاها: «الشهاب» على اسم مجلة المصلح الجزائري «عبد الحميد بن باديس»، وكان يريد أن تخلف هذه المجلة مجلة «المنار» العلمية الإصلاحية الشهيرة، التي كان يصدرها الإمام المجدد السيد محمد رشيد رضا... هنا عيَّن حسن البنا، سعيد رمضان مديرًا لهذه المجلة. وقد تزوَّج سعيد رمضان كبرى بنات الإمام الشهيد «وفاء حسن البنا» أم أيمن حفظها الله.
خروجه من مصر:
وخلال هذه المدة لم يقدَّر لي أن ألتقي سعيد رمضان، حتى حُلَّت الجماعة، واعتقل الإخوان واعتُقلت مع بعض زملائي في معهد طنطا، وقُدِّر لي أن ألقى كثيرًا من الإخوة من زملاء سعيد، مثل: مصطفى مؤمن، وحسان حتحوت، ومحمد عاكف، ومن هو أكبر منهم سنًّا، مثل: محمد الغزالي، وعبد العزيز كامل، وعبد المعز عبد الستار، وعبد الحكيم عابدين، وعبد البديع صقر، وغيرهم، ولكن لم يقدَّر لي أن ألقى سعيدًا، فقد كان خارج مصر عند حلِّ الإخوان، وظل بعيدًا عن مصر، حتى انزاحت الغمَّة، وانفرجت الأزمة، وعادت الأمور إلى طبيعتها، فرجع إلى مصر سنة 1950م.
نشاطه ومقابلاته:
ولكننا كنا نتابع نشاط سعيد مما ينشر في الصحف من مقابلاته مع المراسلين الأجانب، ولباقته في الردِّ على أسئلتهم.
وقرأنا لقاءه بالملك عبد الله الذي رحب به، وقرَّبه منه، وكان سعيد يثني عليه، ويقول: هو أذكى ملوك العرب، وأعلم ملوك العرب، وأتقى ملوك العرب، وقد عينه حاكمًا عسكريًّا لمدينة القدس.
مجلة «المسلمون»:
وبعد عودته إلى مصر وانتخاب الأستاذ الهضيبي مرشدًا عامًّا للإخوان، كان قريبًا منه، وقد فكر في إنشاء مجلة تخلف مجلة «الشهاب» التي كان يديرها، فأسس مجلة «المسلمون» التي ظلت تصدر مدة من القاهرة، وكان يكتب فيها كبار العلماء والدعاة والمفكرين المسلمين. وقد كتبت فيها مرة أو مرتين.
في عنبر الإدارة:
وبعد أن قامت الثورة، في 23 يوليو 1952م، كان له صلة ببعض ضباطها، وظلت علاقته بهم طيبة، فترة من الزمن، حتى اصطدمت الثورة بالإخوان، وكان الحل في 11 يناير 1954م، اعتقل سعيد مع المعتقلين، وهناك لقيته وجهًا لوجه لأول مرة، ولكن لم يقع بيننا حديث أو حوار. وقد قدَّمني الأستاذ المرشد لأصلِّي بالإخوان إمامًا، فكان يصلي ورائي مع سائر الإخوان، واستمرَّ ذلك عدة أيام، ثم نقل مع أعضاء مكتب الإرشاد وقادة الجماعة، في عنبر خاص يسمى: «عنبر الإدارة»؛ تمييزًا لهم، أو لتيسير الاتصال بهم.
الصراع مع عبد الناصر:
وبعد ذلك خرج الإخوان من معتقلاتهم، وذهب عبد الناصر إلى منزل الأستاذ الهضيبي، واعتذر له عمَّا حدث، واتُّفِق على بدء صفحة جديدة بين الجماعة والثورة، ولكن سرعان ما قلبت الثورة ظهر المجنّ للإخوان، وظهر جوٌّ مشحون بالتوتر والصراع، وسافر الأستاذ الهضيبي إلى سوريا، ثم عاد، والجو يزداد تلبدًا بالغيوم، وينذر برعد قاصف، وبرق خاطف، وسيل جارف.
تجريده مع جماعة من الإخوان من جنسيتهم المصرية:
وفي هذا الوقت كان سعيد في الخارج مع جماعة من الإخوان، فاتهمهم رجال الثورة بأنهم يعملون ضد وطنهم، ويقومون بأعمال مضادّة للثورة، فجرَّدوا هؤلاء من جنسيتهم المصرية، وهم: عبد الحكيم عابدين، وسعيد رمضان، وكامل الشريف، وسعد الوليلي.
والعرب يقولون: ربَّ ضارة نافعة، والصوفية يقولون: كم من محنة في طيها منحة، والله تعالى يقول: {فَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡٔٗا وَيَجۡعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيۡرٗا كَثِيرٗا} (النساء:19).
فإنَّ هذا القرار الظالم قد أعفى هؤلاء الإخوة جميعًا من الدخول في محنة 1954م، الثانية والقاسية. واقتضى بقاءهم في الخارج نشيطين عاملين للإسلام.
وظلَّ سعيد في الخارج، كما ظل يصدر من سوريا مجلته الشهرية «المسلمون»، وقد جعل رئاسة تحريرها للدكتور مصطفى السباعي، ثم تولَّى هو رئاستها بعد ذلك، إلى أن توقَّفت.
إنشاء المركز الإسلامي بسويسرا:
ثم أنشأ «المركز الإسلامي» في جنيف بسويسرا، بمعاونة من السعودية وغيرها.
وفي هذه الفترة اتهمت السلطات المصرية سعيد رمضان ومعه مجموعة، بتهمة إعداد مؤامرة ضد مصر، وإعلان الانقلاب عليها. وكانت هذه التهمة الملفقة «حبل النجاة» من الاعتقال والتعذيب، ومعاناة محنة 1954م.
وكان سعيد يطوف في هذه المرحلة بلاد العالم الإسلامي، يستنفر القاعدين، ويوقظ النائمين، ويحرِّك الساكنين، ويتعرَّف على رجالات الأمة الإسلامية في كل مكان.
وقد سعى مع بعض إخوانه سعيًا حثيثًا لدى الملك سعود، حتى أنشأ «رابطة العالم الإسلامي» لتكون منبرًا شعبيًّا عالميًّا لنصرة الإسلام وقضاياه.
مزايا لسعيد رمضان:
كان سعيد رمضان يتمتع بجملة مزايا قلَّما تتوافر لكثير من الدعاة، بعضها هبات من الله تعالى يمحنها من شاء من عباده، وبعضها مكتسبة يحصّلها المرء بالسعي وجهاد النفس وبذل الجهد، ومن جد وجد، ومن زرع حصد.
من هذه المزايا:
أولًا: بشاشة وجهه، وابتسامته الدائمة، وشخصيته الجاذبة، بلا تكلف ولا افتعال؛ وهو ما جعله قريبًا محببًا إلى الناس، ولا سيما الشباب.
ثانيًا: لباقته وحضور بديهته في الحوار والرد على الأسئلة المحرجة، والإجابة المقنعة أو حسن التخلص منها.
ثالثًا: فصاحة لسانه، وقوة تأثيره في خطابته، وشدُّ الجماهير إليه.
رابعًا: قوة عاطفته، وحيوية مشاعره، التي تنتقل منه إلى سامعيه، فتجعله يبكي ويبكي، ويتأثر ويؤثر.
خامسًا: قربه من الإمام الشهيد، وثقة الإمام به، حتى إنه كلَّفه بمهام كبيرة على صغر سنه.
سادسًا: اتصاله بالدعوة ورجالها، ونشاطه فيها منذ عهد مبكر من عمره.
سابعًا: رحلته إلى أقطار شتى، وتعرفه على كثير من رجالات العالم الإسلامي، وخصوصًا العاملين للدعوة الإسلامية، والبعث الإسلامي.
ثامنًا: قدرته على الاتصال بالشخصيات الكبيرة، وتأثيره فيهم، واستفادته من ذلك لصالح الدعوة.
انكماشه في العقود الأخيرة من عمره:
غير أن الذي يعجب له المراقب لحياة سعيد ومسيرته - ويأسف له أيضًا - أنَّ هذه الحيوية الهائلة لم تستمر في فَيْضها وعطائها بقوة كما كانت. فقد قلَّ نشاطه المعهود والمرتجى فيه، إلى حد كبير. لقد ظلت هذه الشخصية الثرية تدعو وتعطي، ولكن ليس بالقدر الذي كان يُتوقَّع منها، والذي يكافئ ما لديه من مواهب، ويتلاءم مع تاريخه الحافل والدافق بالخير والعطاء.
وربما كان لإقامته في أوروبا أثرٌ في ذلك، ولكنْ هناك كثيرون أقاموا في أوروبا وفي أمريكا ولم يمنعهم ذلك من مواصلة الفيض واستمرار العطاء.
وقد فسَّر بعضنا بأنَّ الرجل قد تفرَّغ للتأمُّل والكتابة، فلم يعد يهمه الكلمة المرتجلة، بل همه الكلمة المكتوبة. وهذا يمكن أن يكون عذرًا مقبولًا، لو أننا قرأنا للرجل كتبًا ذات بال، أصدرها خلال تلك المدة.
حتى قال بعض إخواننا: كأنَّ عينًا أصابت الرجل، فلم يعد تلك الشعلة المتوهّجة التي كانت تشع نورًا، وتقذف نارًا.
على كلِّ حال، حَسْبُه ما قدَّمه في شبابه مما يندر أن يقدمه مثله، وعسى أن يعوِّض أبناؤه في شبابهم فينهضوا بما لم ينهض به أبوهم في شيخوخته.
رحم الله سعيد رمضان، وغفر له، وتقبَّله في الصالحين، وجزاه عن دينه ودعوته وأمته، خير ما يجزي به الدعاة العاملين، والمجاهدين الصادقين.