د. مصطفى بولند داداش*
بعدما أكملت دراستي في إستانبول؛ عدت إلى بلدي «أورفا» المعروفة في كتب التاريخ الإسلامية بـ«الرُّهَا»، وعُينت واعظًا في حران مسقط رأس ابن تيمية، وهي آخر عاصمة للدولة الأموية في عهد مروان الثاني المشهور بمروان الحمار.
وكنت في الرابعة والعشرين من عمري، وكان علماء «أورفا» معروفين بتمسكهم بمسلك التصوف، ولم يكونوا يحبون ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، حتى كانت طائفة منهم لا يتحملون سماع اسمه، وكانوا معتادين على مطالعة الكتب الصفراء - كما يقال - ولا يحبذون ما يأتي من المعاصرين من العلماء، مهما يكن علمهم غزيرًا، ومهما يكن قولهم صوابًا.
وحينما ذكرت لهم بعض ما يقول الشيخ القرضاوي - بدون تصريح باسمه - يُعجبون به، ويسألونني من القائل؟ فإذا أجبت بأن قائله هو يوسف القرضاوي - وهو عالم مقيم بقطر - يقولون: إن هذا الكلام لا يمكن أن يصدر من المعاصرين، ولا بد أنه أخذ من كتب القدماء، ولا يريد أن يذكر ممن أخذ! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؟
وكان واحد منهم أكثر مرونة وصاحب إنصاف، وكان واعظًا قديمًا تتلمذ على يد العلماء الكبار اسمه أحمد سرا أوغلو، وليس أقل علمًا من غيره من علماء بلدنا. زارني يومًا مع طائفة من الوعاظ في بيتي بحران، لم يكن يعرفني، ورأى مكتبتي مليئة بالكتب العربية، وهي ميزة في نظر المشايخ الذين لا ينطقون بالعربية، واعتبرت وجودهم في بيتي فرصة لتعريفهم بشيخي العلامة القرضاوي؛ فأخذت كتابًا من كتبه ولعله كان «الإيمان بالقدر»، وقرأت شيئًا منه، ثم أخذت المجلد الأول من «فتاوى معاصرة» وشنَّفت آذانهم بفتوى منه، وتعجبوا بما سمعوا، لا سيما أن الأستاذ أحمد أعجبه ما سمع، وطلب مني أن أعيره عدة كتب من كتب الشيخ..
أعطيته «الإيمان بالقدر»، وسلسة من كتب الصحوة الإسلامية، وكنت أقول في نفسي: ربما يُرجع الكتب إليَّ بعد عدة أشهر، ولكن الرجل اتصل بي بعد أسبوع وأخبرني بأنه قرأ جميع ما أخذ مني، وطلب مني كتبًا أخرى، وفرحت بما سمعت منه؛ لأنني كنت أعتقد أن علماء بلدنا لا بد أن يتعرفوا على الشيخ القرضاوي، هدية الرحمن إلى الأمة الإسلامية في هذا العصر.
وكان حالي كحال من تألم من العطش مع أحبائه، فعثر على ماءٍ روي، ثم أراد أن يسقي إخوانه وأحباءه، أو مَن وجد كنزًا وأحب أن يُشرك فيه مَن يحبه.
هذا كان شعوري وتعاملي مع أبناء بلدي من العلماء. ثم أعطيت الشيخ أحمد ما يريده من كتب الشيخ، وأذكر أنه قرأ المجلد الأول من الفتاوى في أقل من أسبوع، وصار مغرمًا به، وكان يسبقني إلى المكتبة الوحيدة التي تأتي بكتب الشيخ إلى «أورفا»، وكنت أرجع من المكتبة فارغ اليد؛ لأن الشيخ أحمد حضر إلى المكتبة، وأخذ الكتاب قبلي.
وكان موضوع كلامي معه دائمًا الشيخ القرضاوي، وكتبه، وماذا فعل الشيخ، هل خرج له كتاب جديد؟ هل استمعت إلى خطبته في الجمعة؟ لماذا لم يحضر في برنامج «الشريعة والحياة»؟ عساه بخير؟
وحينما وُلد حفيده سمَّاه بيوسف القرضاوي تيمنًا باسمه، مع دعائه الدائم بأن يجعل الله حفيده مثل سميِّه. وصار الشيخ القرضاوي - بحمد الله سبحانه وتعالى - خصوصًا بين الشباب من طلاب الشريعة معروفًا بكتبه القيمة وشخصيته العالية.
.....
* د. مصطفى بولند داداش خبير في المجلس الأعلى للشؤون الدينية بتركيا
- المصدر: «العلامة يوسف القرضاوي.. ريادة علمية وفكرية وعطاء دعوي وإصلاحي».