شيروان الشميراني
عن خط الجهاد الفكري للشيخ العلامة يوسف القرضاوي، تطرح شبهات من المختلفين معه يصيغونها في صورة اتهام له ولأصحابه، منها: أنه -رحمه الله- كان حاطب ليل ولم يكن يجابه المنحرفين في الفهم الإسلامي، أي الجانب التبليغي الصرف داخل المجتمع المسلم، فهل كان حاطب ليل مجاملا على حساب الحقيقة الدينية؟
في مسيرته الدعوية الطويلة التي هي عمره كله، كتب وحاضر الشيخ القرضاوي بالتفصيل عن الأفكار والفلسفات الغازية، سواء تلك التي جاءت في أطرها الغربية الواضحة، أو التي أُلبست لبوسا محليا وطنيا ضمن أحزاب وهيئات شعبية، أو صحف ومجلات، ومنذ ستينيات القرن الماضي كتب على خط المواجهة الفكرية سلسلة بعنوان "حتمية الحلّ الإسلامي" في ضوء الصراع الفكري الحاد الذي قسَّم الشعوب المسلمة وفي المقدمة الشعوب العربية، والحلول المستوردة وتجنيها على الأمة.
وقد تحدث عن "ماركسية لينين" أو القومية المنزوعة منها روح الإسلام، والعلمانية المناهضة للدين، كما كتب عن فكر حزب البعث وآثاره المضرة سياسيا وشعبيا، مع تفنيد حجج المناوئين للحل الإسلامي أو المنهج الإسلامي، وتحدث عن سوءات العلمانية المتطرفة منها على وجه الخصوص في بعض الدول التي حاولت محو وإزالة الذاكرة الإسلامية لشعوبها.
في المقابل، وقبل أن يكون من أهل الفكر، هو من أهل العلوم الشرعية وأزهري، أي أن علمه بأصول الدين وفروعه يسبق علمه بالقضايا الفكرية العامة التي تغيم على العقول، وإن جانب التبليغ الديني كان الجبهة الأولى التي ناضل من خلالها فضيلته، في أبعاده العقدية والفقهية والسلوكية، فتصدى لكل ما لاحظه من انحرافات من مبتدع أو جاهل أو مغرض، ليعود الإسلام ناصعا نقيا من كل شائبة، ومما كتب سلسلة رسائل "عقائد الإسلام" و"ترشيد الصحوة".
كما جمع ضمن سلسلة "نحو وحدة فكرية للعاملين للإسلام" المجالَين الفكريين؛ الجانب التبليغي الأساسي من حيث أصول الفهم والتقيد الكامل بالكتاب والسنة في الاستنباط، والموقف من المفرطين الحرفيين والمفْرطين من المتصوفة بجعلهم الرؤى والكشف وما يرونه في المنام أدلة شرعية، ويحكم عليهم بأنه ضلال مبين، وذلك في كتابَيه "المرجعية العليا للكتاب والسنة" و"موقف الإسلام من الإلهام والكشف والرؤى".
وتحدث عن جانب المواجهة الفكرية الحديثة وتجزئة الإسلام بـ"قبول بعضه وردّ بعض آخر منه"، في كتابه "شمول الإسلام" و"المواجهة بين الإسلام والعلمانية".
وما كان غافلا عن الانحرافات العقائدية التي أصابت أهل الأديان الأخرى وتبيان قصورها، والمسيحية خاصة؛ لأنها الأخطر، نظرا للعمل الجاد الذي يقوم به دعاتها ومبشروها لارتداد المسلمين، وحواراته الدينية مع القساوسة تندرج ضمن هذا المسار. ويتبين ذلك من خلال رسالته "موقف الإسلام من كفر اليهود والنصارى"، حيث بيّن أننا نعتقد كفرهم بديننا، كما يعتقدون كفرنا بدينهم، وهذا من حقهم كما هو من حقنا.
فلم يكن حاطب ليل ولا متساهلا تجاه الانحرافات في أي جبهة كانت. وكان مرنا في التبليغ، رفيقا في التوضيح، لكن من دون قبول الاعوجاج، فحديثه عن الجهاد الفكري في مواجهة الفلسفات الحديثة هو حديث عن اللحظة التاريخية التي يعيشها المسلمون، وسير على منهج العلماء الكبار في التصدي لكل عملٍ آنيّ يستهدف الإسلام في أي جانب منه.
ويرى في مقاومة الابتداع والانحراف الفكري في الفهم ميدانا من ميادين الجهاد، فيقول عن الابتداع "أن يزيد [في الدين] ما لا تقبله طبيعته في عقيدته أو شريعته أو أخلاقه، أو تقاليده، أو يدعو إلى مفاهيم تتناقض مع عقائده أو شرائعه أو قيمه"، وهذا يكون في جانبين: القول والفعل.
القول: ما يتعلق بالاعتقاد والأفكار، والفعل ما يتعلق بالعمل والسلوك.
وأثر القولية أشدّ خطرا من البدعة العملية السلوكية، لأن البدعة الفكرية العقيدية تفسد الأديان، أما الفعلية والسلوكية (المعصية) فهي تفسد الإنسان، وإفساد الأديان أكثر تخريبا، لأن إفساد الإنسان يأتي بالتبع بعد أن يكون دينه فاسدا، "فإن الإنسان لا يستقيم سلوكه وعمله إلا إذا استقام اعتقاده وفكره وتصوره، فإذا اعوج هذا الاعتقاد أو الفكر أو التصور؛ اعوجّ العمل والسلوك لا محالة، إذ لا يستقيم الظل والعود أعوج!".
إن الفساد في العقيدة سبب لكثير من الفتن والصراعات التي حدثت في تاريخنا الإسلامي وفرقت الأمة الواحدة إلى طوائف وفرق، يُفسّق بعضها بعضا، بل يكفّر بعضها بعضا. وقد يتطور التشدد ويصل إلى العنف والاقتتال الداخلي والكل يستند إلى الدين، لكن الفاسد منه.
ويرى القرضاوي -رحمه الله- أن الاقتتال الذي مزّق أوصال المسلمين من خوارج وغير الخوارج، لم يكن من تعمد العصيان لله تعالى، ولا من سوء الخلق أو القصد لمحاربة الدين، فيقول "إن بدعة الخوارج لم تكن من فساد في السلوك أو تقصير في عبادة الله، فقد كانوا صوّامين قوّامين قرّاءً للقرآن" كما جاء في الحديث الصحيح. ومع هذا وصفهم (أي الحديث) بأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميَّة.. لهذا يقر ابن تيمية في أحد المباحث في فتاواه أن أهل البدع شرّ من أهل المعاصي الشهوانية بالسنة والإجماع".
ويستشهد هنا بأقوال العلماء بأن المعاصي مكشوفة مفضوح أمرها للناس، أما البدع فهي تتستر بثوب الدين.
ومن يريد النظر إلى واقع المسلمين وليس التاريخ منه، يزداد قناعة بضرورة هذا الجهاد الداخلي الفكري، الذي يتعامل مع ما ينبع من الداخل من تلك الانحرافات، والقادم من الخارج مع الغزاة، أو المنقول عبر جسورهم المتغربة.
وقد جمع القرضاوي -رحمه الله- بمنهجه الجامع الشامل، الجهاد في الاتجاهين ولم يغفل عن أحدهما، ما منه تحت عنوان الدين، أو لإزاحة الدين، بعد أسطر قليلة من الحديث عن البدع الدينية، وقد ذكَّر وأعاد التأكيد على أن "أخطر أنواع الغزو الفكري الذي تواجهه الأمة المسلمة اليوم هو: الغزو الفكري الذي لا يحاربنا بالسيف بل بالعلم، ولا يهتم كثيرا بقتل الأفراد، بل بقتل المجتمعات.. إن الأفكار العلمانية التي تنادي بفصل الدين عن الحياة والمجتمع، والليبرالية التي تنادي بالحرية المطلقة والشذوذ والانحلال، والماركسية، كلها ثمرة لهذا الانحراف الفكري والاعتقادي"، وهو ميدان من ميادين الجهاد الداخلي الذي لا يكون بالسلاح ولا بالرمي.
.....
- المصدر: الجزيرة نت، 5-9-2023
- المنهج الوسطي للإمام القرضاوي في فقه الجهاد (1)