مقدمة

الحمد لله وحدَه، صدَق وعدَه، ونصر عبدَه، وأعزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، وأزكى صلوات الله وتسليماته على مَن لا نبيَّ بعده، الذي أخلص لله عمله وقصْده، وبذل في الدعوة إلى الله جُهْده، وتحمَّل في الجهاد والثبات على الحق جَهْده، فأعدَّ العُدة، وعقد العقدة، ووفَّى العُهدة، وأعطى الزُّبْدة، وعلى آله وصحبه الذين حفظوا عهده، وذكروا ودَّه، وآتاهم الله رشده، وعلى مَن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

(أما بعد)

فهذا كتابنا في فقه الآداب الشرعيَّة، الذي سمَّيناه: «أدب المسلم مع الله والنفس والناس والحياة»، وهو جزء من سلسلة: «تيسير الفقه للمسلم المعاصر في ضوء القرآن والسنة»، وهو جزء من الكتاب الأكبر من محور الفقه في موسوعة أعمالنا الكاملة الذي يصور شمول المنهج الإسلامي وتنوعه وتوسُّعه، كما يصور توازنه وتكامله، ووسطيَّته واستقامته التي أشار إليها القرآن الكريم بقوله: {والسَّمَاءَ رَفَعَهَا ووضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوا فِي الْمِيزَانِ * وأَقِيمُوا الْوزْنَ بِالْقِسْطِ ولَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}[الرحمن:7-9]. وقوله سبحانه: {وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}[البقرة:143].

كما يشير إلى علوه وسُمُوه بالدعوة إلى الحق والخير والجمال، التي تتمثل في الدعوة إلى الله الرحمن الرحيم، وإلى كل كمالات الإسلام والإيمان والإحسان.

ومن يقرأ ما كتبناه عن أدب المسلم، أو عن الآداب الإسلامية المتكاملة، وارتباطها بسائر أنواع السلوك؛ يتبيَّن له بحق: أنَّ الإسلام هو المنهج الذي رسمه اللهُ للمسلمين: أفرادًا وأسرًا، وجماعات وأمة، شبابًا وشيوخًا، رجالا ونساءً، ريفًا ومُدُنًا، وبدوا وحضرًا، ليسيروا عليه في حياتهم كلها: حياتهم الفردية، وحياتهم الاجتماعية. حياتهم الدينية والروحية، وحياتهم المادية والدنيوية. وهو المنهج الذي طلب الله تعالى من المسلم أن يسأل ربه في كل يوم سبع عشرة مرة على الأقل أن يهديه إليه، حين يقرأ الفاتحة في صلواته الخمس: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولَا الضَّالِّينَ}[الفاتحة:6-7].

هذا الصِّراط، أو هذا المنهج، يصحب المسلم في رحلة الحياة كلها، من بدايتها إلى نهايتها، مِن لحظة الميلاد إلى ساعة الوفاة، وخصوصًا من ساعة التكليف، ولهذا وجدنا في الإسلام تشريعاتٍ وتوجيهات تتعلق بالمولود منذ رؤيته لنور الحياة، مثل: الفرح به، وحمد الله على ولادته بسلام، وقيام أمِّه بالسلامة، وتسميته، واختيار أحسن الأسماء له، والاحتفال به، والذبح عنه، وهو ما يُعرف باسم «العقيقة»، وغير ذلك من أحكام، جمعها الإمام ابن القيم في رسالة سمَّاها: «تحفة المودود في أحكام المولود». بل هناك أحكام شرعية تتعلق بالإنسان، وهو جنين في بطن أمه، أي قبل أن يولد ويعرف له اسم، كالأحكام التي تتعلق بالمرأة الحامل، والمحافظة على الجنين، وعلى حياته، فلا يجوز لها أن تجهض حملها عمدًا، ولو جاء من حرام، فهو لا ذنب له، وإن كان صوم رمضان يضرها أو يضره؛ فلا يجوز لها أن تصوم.. إلى غير ذلك من الأحكام. ولهذا رأينا الرسول الكريم يرجئ عقاب المرأة الغامدية، حتى تلد طفلها، ويصبح في الإمكان استغناؤه عنها.

ولقد عبَّر الإمام الشهيد حسن البنا، عن شمول المنهج الإسلامي، فقال وأجاد فيما قال: إنها الرسالة التي امتدت طولًا حتى شملت آباد الزمن، وامتدت عرضًا حتى انتظمت آفاق الأمم، وامتدت عُمقًا حتى استوعبت شؤون الدنيا والآخرة.

الامتداد الطولي للمنهج الإسلامي:

ويظل الإسلام يصحب الكائن الإنسانيَّ في أطواره كلِّها: في مهده ورضاعه وفطامه، وتربيته وتعليمه وتغذيته، وإلهامه وإمداده، وتدريسه وتدريبه وتفقيهه، في صباه وشبابه، ويفاعته ورجولته، وكهولته وشيخوخته، بما فيها زواجه وإنجابه، ومعاشه، وعمله الديني والدنيوي، حتى يدخل القبر.

ومن ذلك: صحته ومرضه، في جسمه ونفسه، ووقايته وعلاجه، فردًا ومجتمعًا وأمة، حتى يقوم بكل ما يحتاج إليه، وما يُتطلَّب منه من أقوات ومأكولات ومشروبات وملابس ومساكن وأدوات للسلم وللحرب، ولكل ما هو لازم أو مطلوب للإنسان.

والأحكام التي تتعلق بالمرض والاحتضار، وتلقين الشهادة، والوفاة، والتغسيل والتكفين والصلاة والدفن، معروفة لدى عامة المسلمين، وهي التي تُعرض في الفقه الإسلامي تحت عنوان: «أحكام الجنائز«.

الامتداد العرضي والأفقي للمنهج الإسلامي:

وكما يصحب الإسلامُ المسلمَ – طُوليًّا أو رأسيًّا أو زمنيًّا – عُمُرَه كله، يصحبه عَرْضيًّا أو أفقيًّا أو مكانيًّا في مجالات حياته كلها كذلك: في البيت، وفي المسجد، وفي المدرسة والجامعة، وفي السوق، وفي المزرعة، وفي المصنع، وفي المكتب، وفي المتجر، وفي كل عمل، يصحبه حين ينام، وحين يستيقظ، وحين يعمل ويكدُّ لدنياه، وحين يلهو ويُروح عن نفسه، وحين يتعبَّد لربِّه، وحين يتعامل مع خلقه، وحين يتعلم ويتثقَّف، وحين يسافر، وحين يُقيم، وحين يغدو ويروح، وحين يتعب، وحين يستريح. يشعر في ذلك كله أنه ملتزم بمنهج لا يجوز له التَّخلِّي عنه، أو الانفلات منه، بل يتلو دائما قول ربِّه: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ومَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلَاتِي ونُسُكِي ومَحْيَايَ ومَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأنعام:162،161].

الامتداد العمقي للمنهج الإسلامي:

وكما يمتدُّ الإسلام في حياة المسلم طُولًا وعَرْضًا، يمتدُّ فيها عُمْقًا، فهو ليس مع المسلم في أحواله المادية والظاهرية فحسب، التي يُعنى بها رجال القانون، ولكنه مع المسلم أيًّا كان وضعه، من ذكر أو أنثى، من حاكم أو محكوم، من غني أو فقير؛ في كل شؤونه وأحواله، الماديَّة والروحيَّة، والفكريَّة والاجتماعيَّة، والاقتصاديَّة والبيئية، إنه مع المسلم بأوامره ونواهيه، وتشريعاته ووصاياه، في تفكيره وثقافته، وفي عواطفه ومشاعره، في أكْلِه وشُربه، وفي مَلْبَسه، وفي زِينته، وفي مِشيته وجِلسته، وفي فرَحه وحُزنه، وفي ضَحِكه وبكائه، وفي نومه ويقظته، وفي جِدِّه وهزْله، وفي خلوته وجلوته.

لا يغفل الإسلام أن الإنسان مخلوق ركَّبه الله تركيبًا عجيبًا، فهو مخلوق من طين، والطين لا يخلو من الكَدَر، ولكنَّ الله سواه ونفخ فيه من روحه، حين طلب من الملائكة أن تسجد تحية له، وطرد إبليس من حضرته حين رفض ذلك. قال تعالى: {وإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَويْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ* قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَومِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَومِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَومِ الْوقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْويْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ولَأُغْويَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ}[الحجر:28-41].

إنَّه مع المسلم في علاقته بنفسه، وفي علاقته بربِّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وفي علاقته بأسرته، وفي علاقته بجيرانه وعُشَرائه، وفي علاقته بمجتمعه وأمته، وفي علاقته بأهل مِلَّته، وفي علاقته بمخالفي دينه، وفي علاقته بالعالم من حوله، مسالمين ومحاربين، وبالكون كله: أرضه وسمائه، ما يُرى وما لا يرى، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْهَا زَوجَهَا وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا ونِسَاءً واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[النساء:1].

إنَّ هذا الدين هو منهج الله للإنسان، أي: للإنسان كله: الإنسان رُوحًا، والإنسان جسمًا، والإنسان عقلًا، والإنسان وجدانًا، والإنسان إرادة، الإنسان فردًا، والإنسان في أسرة، والإنسان في جماعة، والإنسان في دولة، والإنسان في أمة، والإنسان في محيطه العالمي. فهو يشرِّع له ويوجِّهه في كل أحواله، وفي أموره كافَّة؛ حتى لا يتِيهَ في الدرب، ولا تتفرَّق به السُّبل، كما قال تعالى: {وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ولَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[الأنعام:153].

المسلم مقيَّد بشرع الله في كل حياته:

إنَّ المسلم مقَيَّد بحدود الله وأحكامِه وتعليماته في حياته كلها: في ثقافة فكره، وعواطف قلبه، وسلوك جوارحه. وبعبارة أخرى: في اعتقاداته وأفكاره، وشعائره وعباداته، وحلاله وحرامه، ومشاعره وأقواله، وأعماله وأخلاقه، في حبه أو كرهه، في سلمه وحربه، إذا تعامل مع أصدقائه أو مع أعدائه، مع أقرب الناس إليه، أو أبعد الناس عنه. فهو إذا تعلَّم أو فكَّر أو تعامل بعواطفه، مُقيَّد بأمر الله ونهْيه، أي: بشرع الله. قال تعالى: {ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ومَنْ يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}[الأحزاب:36].

وهو إذا أحبَّ أو كَرِه، رضِيَ أو سخط، فرح أو حزن، قبل أو رفض؛ مقيَّد بشرع الله، ولهذا جاء في الحديث: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به". وقال صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كُنَّ فيه، وجد حلاوة الإيمان: أن يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه ممَّا سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبُّه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله، كما يكره أن يقذف في النار".

فهو يفرح بكل ما يناله هو أو من يحبه من خير، فرحَ المؤمنين لا فرح المستكبرين، الذين يفرحون بالماديات وحدها دون أن يؤدوا حقها، كفرح قارون الذي نصحه قومه وقالوا: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}[القصص:76]. فبغى على قومه، ومشى في ركاب فرعون، وخسف الله به وبداره الأرض، {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ومَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ}[القصص:81].

وهو يحزن على ما يصيبه من هموم، ولكن لا يُخرجه الحزن عن إيمانه بربِّه، وعن صدقه في سلوكه، {وتَولَّى عَنْهُمْ وقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُو كَظِيمٌ}[يوسف:84]. وقال: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[يوسف:86]. فهو حزن شديد، ولكن لا يفقد صاحبه الأمل، ولا يوئسه من روح الله، ولا من رحمة الله التي وسعت كل شيء، ولذلك يقول تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُو خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[يونس:58]. فالفرح المتَّصلُ بالله مطلوب، كما أن فرح المعجب بنفسه، والفرح بالشر غير مطلوب، كما قال تعالى لأهل النار: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ}[غافر:75].

وهو إذا عبَّر عن فكره أو شعوره، بلسانه أو قلمه، بشعره أو نثره أو رسمه؛ مُقيَّد بشرع الله.

فشرع الله تعالى- أي أمره ونهيه، وحلاله وحرامه- يحكمه في حياته كلها، منفردًا أو مجتمعًا، لا ينفصل هذا الشرع عنه، ولا ينعزل هو عن هذا الشرع؛ لأن الله معه دائمًا، ولا يغيب عنه، كما قال تعالى: {ولِلَّهِ الْمَشْرِقُ والْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُولُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ}[البقرة:115].

وإنْ شرَّق المرء المسلم أو غرَّب، فالشريعة معه توجِّهه حيثما توجه، وتحكمه أينما سار، يمنة أو يسرة، كما قال تعالى لرسوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا ولَا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًاوإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَولِيَاءُ بَعْضٍ واللَّهُ ولِيُّ الْمُتَّقِينَ * هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وهُدًى ورَحْمَةٌ لِقَومٍ يُوقِنُونَ}[الجاثية:18-20].

ربط المسلم بربه دائمًا:

ومن خصائص المنهج الإسلامي: أنه يقصد ويعمل على ربط المسلم بربِّه في كل حين، وفي كل حال، في كل قول أو عمل، فإذا كان كل شيء في هذه الدنيا خلق من أجل الإنسان، ومنفعة الإنسان: {هُو الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}[البقرة:29]، فالإنسان كله قد خلق لله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {ومَا خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ ومَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُو الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوةِ الْمَتِينُ}[الذاريات:56-58].

فلذلك تتميَّز الآداب الإسلامية كلها: في الطعام والشراب، واللباس والتزين، والزواج، والبيع والشراء، والتعلُّم والعمل، والصحبة والسفر، واللهو والترويح، وفي كل شؤون الحياة؛ بالمعاني الربَّانيَّة المرتبطة بها.

ولذلك نجد في كل هذه الألوان من الحياة الفرديَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة وغيرها أذكارًا مأثورة، تصل المرء بربه، وترطب لسانه بذكره، وقلبه بمحبته.

فهو يبدأ طعامَه باسم الله، ويُنهيه بالحمد لله، وكذلك شرابه، وكذلك لباسه، وتجمله، يبدأ بذكر الله تعالى المناسب له، الذي ينبغي أن يحفظه ويذكره في كل مناسبة له، كما ذكر لنا القرآن نموذجًا، فقال: {والَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّهَا وجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ والْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَووا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَااسْتَويْتُمْ عَلَيْهِ وتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا ومَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}[الزخرف:12-14]. فهو إذا ركب الدابة أو السفينة ذكر الله، وكذلك إذا ركب السيارة أو القطار أو الطائرة أو ما هو أسرع، ذكر الله.

الإسلام هو دين الله الواحد:

والإسلام هو دين الله تعالى الواحد، الذي أنزل به كتبه، وبعث به رسلَه، حسب حاجة الخلق، منذ خلق الله آدم أبا البشر، إلى أن ختم رسله بمحمد عليه وعليهم الصلاة والسلام. اتفقت رسل الله وأنبياؤه جميعًا على أصوله العقديَّة والأخلاقيَّة، وجعل لكل منهم شرعةً ومنهاجًا، كما قال تعالى في كتابه الخالد، الذي أنزله على نبيِّه الخاتم: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وصَّى بِهِ نُوحًا والَّذِي أَوحَيْنَا إِلَيْكَ ومَا وصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ ومُوسَى وعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}[الشورى:13]، وقال تعالى في سورة أخرى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً ومِنْهَاجًا}[المائدة:48].

لهذا كانت عقائد الأنبياء، وقيمهم الأخلاقية الكبرى واحدة، وإنما تختلف شرائعهم، ولذا قال المسيح لليهود: {ومُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّورَاةِ ولِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}[آل عمران:50].

وجاء الإسلام بالشريعة العامَّة الخالدة، التي نسخت كل الأحكام المرحلية، التي جاءت بها الشرائع السابقة، وكل الأحكام التي كان تشريعها لظروف خاصَّة، كالمحرَّمات التي حرمت على اليهود، جزاء على ظلمهم وبغيهم، كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وأَخْذِهِمُ الرِّبَا وقَدْ نُهُوا عَنْهُ وأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْبَاطِل}[النساء:160،161].

ولهذا أعلن عن شريعة محمد في كتب الأقدمين، من قبل أن يبعث، بما وصفه القرآن: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّورَاةِ والْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ويَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}[الأعراف:157].

هذا الإسلام العظيم، الذي حُفِظَ كتابُه المُبين: القرآن الكريم، فبقي كما أنزله الله تعالى، {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}[هود:1]. وتكفَّل الله سبحانه بحفظه، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:9].

وامتنَّ سبحانه به على الأمة فقال: {الْيَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة:3].

قال أُنَاس من اليهود: لو نزلتْ هذه الآية فينا لاتَّخذنا ذلك اليوم عيدًا. فقال عمر: أيَّة آية؟ فقالوا: {الْيَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة:3]. فقال عمر: إني لأعلم أي مكان أنزلت، أنزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة. أيَّ: أنزلت في يوم العيد في حجة الوداع.

وأعلن القرآن أن كل الرسل والأنبياء من قبلُ كانوا مسلمين.

فشيخ المرسلين نوح قال لقومه: {وأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[يونس:72]، وإبراهيم قال الله في شأنه: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا ولَا نَصْرَانِيًّا ولَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا ومَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[آل عمران:67]، {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[البقرة:131].

ويعقوب مع إبراهيم وبنيه مسلمون: {ووصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ ويَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[البقرة:132].

ويوسُف قال لربِّه: {تَوفَّنِي مُسْلِمًا وأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[يوسف:101].

وموسى قال لقومه: {وقَالَ مُوسَى يَا قَومِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}[يونس:84].

والمسيح قال لقومه: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ واشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[آل عمران:52].

والأنبياء في العصور كافة كانوا يدعون الناس إلى الإسلام، لا إلى أنفسهم أو أقوامهم أو مصالحهم، هذا هو شأن كل نبي، {ولَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ والنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران:80].

ولذا أعلن الله عز وجل هذه الحقيقة الناصعة، التي أصبحت قاعدة عامَّة للبشرية كافة: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}[آل عمران:19].

كما قال تعالى: {ومَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وهُو فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[آل عمران:85].

وإذا كان الناس في عصورهم المختلفة، قد بدا لهم أن يغيِّروا في حقائق هذا الدين الواحد، بما فيه من معتقدات ومفاهيم، وعبادات ومعاملات، وتشريعات وأخلاقيات، فقد شاء الله أن يبعث رسوله محمدًا، ويختم به الرسل، ليجدد هذا الدين الواحد، الإسلام الذي بعث به كل الرسل، ويُجلي أصوله، ويُرسي قواعده، ويشرح أهدافه، ويقيم أمَّته، ويُعلي حجته، ويرفع رايته، {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء:92].

منهجنا في هذا الكتاب:

ونحن في هذا الكتاب في سلسلة «تيسير الفقه للمسلم المعاصر في ضوء الكتاب والسنة»، نحاول أن نضع أمام المسلم، رجلًا كان أو امرأة، في الشرق أو في الغرب، من العرب أو من العجم: «فقه الآداب الإسلامية»، التي هي جزء أساس من الفقه الإسلامي المطلوب للمسلم وللحياة الإسلامية.

ولهذا سمَّيناه «أدب المسلم مع الله والنفس والناس والحياة»، وهو أدب عُنيَ به الإسلام، في قرآنه وسنَّته، وعُني به الصحابة وتابعوهم بإحسان رضي الله عنهم، وعُني به علماء الأمَّة على اختلاف تخصُّصاتهم، فقهاء ومفسِّرون ومحدِّثون ومتصوفة، وإن لم يفردوا هذه الآداب بصورة واضحة، في الفقه الإسلامي، ولكنهم ذكروا أجزاء منها في كتب الفقه، في أبوابه المتفرقة، وبعضها جمعوها في أبواب خاصة، وبعضها ألَّفوه في كتب مستقلة، تشمل الآداب خاصة، كما فعل الإمام محمد بن مفلح الحنبلي «ت762هـ»، الذي قال فيه ابن القيم: لا يوجد تحت قبة الفلك، أعلم منه بمذهب أحمد. والذي ألف كتابه الشهير: «الآداب الشرعية والمنح المرعية»، ونشره العلامة السلفي المجدد الشيخ محمد رشيد رضا، ثم نشرته دار الرسالة في بيروت بتحقيق الشيخ العالم المحقق: شعيب الأرناؤوط، والدكتور المحقق عمر حسن القَيَّام.

وقد انتفعنا بهذا الكتاب ما وسِعنا، وانتفعنا بالكتب الأخرى، مثل «الإحياء» للإمام أبي حامد الغزالي «ت505هـ»، فقد عُني في الربع الثاني من الكتاب بهذه الآداب، فقد جعل الربع الأول في العبادات، وجعل الربع الثاني في المعاملات، وبعضها في أسس الآداب مباشرة، وبعضها في مفاهيم أخرى، وإن كان لها صلة ما بهذه الآداب، مثل الحلال والحرام، والعزلة والاختلاط، ونحوها.

وقد استفدنا كثيرًا ممَّا كتبه الإمام الغزالي في هذه الآداب، ولكن تركنا الأحاديث الواهية والضعيفة والمكذوبة وما لا أصل له من كتابه، وكذلك المبالغات المبنيَّة على هذه الأحاديث، ومثلها ما بُني على الإسرائيليَّات والمنامات، وما لا يعتد به عند الراسخين، وما عدا ذلك استفدنا منه، ولم نجد في ذلك أي غضاضة.

كما استفدنا من كتاب الإمام ابن القيم في كتابه: «زاد المعاد في هدي خير العباد» وغيره من الكتب.

وقد بدأنا كتابنا هذا بتمهيد طويل عن «الأدب» الذي هو موضوع هذا الكتاب، الذي اهتمَّ به أولًا علماء الحديث، وجعلوا في كتبهم: كتاب الأدب كما في البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. وألَّف الإمام البخاري كتابًا خاصًّا سمَّاه: «الأدب المفرد»، وكانت بدايتهم من الحديث المشهور: "أدَّبني ربي فأحسن تأديبي" وحوله دندنوا.

كما عُني المتصوفة بالأدب، وتحدَّثوا عنه في كتبهم ومؤلفاتهم الخاصة، وصنفوه ضمن «منازل السائرين» إلى مقامات {إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين}، كما فعل الإمام الهروي (ت481هـ) في رسالته التي شرحها الإمام ابن القيم (ت751هـ)، على منهج شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية (ت728)، في كتابه: «مدارج السالكين»، وقد استفدنا منه، ومن كتب ابن القيم كلها، ومن مدرسة ابن تيمية، وعلمائها الأفذاذ.

وكذلك عُنِي بالأدب علماء اللغة العربية وآدابها، وانتقلت الكلمة إليهم، لتضيف لهم علمًا كبيرًا واسعًا، يسمَّى: «علم الأدب«.

وقد أُلِّفَتْ فيه الموسوعات الأدبيَّة قديمًا وحديثًا، من شعر ونثر ورسائل ووصايا وقصص وروايات ومقامات، ممَّا قدُم وما حدث. وما لا يزال يتصبب علينا سيولًا وأغادير، منها ما يروي، ومنها ما يُغرق، ومنها ما يصفو، ومنها ما يكدُر.

وواضح اختلاف معنى الأدب عند اللغويين عنه عند الشرعيين.

ولكل شريحة من شرائح المجتمع في ديننا آداب تخصها، مثل: أدب العالم، وأدب المتعلم، وأدب القاضي، وأدب الوزير، وأدب الكاتب، وأدب المدرس، وأدب الفقيه، وأدب المفتي والمستفتي، وأدب المملي والمستملي، وأدب المعيد، وأدب المناظرة، وأدب الكلام، وأدب الضيافة وأدب المائدة، إلى آخره.

وفي هذا الكتاب تحدَّثتُ بعد التمهيد الطويل عن الأدب وأهميته ووسائل اكتسابه، وعن الملامح العامة للآداب الإسلامية: من ملاءمة الفطرة السليمة وتكميلها، وترقية الذوق الإنساني، والارتفاع بالإنسان عن مستوى الغرائز الحيوانية، ومن درك الأنانية إلى الأخوة والإيثار، والحرص على تميز المجتمع المسلم بمظهره ومخبره عن غيره من المجتمعات، وتكافله في رعاية هذه الآداب وحمايتها، ومسؤولية الدولة عن تعهد هذه الآداب وحراستها، وربط الإنسان بربه في كل أحواله وأحيانه.

 ثم تحدثنا عن جملة كبيرة من هذه الآداب المهمَّة، وأطلنا في الحديث عنها حتى نُوفِّيها بعض حقَّها. وإن كان كل أدب منها يستحق أن يؤلف فيه كتاب خاص، فلا عجب من تطويلنا فيها، فهي تستحق.

وبدأنا بأول الآداب وأهمها وذروتها: الأدب مع الله تعالى، وألحقنا به الأدب مع رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو تتمة له.

ثم أتبعته ببعض آداب المسلم مع نفسه: أدب التبصُّر في تكوين الرأي، وأدب التمسك بالحق والثبات عليه.

ثم عن أدب المسلم في الحياة اليومية: أدب النوم واليقظة، وأدب الطعام والشراب، وأدب المشي في الطريق، وأدب الجلوس، وأدب اللباس والزينة.

ثم عن أدب المسلم في الأسرة: أدب الخطبة، وأدب الزواج والزفاف، وأدب العشرة الزوجية، وأدب الطلاق والفراق، وأدب التعامل مع الوالدين، وأدب التعامل مع الأولاد، وأدب التعامل مع ذوي القربى.

ثم عن أدب المسلم في الحياة الاجتماعية: أدب التعامل مع الضعفاء من اليتامى والمساكين وأبناء السبيل وما ملكت الأيْمان، وأدب الجوار، وأدب الصحبة والصداقة، وأدب الزيارة، وأدب التحية والسلام، وأدب المجالس، وأدب الحديث، وأدب الضحك والمزاح واللهو، وأدب الصحة والمرض، وأدب السفر والارتحال، وأدب الكسب والاحتراف، وختمت الآداب بالحديث عن أدب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولما كنتُ قد كتبتُ عن جملة كبيرة من الآداب في ثنايا كتبي، اكتفيت بما كتبتُ هناك بما يغني عن إعادته، وأحيل القارئ الكريم إليه في مواضعه: مثل: آداب العبادة وشمولها في «العبادة في الإسلام»، وآداب العلم في كتبي: «الرسول والعلم»، و«الحياة الربانية والعلم»، و«العقل والعلم في القرآن الكريم»، وآداب التعامل مع القرآن الكريم في «كيف نتعامل مع القرآن»، وآداب الجهاد والمجاهدين في كتاب: «فقه الجهاد»، وآداب الاختلاف في «الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم»، وآداب البيئة في «رعاية البيئة في شريعة الإسلام»، وغير ذلك من الآداب الإسلامية مما تناولته في خطبي ومحاضراتي وبرامجي ولقاءاتي.

ولا نعدُّ أنفسنا قد استوفينا جميع الآداب التي تلزم المسلم في حياته، ولكن حسبُنا أننا وضعنا أمامه أهم هذه الآداب، ليتأدب بها، ويتعلَّم منها، ويتخذها نبراسًا لحياته، حتى يفلح سعيه، ويصلح عمله، وتربح تجارته في الدنيا والآخرة. كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وأَقَامُوا الصَّلَاةَ وأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ ويَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ}[فاطر:30،29].

وهكذا نرى المسلم في حضَره وسفره، وفي يقظته ونومه، وجوعه وشبعه، وفي ضحكه وبكائه، وفي فرحه وحزنه، وفي تعبُّده الديني، وفي عمله الأسري، وعمله الثقافي، وعمله الاجتماعي، وعمله السياسي؛ له أدب مع ربه في كل حالة، يحفظه ويردده بلسانه وقلبه، ويقوم به بجوارحه وعقله، سائلًا ربَّه المغفرة والرحمة، وطالبًا منه النصرة والمعونة، {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ ومِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي ولِوالِدَيَّ ولِلْمُؤْمِنِينَ يَومَ يَقُومُ الْحِسَابُ}[إبراهيم:41،40].

{رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وبَيْنَ قَومِنَا بِالْحَقِّ وأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ}[الأعراف:89].

{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانْصُرْنَا عَلَى الْقَومِ الْكَافِرِينَ}[آل عمران:147].

فالمسلم– كما أشرنا– إذا تحرَّك بجوارحه لعمل ما، مقيَّد بشرع الله، مُبْتغٍ وجْهَ الله، ساعٍ إلى رضاه. فهو مخلوقٌ ربَّانيُّ الأساس، إنسانيُّ الوجْهة، عالَمِيُّ الهدف، أخلاقيُّ الغاية، إيمانيُّ الروح.

المسلم كل المسلم في عباداته، وفي معاملاته، وفي آدابه، وفي أخلاقه، وفي كل أنواع سلوكه: مع ربه، ومع نفسه، ومع أسرته، ومع مجتمعه، ومع أمته، ومع مخالفي ملته، مع المسالمين والمحاربين؛ ملتزم كل الالتزام بما يقيِّده به الإسلام، ولا يقيِّده الإسلام إلا بالحق والخير والجمال، حتى يرضى بالله تعالى ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبالقرآن إمامًا، وبمحمَّد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا. ومثل هذا لا يصدر عنه إلا كل ما ينفع الناس ويمكث في الأرض.

{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوهَّابُ. رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَومٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}[آل عمران:8-9].

{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ولَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[الحشر:10].

{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَو أَخْطَأْنَا رَبَّنَا ولَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا ولَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ واعْفُ عَنَّا واغْفِرْ لَنَا وارْحَمْنَا أَنْتَ مَولَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَومِ الْكَافِرِينَ}[البقرة:286].

 

الدوحة      الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته

            يوسف بن عبد الله القرضاوي