في صيف 1989م، دعيت لزيارة البرازيل في أمريكا الجنوبية، والتقاء المجموعة الإسلامية فيها، وخصوصًا في مدينة «ساو برناردو» التي تتركز فيها الجماعة أو الأقلية الإسلامية، وخصوصًا من لبنان. وكان الذي وجَّه الدعوة إلي هو الأخ الداعية الكريم الأستاذ أحمد الصيفي، الذي التقيته كثيرًا في عدد من المؤتمرات ممثلًا لمسلمي البرازيل.

من لندن إلى البرازيل:

وقد رتَّبت أموري على أن أذهب إلى البرازيل من لندن، بعد حضوري جلسة مجلس أمناء مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية. ومنها أنطلق إلى مدينة سان باولو، ومنها إلى المدينة المنشودة. وفي المطار وجدت الإخوة يستقبلونني، وقد حملوني إلى مدينتهم، وأسكنوني في أحد فنادقهم.

فصل الشتاء في وقت فصل الصيف:

وهناك فوجئت بأنهم في فصل الشتاء لا في فصل الصيف، فنحن في شماليّ الكرة الأرضية وهم في جنوبيّها، فشتاؤهم صيفنا، وصيفهم شتاؤنا. ولهذا يستورد الناس من عندهم فاكهة الصيف في الشتاء عندنا، والعكس. وهو نفس ما وجدته في أستراليا من قبل.

أقام الإخوة مؤتمرًا دُعي إليه عدد كبير من الجالية الإسلامية في المدينة التي تسكن فيها، وفي غيرها من المدن. وتحدَّث فيه عدد من العلماء، أذكر منهم صديقنا الجليل الشيخ خليل الميس مفتى البقاع في لبنان، الذي كان له تأثير قوي في الحاضرين، ولا سيما من أهل لبنان.

وتحدّثت في المؤتمر، ولا أذكر الموضوع الذي تحدّثت فيه، كما خطبت الجمعة في بلدة أخرى يكثر فيها اللبنانيون. وأذكر أن مضمون الخطبة كان عن واجبات المسلم المغترب، وهي خمسة: نحو نفسه، ونحو أسرته، ونحو إخوانه وجماعته حيث يقيم، ونحو الآخرين من غير المسلمين، ونحو أمته الإسلامية في المشارق والمغارب.

كما نظّم الإخوة محاضرة لي في المدينة الكبرى «سان باولو» في الجامع الكبير فيها، وكان معي على ما أذكر الشيخ خليل الميس أيضا. وحضرت عدّة مرات لقاءات خاصّة مع الشباب الذين يحملون لواء العمل الإسلامي، والدعوة الإسلامية، ومنهم مصريون وفلسطينيون وغيرهم.

زحمة الواجبات المتكاثرة:

كان الأوْلى - وقد زرت هذه القارة الفسيحة - أن أتجول في بعض أقطارها، مثل الأرجنتين وغيرها. فليس من اليسير أن تتاح لي مثل هذه الزيارة إلى بعد زمن يعلمه الله. ولكن الزحمة التي أشكو منها أبدا، زحمة الواجبات المتكاثرة، التي تصطدم بالأوقات المحدودة، جعلتني أعتذر عن عدم تلبية الطلبات التي جاءتني من هنا وهناك. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ضياع الأجيال الأولى من المسلمين:

لم يحدث في هذه الزيارة شيء ذو بال يستحق التسجيل والتنويه. ولكني أردت هنا أن أسجل ملاحظة مهمة بالنسبة للمسلمين في هذه القارة. فإن الجيل الأول، أو قل: الأجيال الأولى من المسلمين، التي بدأت الهجرة إليها، ضاعت تمامًا، وذابت في أهل البلاد، فكثيرًا ما كانوا عزابًا، وتزوَّجوا غير مسلمات، فولد أبناؤهم في بيئة غير إسلامية، الدين غير الدين، واللغة غير اللغة والتقاليد غير التقاليد، والرجال مشغولون، والمرأة هي التي تنشئ على عقيدتها ولغتها ومفاهيمها وتقاليدها، مسنودة بأهلها ومجتمعها.

ولهذا وجدنا من المسلمين من تكثلك، وإن بقى في اسمه ولقه ما يشير إلى أصله، مثل كارلوس منعم، الذي انتخب رئيسًا للجمهورية في الأرجنتين وأصله مسلم سوري. ثم كان الجيل الثاني، أفضل حالاً مما قبله، فبقي متمسكًا بعقيدة الإسلام. وإن لم يكن دائمًا متمسكا بشعائره وبمثله وأخلاقياته وسلوكياته.

أثر الصحوة الإسلامية المعاصرة:

ثم جاءت الصحوة الإسلامية المعاصرة، فردَّت المسلمين في كل مكان إلى الاستمساك، بدينهم، والاعتصام بحبل الله جميعا، والالتزام بالإسلام عقيدة وعملًا، وشعورًا وسلوكًا. وقد أصبح منهم وفيهم الدعاة المرشدون الذين يمسِّكونهم على الصراط المستقيم، ويجنِّبونهم الوقوع في المهالك، ويرشدونهم إلى التجمُّع على دينهم، كما أنشئوا المؤسسات الدينية والتربوية والاجتماعية، التي تحفظ عليهم هُويتهم، وتربطهم بجذورهم، وتصلهم بأمَتهم.

كما أنَّ العلماء والدعاة وأبناء الحركة الإسلامية في المشرق، لم ينسوهم، بل زاروهم، وأشعروهم بذاتيتهم، ونبَّهوهم من غفلتهم، ووصلوهم بإخوانهم في البلاد الإسلامية، فكان اتصالهم بالمسلمين، واتصال المسلمين بهم سببًا في صحوتهم ويقظة عقولهم وضمائرهم، وعودتهم إلى دينهم.